انقضاض الماكرين على ثورة المحرومين
من “سيدي بوزيد” إلى ساحة “محمد علي”…
(الحلقة الأولى)
الطاهر المعز
كانت شعارات شباب “سيدي بوزيد” تعكس مشاغلهم وهمومهم: “الشغل استحقاق ياعصابة السراق”، “لا للطرابلسية اللي نهبوا الميزانية” (لا لآل الطرابلسي – عائلة زوجة بن علي- الذين نهبوا الميزانية)، إضافة إلى المطالبة باحترام كرامة البشر والوطن “شغل، حرية، كرامة وطنية”… كانت المظاهرات عفوية، لم يدع لها أو يشرف عليها حزب أو منظمة. بل كانت تعبيرا عن انفجار ولده الضغط الشديد الذي مارسه النظام طيلة عقود، معتمدا على أدواته العديدة: أجهزة شرطة منتوعة (حوالي 150 ألف شرطي) وحزب حاكم منتشر في كل قرية وحي، وشبكة من الوشاة والمخبرين وحوالي 10 آلاف “موظف متفرغ” للعمل لفائدة الحزب الحاكم وتسدد الدولة والقطاع العام رواتبهم، إضافة إلى “الشعب المهنية” وهي خلايا حزبية داخل المؤسسات، مهمتها مساندة أرباب العمل ومعارضة الحركة النقابية وإفشال النضالات المطلبية.
انتشر خبر المظاهرات والإحتجاجات بواسطة النقابيين من أبناء المنطقة وموظفي المستشفيات التي نقل إليها الجرحى والمصابون، وعمت الإحتجاجات ولاية (محافظة) سيدي بوزيد خلال أسبوع، ثم توسعت إلى ولايات “القصرين” و “قفصة”، والقيروان وصفاقس بعد ذلك. وكانت مقرات نقابة الأجراء “الإتحاد العام التونسي للشغل”، ملجأ للقاء والتشاور الخ. وبعد أحد عشر يوما، تجمع بعض المحامين والمدافعين عن حقوق الإنسان في العاصمة تونس، رافعين شعارات ذات صبغة ديمقراطية، تعكس هموم ورغبات الشرائح العليا من البرجوازية الصغيرة، التي لا تعاني أساسا من البطالة أو انعدام الموارد المالية، وإنما من خنق ومصادرة الحريات الفردية والجماعية، كما اعتصم النقابيون في “ساحة محمد علي” (مؤسس أول نقابة عمالية سنة 1924)، أمام مقر الإتحاد العام التونسي للشغل، دون إذن القيادة (المكتب التنفيذي) أو استشارتها أو مشاركتها.
كانت تلك بداية العمل الجماعي والمنظم، الذي أطاح برأس النظام والرموز المفضوحة، الأكثر فسادا في منظومة لم تتنح رموزها ولم تبتعد أبدا عن الحكم، بل “تكيفت” مع الوضع الجديد، وأصبحت تتكلم باسم “حماية الثورة”. ونحن مهددون اليوم “بالإختيار” بين من حكموا البلاد منذ 1955، ومن حكموها منذ 2011، بين الرجعية التقليدية والرجعية الدينية الممولة خليجيا والمسنودة أمريكيا، وهو ما حدث في مصر والمغرب واليمن.
بين غبار المناجم وعطر الياسمي
أطلقت الصحافة الأوروبية والأمريكية اسم “ثورة الياسمين” على انتفاضة الفقراء والمحرومين في تونس، تيمنا بالأحداث المشبوهة التي أعدتها المخابرات الأمريكية، في بلدان أخرى ومنحتها صفات وألوانا وأشكالا رومانسية، توهم المستمع بالتحليق في فضاء الأحلام الوردية، والبنفسجية والبرتقالية.
انطلقت ثورة المحرومين من مدينة “سيدي بوزيد” (بعيدا عن مدينة “سيدي بوسعيد” السياحية، حيث الياسمين والورود)، من شوارعها الملآى حفرا وترابا وغبارا، يوم 17/12/2010، وقادها شبابها المحروم من العمل، بمشاركة اهالي المدينة، نساء ورجالا، شيبا وشبانا.إنها صيحة غضب عالية، قاحلة وجافة ومرة… لا ياسمين فيها ولا ورود، ولا أزهار… دفع محمد البوعزيزي حياته، قهرا وغضبا والتحق به شوقي الحيدري ومحمد العمري وحسين ناجي… وحوالي 350 شابا، حسب الأمم المتحدة، بعد شهرين ونصف من بداية انتفاضة الغضب… دفعت مدن منزل بوزيان وتالة والقصرين، وغيرها، الثمن غاليا، وهي مناطق محرومة، بعيدة عن السواحل، والمطارات والموانئ، وعن المقومات التي تستهوي المستثمرين، وليس لشبابها مايخسره، غير القيود.
