في نحت المصطلح وتحرير المعنى

(3) الهيمنة الثالثة

(الدرس الليبي)

عادل سمارة

 

 

 

 

تناقش هذه السلسلة مفاهيم ومصطلحات، وضعتُها واستخدمتُها على فترات متفاوتة، ولا ازعم أنها ثوابتاً لا لديَّ شخصياً ولا لدى الزمن. ولكنها محاولات لإعطاء معنى لأحداث وموضوعات وحتى لمفردات تتطلب ذلك. ليس هذا نحت لغة أخرى مثلاً كما زعمت النسويات الراديكاليات بخلق لغة ضد ذكورية فاصطدمن بحائط أدى إلى الصلع الفكري، ولا كما يزعم من يتهربون من الفكر الشيوعي بتهمة أنه –اوروبي- فيرفضون أدواته في التحليل ويحاولون خلق أدوات أو لغة أخرى، نحن بانتظار إنتاجهم!

اللغة نتاج البشرية، والعبرة في تحميل المعنى وتحرير الأدوات. هذه محاولة لتحرير المعنى من أجل تحرر الإنسان، هي إعلان انفلات اللغة وتحررها من قيود فُرضت عليها سواء من مفكرين/ات أو مؤسسات، اي خروجاً على التعليب. وعليه، فهذه المعاني مفتوحة سواء على تطورها/ تطويرها من الكاتب او اي قارىء.

 

“كنعان”

* * *

ارتكزت في نحت هذا المصطلح على أطروحة الهيمنة لأنطونيو غرامشي الذي رأى أن الطبقة البرجوازية لوصول حكمها إلى الاستقرار، تحرص على تحويل او انتقال حكمها من السيطرة بمعنى قوة القمع المباشر إلى الهيمنة حيث يتم تشرُّب الطبقات الأخرى لإيديولوجيتها  كما لو كانت هي إيديولوجيا تلك الطبقات نفسها وهي ما يسميها غرامشي ب الهيمنة الأولى. لكنه يرى أن الطبقات الشعبية تواجه الطبقة البرجوازية بهيمنتها الذاتية اي المقاوٍمة لهيمنة البرجوازية.  وتأخذ الهيمنتان طريقهما التناقضي/ الصراعي داخل المجتمع القومي الواحد، أي في الدولة القومية وصولا الى هزيمة البرجوازية كما يهدف غرامشي.

ترتكز نظرية غرامشي في المجتمع المدني إلى حد كبير على استلاب الطبقات الشعبية بالهيمنة. وما حاولت الشغل عليه هو قراءة كيف نقلت برجوازية المركز هيمنتها إلى الطبقات الشعبية في بعض بلدان المحيط، أي إلى خارج الدولة القومية، اي إلى صعيد عالمي، وفي حقبة العولمة ولا سيما في سنوات تأزُّم هذه الحقبة.  وهذا التطور في الحقيقة مرتبط بمأزق برجوازية المركزعلى الصعيدين الداخلي والخارجي. هذا المأزق الذي كانت نقطة الحسم فيه هزيمة المركز، اي الولايات المتحدة حصراً، في العراق وخسائرها في افغانستان، وهزيمة الكيان الصهيوني الإشكنازي في لبنان وفي غزة. فكان لا بد للأنظمة الحاكمة/المالكة في المركز، لا بد لها من الهيمنة في بلدان المحيط عبر آلية مختلفة اسميتها الهيمنة الثالثة من قبل المركز داخل هذا البلد أو ذاك، مقرونة بسيطرة نظام حكم محلي تابع لها. أي هيمنة خارجية وسيطرة محلية.

