عن المسار الثوري في تونس:

انقضاض الماكرين على ثورة المحرومين

من “سيدي بوزيد” إلى ساحة “محمد علي”…

(الحلقة الثالثة والأخيرة)

الطاهر المعز

 

عوامل نجاح المرحلة الأولى للإنتفاضة

 

أفضت المثابرة واتساع رقعة الإحتجاجات إلى الإطاحة برأس النظام، ومن أهم العوامل التي أتاحت ذلك :

–      إصرار الشباب العاطل عن العمل على المضي قدما في المطالبة بالحد الأدنى من الحقوق

–      التحاق جزء هام من مواطني الوسط والجنوب الغربي بأبنائهم، وتوسع رقعة الإحتجاجات

–      دور القيادات النقابية المحلية وعمال الصحة والإتصالات والبريد والتعليم في مساندة التحركات

–      مشاركة مناضلي اليسار بكثافة في عمليات المساندة وتنظيمها وتسييرها في بعض المناطق

–      التحاق جزء من الشرائح العليا للبرجوازية الصغيرة والفئات الوسطى بالحركة الإحتجاجية

–      استغلال مختلف الشبكات الإخبارية المهنية والشخصية لنشر وتعميم الأخبار

–      انقسام أجهزة القمع إزاء ممارسات ميليشيا الحزب الحاكم والأجهزة التابعة للقصر الرئاسي

–      تذمر فئات من البرجوازية من تجاوزات “العائلات الحاكمة” وتحكمها “دون وجه حق” في قوانين اللعبة

–      تجاوب القيادة النقابية مع الحركة الإحتجاجية، بداية من 28/12/2011، بضغط من قواعدها

–      تخلي الإمبريالية عن الرئيس المخلوع، بعد عجزه عن إخماد نار الإحتجاجات لمدة 3 أسابيع كاملة، وعن احتواء الحركة الإحتجاجية، رغم محاولة المزج بين القمع والتنازلات

وإذا كانت “العفوية” أو غياب القيادة المركزية، من العوامل التي ساهمت في توسيع رقعة الإحتجاجات في بدايتها، فإنها شكلت نقطة ضعف قاتلة عندما حان وقت التغيير وطرح البديل وتنفيذه، وتحويل المطالب أو الشعارات إلى فعل أو سلطة مضادة.

يذهب بعض الأصدقاء والرفاق إلى القول بأن الإمبريالية هي التي كانت تمسك بخيوط الحركات الإحتجاجية سواء في تونس أو في مصر. والواقع أن الإمبريالية فوجئت كما فوجئ النظام وأحزاب “الديكور” والمعارضة بكافة أشكالها، بما فيها مناضلو اليسار، واستطاعت الإمبريالية استعادة زمام المبادرة في تونس، بعد قرارها التخلي عن زين العابدين بن علي للمحافظة على مصالحها، وتغيير رأس النظام. وما كانت تستطيع ذلك لو كانت موازين القوى تصب في صالح قوى التغيير الجذري، لقيادة المرحلة والمضي قدما نحو تغيير حقيقي لصالح العمال والفقراء ومنتجي الثروة في البلاد.

لقد استغلت أمريكا وأوروبا الفراغ السياسي ونصبت رموز النظام “باسم الثورة”، لكن الغضب الشعبي لم يهدأ وطالب المتظاهرون بحل الحزب الحاكم، الذي بقي محافظا على أهم وزارات السيادة، مع تطعيم الحكومة بعناصر من المعارضة الإنتهازية، حليفة قوى اليسار بالأمس القريب. ويذهب فريق آخر من اليسار إلى اعتبار كل نقد لأطروحاته (أطروحاتنا) وممارساته (ممارساتنا) بمثابة “تلقين دروس هو في غنى عنها”، والواقع أن النقد ومحاولة الوقوف على الأخطاء موجهة لكل من ينتمي إلى اليسار والتيار الإشتراكي والشيوعي والقومي العربي، وفي دراستها واستنتاج العبر منها قوة لكل من آمن بدور النقد في إصلاح الأخطاء من أجل التقدم خطوة إلى الأمام، ولا أحد منا معصوم من الخطأ.