لقد استدان الآباء ليتعلم أبناؤهم في الجامعات، أملا في ارتقاء بعض درجات السلم الإجتماعي، وتحسين الوضع المادي للعائلة، لكن الوضع تغير منذ أكثر من عشرين سنة، ووقعت خصخصة القطاع العام، وقلت الوظائف الحكومية، وأغلق باب الهجرة، وتكاثر عدد المتخرجين الجامعيين، العاطلين عن العمل، وبقي مصعد الإرتقاء الإجتماعي معطلا في الطابق السفي.
تضم مناطق الوسط والجنوب الغربي أكبر نسبة من الخريجين الجامعيين العاطلين عن العمل، وأكبر نسبة من الأميين وأكبر نسبة من الفقراء (ثلاثة أضعاف المعدل الوطني) وأكبر نسبة من وفيات الأطفال ومن وفيات الأمهات أثناء الولادة الخ.
ركز المتظاهرون، طيلة الأيام الأولى لمظاهرات مناطق الوسط الغربي، والجنوب الغربي، على شعارات مثل “الشغل استحقاق، ياعصابة السراق” وأخرى ضد الحزب الحاكم، منددة بالرشوة والمحسوبية والزبونية، والإثراء السريع لبعض المقربين من القصر الرئاسي.
ويسيطر الحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي) على الإدارة والإقتصاد وكل أجهزة الدولة، منذ عهد الحبيب بورقيبة (1956 – 1987)، ومما زاد الطين بلة، استحواذ أفراد عائلتي الرئيس زين العابدين بن علي وزوجته ليلى الطرابلسي على أهم القطاعات الإقتصادية، (اتصالات، نقل، عقارات، مصارف، تجارة، توريد وتصدير…)، مستفيدين من خصخصة المؤسسات العمومية، ومن إزالة ما تبقى من حواجز جمركية أمام الرساميل والسلع الأجنبية. ولما استحوذت “العشيرة” على دواليب الإقتصاد، وأصبحت ترفض تقاسم السوق، تضررت فئات اجتماعية ميسورة (لم تكن تعبر عن قلقها وتذمرها)، من مستثمرين وأرباب عمل وأصحاب مصانع أو مصالح اقتصادية. أضافة إلى الخنق الكامل للحريات، والقمع الممنهج لكل صوت نشاز مهما كان مصدره، أو “اعتداله”. لذلك تركزت الشعارات في الأيام الأخيرة للإنتفاضة على ضرورة إقصاء الحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي) ورموزه، من الحكومة الإنتقالية. وخفت شعار “الشغل استحقاق ياعصابة السراق”. لقد التحقت بأفواج الغاضبين فئات اجتماعية، لها موقع وسطي في المجتمع، فكانت عامل قوة للحركة، غذتها بأعداد كبيرة من المتظاهرين، في مختلف مدن ومناطق البلاد، ومثلت كذلك وفي نفس الوقت، عامل ضعف، إذ انتقل مركز الثقل إلى العاصمة والمدن الكبرى ووتحولت الشعارات من المطالبة بالشغل وتوزيع الثروات إلى حرية التعبير والتنظم والإجتماع… وأهمل الأسباب الحقيقية التي انتفض من أجلها الشباب المحروم والمهمش في المدن الداخلية الفقيرة. وحسمت مشاركة الإتحاد العام التونسي للشغل، والطبقة العاملة الموقف إثر إعلان 3 أيام من الإضرابات العامة الجهوية، أيام 12 و 13 و 14 كانون الثاني 2011. ويبدو أن الإمبريالية الأمريكية بدأت تهيء البديل قبل بضعة أيام.