إنه تصعيد الثورة المضادة بقيادة المركز اعتماداً على ما أسميته الهيمنة الثالثة، التي هي حالة تشارك بين الهيمنة الأولى بمفهوم غرامشي، اي هيمنة الطبقات الحاكمة/المالكة على الصعيد القومي في كل دولة على حدة، دولة المركز الولايات المتحدة مثلاً، متشاركة مع قوى محلية عربية لإسقاط أنظمة الحكم في بلدان لم تعد أنظمة المركز راغبة في بقائها ولا قادرة على غزوها بحيث تدفع تكاليف الاحتلال البشرية والمادية. لقد كانت حالة ليبيا المشروع التجريبي الأول لممارسة تحالف الهيمنة/سيطرة هذا. لقد اتضح أن الثورة المضادة كانت قد اخترقت كثيرا من القطاعات المجتمعية والعقيدية في ليبيا وجندتها لصالحها في إسقاط ديكتاتورية القذافي الوطنية. وقد تم ذلك الإسقاط عبر:

·         قيام الناتو بالقصف الجوي المركز والمتواصل لدة ثمانية أشهر

·         وقيام مجموعات محلية مسلحة من المنشقين والبروليتاريا الرثة وقوى الدين الإسلامي السياسي بالمواجهات مع القوات الحكومية وتصفيتها بعد أن يكون قصف الناتو قد دمرهاوشتت جمعها بغياب قوة جوية ليبية أو نصيرة لها.

·         وتقوم قطريات عربية تابعة وجزء من الثورة المضادة بتسليح وتمويل “ثوار الناتو” ودفع تكاليفف القصف الذي قامت به القوى الجوية لحلف الناتو.

لم يشهد الوطن العربي في يوم مثل هذا التحالف المعلن ضد اي قطر عربي. إنه تحالف عدواني علني تشارك فيه دول المركز مع دول أو قوى في المحيط ضد الدولة والشعب في المحيط، وهو نقل او رفع الهيمنة من الصعيد المحلي إلى الدولي. قد يقول البعض، لكن هذا “التحالف” قائم منذ بداية عصر الاستعمار. وهذا صحيح. لكن ما نسميه الهيمنة الثالثة هو تطور جديد مسرحه الوطن العربي، ويقوم على تقسيم عمل مختلف عن السابق في وجوه كثيرة.

·         هو شكل جديد تطور بعد تجربة الهزيمة والأزمة في العراق وافغانستان.

·         ابعد من التحالف الثنائي

·         يمارس العدوان المشترك خارج البلد المحيطي الواحد

·         يقيم تحالفات مع قوى ثورة مضادة وليس مع أنظمة وحسب

·         يعتمد ويغذي الموجة القومية الثالثة.

·         يطلب من البلدان التي يعتدي عليها ما ليس لديه هو نفسه (هذا يكشف أكاذيب تعميم الدمقرطة)

·         يكشف عن علاقات سرية بين الدين السياسي والإمبريالية وبالتالي كشف الخطاب المخفي للدين السياسي

ففي السابق كان هذا التحالف هو بين كل نظام في المحيط، مثلا نظام عربي ودولة استعمارية بشكل ثنائي ومباشر بينهما. أما اليوم فهو جماعي سواء من جانب المركز أو من جانب المحيط.

هذا التحالف هو تطوير في استراتيجية الثورة المضادة تجلت في تقسيم عمل جديد. فهو يوفر على المركز إرسال جنوده للسيطرة على الأرض دون أن ينقض حقيقة أن الانتصار الحقيقي هو في السيطرة على الأرض، فهو يسيطر على الأرض الآن بقوى الثورة المضادة المحلية التي تقوم بما يمكن ان يقوم به جيش المستعمِر من احتلال الأرض أو العسف بالمجتمع المحلي. بينما يكون دور المستعمِر هو القصف الجوي وتقديم الخبرات اللوجستية والتدريب. ويكسب بالتالي تصريف منتجاته من الأسلحة وضمان عدم حصول مصالحة وطنية في البلد طالما ما تمت من مذابح هي بايدي محلية. وهذا يقود إلى استمرار الالتصاق بالتبعية من جهة وإلى بقاء الاستيراد للأسلحة وتقسيم البلد إلى عدة اقسام مما يسمح بتواصل شراء الأسلحة والحاجة لدعم المستعمِر. وأكثر، فإن ليبيا اليوم هي مركز عدوان على سوريا حيث تلعب دور نموذج سلطة قوى دين سياسي لا تكتفي بتسليم البلد للاستعمار بل وتتحول إلى قاعدة إرهاب ضد بلدان عربية أخرى لن تكون سوريا فقط.