استطاعت أوروبا وأمريكا ركوب الموجة ودفعت إلى الواجهة برموز من “المجتمع المدني” أو من الأحزاب “المهذبة” (المتحضرة) وضمت الحكومات المؤقتة عددا منهم (كان 6 وزراء يحملون الجنسية الفرنسية)، في حين دعا البعض الآخر إلى “وضع حد لحالة التسيب والفوضى والعودة إلى العمل، لكي يعود المستثمرون والسياح…”، بينما كانت قوات القمع (الشرطة والجيش) تقتل المواطنين وتمنع التجمعات. وكان هؤلاء بالأمس القريب يدعون أن الشعب لن يثور ولن يستطيع تغيير نظام الحكم، وبالتالي لا بد من الإستعانة بالإمبريالية لفرض “حقوق الإنسان والحريات الفردية وحرية التعبير…” ، ولما تجاوزت مطالب الفئات الشعبية هذه الحدود، (التي رسمتها المنظمات غير الحكومية والبرلمان الأوروبي وبرنامج ميبي الأمريكي) طالب هؤلاء بالهدوء “من أجل مصلحة الوطن”… وماذا تعني “مصلحة الوطن”، لمن لا يجد في وطنه عملا أو كرامة أو حرية؟ أو بالنسبة لمن يستغله ويهينه المستثمر أو السائح الأجنبي (أو حتى المحلي)؟ أو لمن يضطر للمخاطرة بحياته، أملا في العثور على عمل في أوروبا؟ وهل يمكن أن تلتقي “مصالح الوطن” مع مصالح الإمبريالية؟

 

سرقة موصوفة

تميزت الشعارات التي رفعها المتظاهرون الفقراء والمحرومون والعاطلون عن العمل بطابعها الطبقي، وابتدع أبناء الشعب الكادح أشكالا نضالية مكنته من الصمود في وجه آلة القمع رغم عدد الضحايا الذي قارب 350 وآلاف الجرحى، والمساجين الذين عانوا من التعذيب والإهانة. وبعد سقوط رأس النظام، بقي الحزب الذي حكم لمدة 55 سنة مهيمنا على جهاز الدولة وعلى الحكومة والشرطة والجيش والقضاء الخ… لذا احتل المواطنون “ساحة القصبة”، حيث مقر رئاسة الحكومة وبعض الوزارات الأخرى (المالية، التربية، العدل…)، وطالبوا بحل هذا الحزب ومحاكمة مسؤوليه وإبعادهم عن مراكز القرار. كان مناضلو وأحزاب اليسار حاضرين بكثافة، لكن بدون برنامج خاص بهم وبدون مطالب أو برامج عمل ترتقي بالمطالب الجزئية لتصوغ منها برنامجا شاملا، وتتجاوز الإصلاحات إلى تغيير طبيعة النظام والسيطرة على أجهزة الإعلام  ووسائل الإنتاج والإدارات المحلية ودواليب الدولة. ومع ذلك تمكن الأجراء، بفضل خبرة هؤلاء المناضلين اليساريين والنقابيين، من الحصول على عدد من المكاسب أهمها تثبيت العمال المؤقتين ومنع التعاقد من الباطن في القطاع العام، وتمكن نقابيو القطاع العام للإعلام وبعض الوزارات والمؤسسات المالية من فرض انتخاب طاقم لتسيير المؤسسات. وتمكن موظفو وزارة الخارجية من طرد الوزير الذي بالغ في التذلل لوزيرة الخارجية الفرنسية، التي كانت لها مصالح مادية واستثمارات في تونس واقترحت إرسال فيالق شرطة فرنسية متمرسة على قمع أبناء المهاجرين، لمساعدة النظام التونسي على إخماد الإنتفاضة (استقدمت الشرطة الفرنسية خبراء صهاينة لمساعدتها أثناء انتفاضة الشباب في ضواحي المدن الفرنسية خلال تشرين 2005).