ملخص للوقائع
احرق “محمد البوعزيزي” نفسه في ساحة عامة، قرب الولاية (المحافظة)، وهي مركز السلطة، في وضح النهار، أمام الملأ، يوم السابع عشر من شهر كانون الأول سنة 2010، احتجاجا على منعه من محاولة كسب قوته، بطرق مشروعة، وإهانته ومنعه من قبل أعوان التظلم. وانطلقت بذلك الشرارة الأولى للتظاهرات والإحتجاجات، وعمت أرجاء الولاية يوم 19 من نفس الشهر، واطلقت الشرطة النار فقتلت شابين، في “منزل بوزيان”، وانتشرت المظاهرات شيئا فشيئا في مدن وقرى المحافظة، ثم في المحافظات المجاورة، “القصرين” وقفصة، وغيرها إلى أن عمت مناطق الجنوب والوسط الغربيين للبلاد.
ومنذ البداية، شارك النقابيون (المحليون) والمدرسون والأطباء والمحامون. في فك الحصار الإعلامي وتنظيم المساندة للمتظاهرين وللمتضررين والمجروحين في المستشفيات الخ.
يوم السابع والعشرين من كانون الأول، فرض النقابيون لأول مرة تجمعا، في العاصمة (تحول إلى مظاهرة)، أمام مقر نقابات الأجراء “الإتحاد العام التونسي للشغل”، وتكلم عضو المكتب النتفيذي، “عبيد البريكي” (الذي كان محسوبا على اليسار، قبل 25 سنة)، معلنا أن “الإتحاد” لا يمكنه أن يتجاهل ما يحصل في جنوب وغرب ووسط البلاد. وفي نفس اليوم تجمع المحامون، ورفعوا شعارات تطالب (لأول مرة) زين العابدين بن علي بالرحيل، وبدأ الصحافيون والمحامون والفنانون، وغيرهم (من الفئات الوسطى) يتجمعون، في وسط العاصمة، رغم القمع الشديد، وبدأ موقف “الإتحاد العام التونسي للشغل” أكثر التصاقا بشعارات المتظاهرين. وأحصى مرصد الحريات النقابية مظاهرات في 23 مدينة في نفس اليوم، وكان المتظاهرون يطالبون بحقهم في العمل، وينددون بالثراء الفاحش لبعض المقربين من السلطة. وتكلم زين العابدين بن علي، من خلال التلفزيون، يوم الثامن والعشرين من كانون الأول، لتهدئة الأوضاع، مع تهديد مقنع، وراء ادعائه بأنه تسلم الرسالة وفهم محتواها. وزار محمد البوعزيزي في مستشفى معالجة الحروق الخطيرة في مدينة “بن عروس” (الضواحي الجنوبية للعاصمة)، واستقبل عائلته. (توفي محمد يوم 4 كانون الثاني 2011 متأثرا بحروقه). ولكن المظاهرات لم تنقطع بل شملت كافة أرجاء البلاد وضمت فئات اجتماعية جديدة (الشرائح الوسطى)، وأصبحت الشعارات مناهضة للنظام ككل، بعد أن كانت تستهدف رأسه.
تدخل الرئيس المخلوع مرة ثانية من خلال شاشة التلفزيون، يوم العاشر من يناير 2011، ليعلن أن إرهابيين ملثمين، عملاء للخارج، يقومون بأعمال عنف ويعتدون على أملاك المواطنين وعلى المؤسسات والمصالح العمومية. والحقيقة أنه أطلق العنان لوحدات الشرطة الخاصة، التي تخضع مباشرة لأوامره، إضافة إلى مليشيا الحزب الحاكم، الذي يتحكم في كافة دواليب الدولة. قامت هذه العصابات المسلحة بالإعتداء على المواطنين، وسرقة المحلات التجارية والمصارف، وإحراق بعض المؤسسات الإدارية، تحت أنظار الشرطة، خصوصا في مناطق الوسط والجنوب الغربيين، والضواحي الفقيرة للعاصمة.
كانت هذه الأعمال الهمجية حافزا للمواطنين لتنظيم أنفسهم من خلال لجان شعبية لحماية الأحياء التي يقطنوها، وتنظيم شؤون الحياة اليومية، وهي تجربة غيرت نوعية العلاقات بين المواطنين، وأثبتت قدرتهم على الإبداع والإبتكار، حين يفسح لهم المجال. وبعد أربعة أيام فقط رحل الرئيس السابق وغادر البلاد، باحثا عن ملجأ يؤويه، هربا من الشعب الذي حكمه لمدة 23 سنة بالحديد والنار، إضافة إلى السنوات السابقة التي كان خلالها مسؤولا عن الأمن في عهد سلفه الحبيب بورقيبة. وليس صدفة أن يلجأ إلى السعودية، حيث يحكم رموز الرجعية العربية والعمالة للإمبريالية.