استثمر الإتحاد الأوروبي في “المجتمع المدني” (خصوصا منذ مسار برشلونة سنة 1995) واستثمرت أمريكا في تدريب وتأهيل “قادة المستقبل”، بواسطة الدورات التكوينية المختلفة ل”ناشطي المجتمع المدني”، وبرنامج “ميبي” الذي توجد مكاتبه الرئيسية في تونس، واستثمرت هاتان القوتان الإمبرياليتان في ميدان “حقوق الإنسان” بإصدار “الشبكة الأورو متوسطية لحقوق الإنسان” أو “هيومن رايتس واتش” (وتوابعها أو فروعها المحلية) لبعض التقارير عن النواقص في مجال الحريات الفردية، رغم الرضى النسبي عن “الإنفتاح الإقتصادي” واللبرالية الإقتصادية. وظهرت نتائج هذا الإستثمار منذ تكوين الحكومة الأولى بعد رحيل “بن علي”، حيث انفرطت التحالفات السابقة للمعارضة، وشارك بعضها في حكومة شكلها قادة الحزب الحاكم (حزب بن علي وبورقيبة) وبقيت وزارات السيادة فيها بين أيديهم.

في هذا المناخ عاد الإسلام السياسي للظهور، بعد أن طبق لمدة سنوات عديدة “تعاليم” راشد الغنوشي، التي وجهها إلى منتسبي “النهضة” أثناء اشتداد القمع: “احن ظهرك إلى أن تمر العاصفة”، وبعد أن عاشت كوادر حركة “النهضة” في أوروبا والخليج، في ظروف مادية فوق المتوسطة، واستطاعت قيادات “النهضة” شراء المحلات التجارية والعقارات السكنية بعد مدة وجيزة من حصولها على “اللجوء السياسي” في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وسويسرا.

كان المتظاهرون يحاولون اجتياح المقر الرئيسي للحزب الحاكم، يوم 13/01/2011، قبل رحيل رئيسه بيوم واحد، وحاول أحد قادة الإخوان المسلمين (النهضة) استغلال الفرصة وجر الجمهور للقيام بصلاة جماعية، ولم يتبعه سوى إثنان، وهو ثالثهم. ولم يردد المتظاهرون في أي بقعة من البلاد شعارات دينية ولم يسجل أي حضور لحركة النهضة وأخواتها من “سلفيين” أو “أصوليين”، لا باسم الإسلام السياسي “المعتدل” ولا “المتطرف”، ولكن كانت الأموال تنفق بغير حساب لكراء وشراء المحلات الشاغرة في المدن والضواحي، لتصبح بعد أيام إما مكاتب لحزب “النهضة” أو “مدارس قرآنية”، وتأسست مئات الجمعيات “الإسلامية”، وأصبح بعض المواطنين الذكور يعتدون على البنات والنساء في الشوارع بدعوى أنهن “سافرات”، وأصبح طول اللحية مقياسا للورع عند البعض، ومعيارا للمواطنة عند البعض الآخر. واستغلت حركات الإسلام السياسي غضب المصلين ضد أيمة المساجد الذين عينهم الحزب الحاكم، لتعويضهم بأإمة مساندين لهم، واستعملوا المساجد منبرا للدعاية السياسية لصالحهم وحث المصلين على اختيار “من يخافون الله، ضد الملحدين والعلمانيين والشيوعيين…” (ويخلطون عمدا بين الإلحاد والعلمانية والشيوعية، أو الداعين إلى فصل الدين عن الدولة.)

أما الحكومتان المؤقتتان اللتان قادهما “محمد الغنوشي” فقد قمعتا بعنف شديد المظاهرات والإعتصامات (القصبة 1 و 2) والإضرابات، ولا بد من التذكير بأن محمد الغنوشي كان مسؤولا عن التخطيط الإقتصادي للنظام منذ 1975، وكان وزيرا للمالية منذ عهد الحبيب بورقيبة ثم رئيسا للحكومة لمدة فاقت العشر سنوات في عهد “بن علي”، أما “الباجي قائد السبسي” الذي خلفه (وهو شيخ تجاوزت سنه الخامسة والثمانين) فهو وزير داخلية سابق وهو مؤسس “الشرطة السياسية”، وتولى عددا من المناصب الوزارية الهامة، لأكثر من 50 سنة، وترأس “مجلس النواب” (غير المنتخب) في عهد “بن علي”، إضافة إلى اتصافه بالتعالي واحتقار الخصوم وبالتشويه المستمر لليسار، وإيمانه بالقمع السافر لوضع حد للإحتجاجات (لا ننسى أنه وزير داخلية سابق). وإضافة إلى قمع المتظاهرين والمضربين، أغرقت الحكومات المؤقتة الثلاثة البلاد بالديون وضاعفت من تبعيتها للإمبريالية والمؤسسات المالية… وتمكنت من تأسيس هياكل موازية لتلك التي فرضتها المعارضة خلال الأسابيع الأولى من الإنتفاضة، وشق صفوفها، وتشتيتها. وتورطت قيادة الإتحاد العام التونسي للشغل في فض اعتصام “القصبة 2″، قبل القمع الشديد الذي تعرض له المعتصمون، الذين جاؤوا من المدن الداخلية ومن المناطق الفقيرة للتأكيد على مطالبهم في “الشغل والكرامة” وحل هياكل الحزب الحاكم وأجهزة القمع الخ، وفي هذا المجال كانت الحركة الشعبية متقدمة بأشواط على الحركة التقدمية واليسارية، التي لم تتمكن من مواكبتها ولم تكن مهيأة أصلا لتصور واستيعاب حركة شعبية واسعة، بهذا الحجم، وبالتالي لم تتمكن من خلق ميزان قوى يصب في الإتجاه الثوري واكتفت بالمطالب ذات الطابع الديمقراطي (الذي لم يتجاوز مستوى الحريات)، بينما كان شعار المواطنين “الشعب يريد إسقاط النظام”، وبثت أوهاما حول الشرعية والعمل القانوني (الإنتخابات وما تبعها من إرهاق وإهدار طاقات وأموال…) عوض التأكيد على الشرعية الثورية وميزان القوى الذي فرضه الشارع، أي الفقراء والمحرومون والعاملون في المصانع والحقول… وأظهرت الإنتخابات أن “المال قوام الأعمال”، وأن “النهضة” تتقن هذه اللعبة (وقد فعلت ذلك سنة 1989، حيث يصعب إحصاء الأموال التي أنفقتها أثناء الحملة الإنتخابية). أما الإسلام السياسي الحاكم (النهضة)، إثر فوزه بأغلبية نسبية، فقد عين عددا من المسؤولين المفضوحين لنظام “زين العابدين بن علي” في مناصب حساسة (الإعلام، القضاء، الداخلية، الإقتصاد…)، وعقد صفقات مع رموز النظام للمحافظة على التحالف الطبقي السابق، مع توسيعه قليلا ليشمل قيادات وكوادر النهضة، وأبقى على محافظ البنك المركزي في منصبه رغم تورطه في إغراق البلاد بالديون وتعميق تبعيتها، وبدفاعه المستميت عن دكتاتورية السوق المالية (البورصة) وعن اللبرالية المفرطة، تحت غطاء “استقلالية البنك المركزي” (أي أن الحكومة لن تتدخل في الإختيارات المالية وفي تحديد الأسعار، مثلا)… وحاول رموز “النهضة” تقديم أكثر ما يمكن من الضمانات حول “احترام كافة الإتفاقيات الدولية” التي أبرمتها تونس والإلتزام بإرجاع الديون وعدم طرح علاقات تونس مع الحلف الأطلسي أو مقاطعة الكيان الصهيوني للنقاش الخ، والتذكير بمناسبة أو بدونها أن المثال التركي هو النموذج الذي يجب الإقتداء به، وفي تركيا توجد أهم قواعد الحلف الأطلسي (قاعدة إنشرليك)، ولا تزال العلاقات العسكرية والإقتصادية مع الكيان الصهيوني متطورة رغم الخلافات بينهما حول الدور المنوط بكل منهما للهيمنة على الوطن العربي.