مثلت الأيام الأخيرة من شهر كانون الثاني (يناير) 2011 منعرجا هاما، إذ أرسلت الإمبريالية الأمريكية مبعوثها “جيفري فلتمان”، الذي كان مقررا أن يبقى في تونس يوم 24 وجزءا من يوم 25 كانون الثاني، ويذهب إلى مصر، لكنه بقي في تونس حتى يوم 26 وذهب من تونس إلى باريس ليبحث مع شركائه الفرنسيين في الرئاسة ووزارة الخارجية، الوضع في تونس. ولم يذهب إلى مصر، إذ انطلقت يوم 25 كانون الثاني مظاهرة ضخمة، فتحول إلى القاهرة سياسيون من الوزن الثقيل (جون كيري، وفرنك جي وسنر)، وإن كان لجيفري فلتمان باع طويل في التخطيط لتدمير الدول، كما فعل في لبنان، قبل سنوات. ووضعت أمريكا كل ثقلها (بالتشاور مع الدول الأوروبية) لتلافي الحل الأسوأ بالنسبة لها، وضحت برأس النظام، للمحافظة على جوهره الرجعي، واستفادت من العلاقات الودية التي نسجتها منذ سنوات مع أعلب مكونات “18 اكتوبر” و”المجلس الوطني للحريات” وبعض قيادات المجتمع المدني والأحزاب (من مختلف الأطياف منها “النهضة” الذي أصبح “حزبا حاكما” و”الديمقراطي التقدمي”، الذي شارك في الحكومة المؤقتة، ثم أصبح معارضا).
اتسعت رقعة المظاهرات، رغم إعلان حالة الطوارئ ومنع الجولان، وأصبح المتظاهرون يجوبون شوارع العاصمة نهارا، والضواحي الغربية، الآهلة بالسكان، ليلا (حي التضامن، حي الإنطلاقة، المنيهلة…)، وأطلق النظام العنان لمنحرفيه من الحزب الحاكم ومن فرق ووحدات الشرطة ليعيثوا فسادا ونخريبا وسرقة، في ضواحي العاصمة وفي المدن الداخلية، تحت أنظار الشرطة. وأعلن رئيسهم (زين العابدين بن علي) أنهم إرهابيون، ملثمون (وهذا صحيح)، من المتظاهرين (وهذا كذب). ولم ينفع التهديد والوعيد، إذ عمت المظاهرات اليومية كافة المدن والقرى، وأصبحت المناداة برحيل الجنرال بن علي وحزبه مطلبا عاما، رغم محاولة الإلتفاف على بعض المطالب، مثل الوعد بتحقيق 300 ألف وطيفة (إضافة إلى 50 ألف أخرى وعد القطاع الخاص بتوفيرها)، وتغيير بعض الوزراء، والوعد بالكف عن إطلاق النار على المتظاهرين الخ. كان المنعرج الأخير، يوم 13 كانون الثاني، عندما رفض قائد جيش البر، إطلاق النار على المتظاهرين (رغم وفاة العديد من الشهداء برصاص أفراد الجيش).
تزامن تواجد “جيفري فلتمان” في تونس مع بعض التصريحات والمناورات، من قبل بعض الرموز والأحزاب، فقدم “الحزب الديمقراطي التقدمي” (قبل المشاركة في الحكومة المؤقتة) عدة مقترحات للحكومة للخروج من “ورطة الشارع” الغاضب، وكذا فعلت بعض منظمات “المجتمع المدني” التي تشاورت مع الوزير الأول محمد الغنوشي، وقدمت له مقترحات، وشاركت رموز تعيش في المهجر، أو مرتبطة مع المؤسسات الأوروبية، في حملة إنقاذ الحكومة (التي يطالب الشعب بإسقاطها)، ودعا البعض السياح والمستثمرين الأوروبيين إلى العودة إلى البلاد. أما قيادة الإتحاد العام التونسي للشغل (نقابات الأجراء)، فبقيت في “منزلة بين المنزلتين”، إذ حافظت على علاقاتها الطيبة ومشاوراتها مع الحكومة، وحاولت في نفس الوقت تضييق الفجوة التي تفصلها عن قواعدها وكوادرها الوسطى.