فرصة ضائعة، وفرص قادمة

نجح الإسلام السياسي في الفوز بالإنتخابات التي أعقبت سقوط رموز النطام التونسي والمصري، دون أن يقدم أي برنامج بديل للأنظمة القائمة، ولا يمكنه أن يكون بديلا لاعتبارات عدة أهمها:

– اعتماد الإسلام السياسي على أموال الدول النفطية الأكثر رجعية في تاريخ العرب، واستغلال الفقر والإحتياج لإرشاء الناخبين، ومخاطبة معداتهم عوض مخاطبة عقولهم

– استغلال عواطف المؤمنين لتجنيد الفقراء ضد مصالحهم، وتحويل وجهة المطالب الإجتماعية

– تأكيد الولاء للإمبريالية والصهيونية ( تصريحات راشد الغنوشي في “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى” بتاريخ 30/11/2011 وامتداحه لمواقف أمريكا، وإعلان “حياده” تجاه الكيان الصهيوني، وتصريحات مسؤولي الإخوان وحزب “النور” في مصر لوسائل الإعلام الصهيونية)

– الإلتزام بقواعد النظام الإمبريالي العالمي بخصوص الديون والإتفاقيات المجحفة وعلاقات التبعية…

– إجهاز الإسلام السياسي على مكسب الحريات الفردية وحرية الإعلام، التي فرضتها الإنتفاضة

– ممارسة القمع كوسيلة لحل القضايا العالقة (شهداء الإنتفاضة، الصحافيين، النقابيين، النساء، الفنانين…)

– الإلتزام بالإتفاقيات المعادية لمصالح الشعب والوطن (الديون، الشراكة مع الإتحاد الأوروبي، الخصخصة)، والتنكر لاتفاقات وقعتها الحكومة المؤقتة السابقة مع الإتحاد العام التونسي للشغل حول رفع الرواتب

– استعمال مليشيات تقمع المتظاهرين والمحتجين، إلى جانب قوات القمع التقليدية (الشرطة)، واستعمال “السلفيين” كفزاعة، كي تبدو “النهضة” في صورة حركة سياسية معتدلة وعقلانية مقارنة بممارسات “السلفيين”

– الإدعاء بأن سوء الوضع الإقتصادي تانج عن مطالبة العمال والمواطنين بحقوقهم (إضرابات، اعتصامات…)، وليس نتيجة اختيارات خاطئة تركز فيها الإستثمار في مجالات غير منتجة، وغير مستوعبة للعمال (وردد المنصف المرزوقي هذا الإدعاء)

– نسخ ممارسات الحزب الحاكم قبل 14/01/2011، وتأسيس ميليشيا، وتشويه المعارضين، واحتقار المتحالفين معه، وتعيين موالين في مناصب حساسة، مع الإدعاء بأن انتخابات 23/10/2011 تسمح لهم بالتصرف كحكومة ثابتة وليست مؤقتة محدودة المهام …

– التصدي للإضرابات (إضراب عمال النظافة والبلديات)، ومهاجمة وحرق وتخريب مقر النقابات العمالية في عدد من المدن (وفي نفس اليوم) وإلقاء النفايات أمامها…

– استغلال ثلث الميزانية التكميلية لسنة 2012 لتعويض قدماء مساجين “النهضة”، وقمع عائلات شهداء وجرحى انتفاضة 17/12/2010 – 14/01/2011 يوم 9 نيسان 2012 (بعد قمع العاطلين عن العمل)

– تشريع تدخل الرجعية العربية (وغيرها) في تركيبة الحكومة (قطر، الإمارات…)

– عدم السعي لاسترجاع الأموال المنهوبة والمهربة، بل والتهديد بمزيد من الخصخصة (قطاع الإعلام)

– المساومة (على حساب الشعب) مع رموز النظام السابق وتقاسم النفوذ معهم (الداخلية، القضاء، الإعلام) ومهاجمة مؤسسات التعليم وقمع النقابيين، مباشرة أو بواسطة الميليشيات ( نهضوية أو سلفية)

– حياد مريب للحكومة وأجهزتها القمعية تجاه الحركات الأكثر رجعية كاعتصام “السلفيين” (لمدة 50 يوم)، أمام مقر التلفزة الوطنية، بحجة أنها “بؤرة شيوعية وقومية”، واحتلال ذوي اللحي الطويلة (من غير الطلبة) لكلية الآداب والعلوم الإنسانية، لمدة شهرين، وتعطيل الدروس والإمتحانات وتعنيف الأساتذة والطلبة، من أجل فرض مطالبهم بالسماح للمنقبات “النكرات” بالمشاركة في الإمتحانات بنقابهن.

وساهمت كل هذه الأحداث المدبرة والمخططة في تحويل وجهة المطالب والإهتمامات، وفرضت “جدول أعمال” بعيد عن اهتمامات الفئات الكادحة والفقيرة من الشعب، وبعيدة عن مطالب شباب وأهالي سيدي بوزيد وقفصة والحوض المنجمي والقصرين، الذين مات أبناؤهم أو جرحوا برصاص الشرطة والجيش والقناصة، أو سجنوا وعذبوا بتهم ملفقة.

كشف الإسلام السياسي عن طبيعته الرجعية المفضوحة والموالية للإمبريالية و”المحايدة” تجاه الصهيونية وقضية فلسطين، وهاجم كل رموز التغيير (وقد وصل السلطة بفضل تضحياتها)، في ظرف وجيز، وتصرف كأي نظام رجعي عربي، على الصعيد الداخلي أو الخارجي، في مجالات الحريات الفردية والجماعية، في مجالات السياسة والإقتصاد والقضاء والإعلام الخ. لكن الإسلام السياسي نجح في جر القوى القومية واليسار إلى نقاشات هامشية حول العلمانية ومكانة الدين في المجتمع الخ، ونجح في الإبتعاد عن القضايا الأساسية التي مثلت الشرارة الأولى لاندلاع الإنتفاضة، أي الحياة اليومية والشغل والكرامة والحريات الفردية والجماعية، ومستقبل البلاد المرهونة بالديون (التي ارتفعت منذ رحيل بن علي). إن المشاغل اليومية للمنتجين والكادحين والفقراء والمضطهدين والمستغلين، في تونس والوطن العربي والعالم هي مشاغل القوى التقدمية واليسار والإشتراكيين والشيوعيين، ومن يحيد عنها يفقد هويته، ويجب أن نحافظ على هويتنا، التي تتضمن المساواة الكاملة بين البشر، وفصل الشأن الخاص (العقيدة الدينية) عن الشأن العام (السياسة)، والعمل من أجل تحقيق العدالة الإجتماعية.

لقد تداركت الإمبريالية الأوروبية والأمريكية الأمر بسرعة، بعد صدمة المفاجأة، وتحركت إما مباشرة بواسطة ممثليها، أو بواسطة الرجعية العربية وممثليها المحليين (التجمع الدستوري الديمقراطي والإسلام السياسي)، مما مكنها من ربح المعركة في هذه المرحلة، والتضحية برأس النظام، وبعض الرموز، للمحافظة على النظام ككل للإبقاء على مصالحها، بل واستثمرت بعض التقارير السابقة التي وجهت من خلالها نقدا للنظام، لاستعمالها كحجة على مساندتها للديمقراطية والحريات… وعلى القوى التقدمية أن تتدارك الأخطاء في إطار تقييم شامل وواسع للأحداث ومسبباتها ونتائجها، والآفاق الممكنة. ويبقى انتصار العمال والفلاحين والفقراء رهينا بدرجة التصدي للقوى الرجعية الحاكمة في تونس (والوطن العربي)،ومن يقف وراءها (أي الإمبريالية، وهو الجانب الذي أهمل زمن الإنتفاضة في تونس)، والإنتقال من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم، لإكمال المسار الثوري وانتصار قيم العدالة والمساواة، الآن وهنا، والإعتماد على القوى الذاتية، واستخلاص الدروس من التجارب الماضية والحالية، المحلية والدولية. وإذا كان لا بد من البحث عن حلفاء على الصعيد العالمي فإن ذلك لن يكون إلا ضمن القوى التقدمية، والنقابات والأحزاب والقوى المناهضة للهيمنة وللإستعمار والصهيونية، ولا يمكن أن تكون أجهزة الإتحاد الأوروبي أو الإدارة الأمريكية (مهما تخفت هذه الأجهزة أو الأدوات وراء المنظمات غير الحكومية والدفاع عن حقوق الإنسان وعن الحريات…) حليفا للشعوب وللأنظمة وللصهيونية في نفس الوقت، فهل يعقل أن تساند أمريكا الإستعمار الإستيطاني الصهيوني في فلسطين، وتساند نضالات الشعب التونسي أو المصري أو أي شعب آخر ضد الدكتاتورية؟ وهل يعقل أن تقتل الإمبريالية نساء وأطفال العراق وأفغانستان وتساند نساء تونس من أجل المساواة و”التمكين”؟ وهل يمكن أن تمول الدول الإمبريالية منظمات “غير حكومية” كي تناقض سياساتها وأهدافها؟… إذا أنفق الرأسمالي فلسا فذلك من باب الإستثمار، لا غير.

إنه لمن الخطر أن ينحصر الإختيار في قوتين رجعيتين تتنافسان على السلطة (على حساب الشهداء والمجروحين والمساجين…) هما الحزب الحاكم سابقا والحزب الحاكم حاليا.

إن ما يدعو إلى التفاؤل في تونس (وفي مصر) هو وجود مقاومة مستمرة في المصانع وفي المدارس وفي الشوارع، وتمارسها فئات عديدة (نساء، مثقفين، نقابيين، شباب معطل عن العمل، فنانين…)، ويصعب على أي حكومة، في المستقبل المنظور، العودة إلى ممارسة الدكتاتورية المفضوحة التي سادت مدة 55 سنة في تونس، لكن هذه المقاومة تفتقر إلى مقومات تحولها من حركة مقاومة (غير متجانسة) إلى اكتساح مواقع، قبل أن تتحول إلى قوة “مهيمنة” اجتماعيا وثقافيا (بمفهوم أنطونيو غرامشي)، في صالح الأغلبية المستغلة (بفتح الغين) والمضطهدة (بفتح الهاء). أما الصراع الإيديولوجي، الذي فرضه الإسلام السياسي بالطريقة التي اختارها، فمن المفروض أن ينطلق من مطالب ومصالح الفئات التي تقاوم، وبذلك لن يكون مسقطا ومصطنعا، وبعيدا عن اهتمامات فئات الشعب الكادح.

:::::

راجع “تضامن دولي أم استقواء بالأجنبي” الطاهر المعز – تموز 2010

“الحركة الأصولية والموقف من الأسلام السياسي” الطاهر المعز –  تشرين الثاني 2008