عن المسار الثوري في تونس:

انقضاض الماكرين على ثورة المحرومين

من “سيدي بوزيد” إلى ساحة “محمد علي”…

(الحلقة الثانية)

الطاهر المعز

 

مقدمات الإنتفاضة

عرفت البلاد عددا هاما من الهزات والإنتفاضات، أهمها المقاومة المسلحة ضد جناح بورقيبة في حزب الدستور، وضد طبيعة اتفاقية “الإستقلال” (20 آذار 1956)، التي تكرس التبعية لفرنسا، حسب معارضيها، وكان بورقيبة يعلن موالاته الصريحة لأمريكا و”العالم الحر”، فساند تدخل قوات المارينز الأمريكية في لبنان سنة 1958 (لمساندة كميل شمعون ضد فؤاد شهاب)، وعارض عبد الناصر، وساند أمريكا في حربها العدوانية على فيتنام. ومنع بورقيبة الأحزاب سنة 1962 (متذرعا بمحاولة انقلابية، أعدم المتهمين بتدبيرها) بما فيها الأحزاب التي كانت موجودة منذ الإحتلال المباشر (الحزب الشيوعي مثلا)… وانتفض الفلاحون سنة 1969، ضد التجميع القسري للملكية، الذي استفاد منه كبار ملاكي الأرض. وفي كانون الثاني/يناير 1978، نظم “الإتحاد العام التونسي للشغل” إضرابا عاما، احتجاجا على السياسة الإقتصادية اللبرالية، التي فتحت الأبواب على مصراعيها أمام رأسمال الأجنبي، وشرعت الإستغلال الفاحش للعمال ولموارد البلاد، وتدخل الجيش وقتل عشرات المتظاهرين (وكان زين العابدين بن علي مساعدا لوزير الداخلية)، وتدخل الجيش ثانية لقتل المتظاهرين ضد غلاء الأسعار وضد إلغاء الدعم للمواد الأساسية، خلال الأيام الأخيرة من 1983 والأيام الأولى من 1984، عرفت لدى التونسيين تحت اسم “انتفاضة الخبز”، وكان بن علي ثاني مسؤول في وزارة الداخلية.

أما الأحداث التي مهدت مباشرة للانتفاضة الأخيرة فهي هبة الحوض المنجمي (منطقة “قفصة”، في الجنوب الغربي)، التي دامت أكثر من 6 أشهر وشارك فيها كل المواطنين، وخصوصا النساء والشباب، نظرا للوضع المتردي للمنطقة التي أصبح مواطنوها يعانون الفقر والخصاصة، منذ انخفضت كمية الفوسفاط المستخرج من المناجم، إضافة إلى إدخال الآلات الحديثة لاستغلاله، وكان المواطنون يتوارثون مهنة العمل المنجمي أبا عن جد، رغم المخاطر والحوادث القاتلة العديدة، ومنذ غلق أبواب الهجرة إلى أوروبا، وخصخصة المؤسسات العمومية وانعدام فرص العمل في الوظيفة العمومية أو القطاع العام (وغياب الإستثمار الخاص خارج المناطق الساحلية المطلة على البحر)، أصبح أهالي المنطقة يعيشون وضعا مأسويا. لكن النظام تمكن من محاصرة حركة احتجاج الحوض المنجمي ومن قمعها بشدة، وسجن الشباب وبعض النقابيين (الذين تبرأت منهم القيادة المركزية النقابية) ولم تكن حركة المساندة في مستوى الحدث… وجرت بعض الإنتفاضات المحلية وبقي تأثيرها محصورا في أماكن اندلاعها، بين 2008 و 2010 (الصخيرة، جبنيانة، بن قردان…)، وكان القاسم المشترك لكل هذه الأحداث، المطالبة بالشغل والكرامة.

أسباب الإنتفاضة

أ – الوضع الإقتصادي:

قبل رحيل “زين العابدين بن علي” كان 10 بالمائة من التونسيين يملكون 32 بالمائة من ثروة البلاد ويملك 60 بالمائة من المواطنين حوالي 30 بالمائة من الثروة، وكان 75 بالمائة من الأجراء ينفقون رواتبهم الشهرية، خلال أسبوعين، ثم يلجؤون إلى الإقتراض من العائلة أو الأصدقاء أو المصارف أو من المشغل (اقتراض راتب شهر أو شهرين، بفائدة زهيدة) حسب تقرير صادر عن البنك العالمي (2009).

كان القطاع العام يشغل 750 ألف عاملا وموظفا، من مجموع 3,750 مليون من “قوة العمل” (من جملة حوالي 10 مليون نسمة).

تشغل الفلاحة 18,3 بالمائة من العاملين والصناعة 31,9 بالمائة والخدمات 49,8 بالمائة، وتساهم الفلاحة بنسبة 10,9 بالمائة من المنتوج الداخلي الخام والصناعة بنسبة 35 بالمائة والخدمات 54,1 بالمائة ولا تساهم السياحة سوى ب 6 بالمائة من المنتوج الداخلي الخام (رغم الضجيج الذي أقيم حول الأهمية الإقتصادية للسياحة)، ويزور تونس أكثر من 2,5 مليون سائح من الجيران (الجزائر وليبيا)، ويفوق معدل إنفاقهم السائح الأوروبي، ويساهمون في إنعاش الدورة الإقتصادية المحلية.

يتميز الإقتصاد التونسي بالتبعية المطلقة للإقتصاد الأوروبي (بنسبة 80 بالمائة)، وخصوصا للإقتصاد الفرنسي، حيث كانت توجد 1280 مؤسسة فرنسية في تونس سنة 2010، تشغل 110 آلاف عاملا، تليها إيطاليا وألمانيا وبلجيكا.

تصدر تونس الى أوروبا مواد أولية (نفط، فوسفاط) ومنتوجات فلاحية (غير مصنعة) ومنتوجات صناعية ذات قيمة مضافة ضعيفة كالنسيج والمعدات الكهربائية والميكانيكية التي تصنعها شركات أجنبية في تونس، مستغلة الإمتيازات الضريبية وضعف الأجور (130 يورو شهريا)، والموقع الجغرافي لتونس (قريبا من السوق الأوروبية).

مثلت الهجرة الى أوروبا (وخصوصا فرنسا وإيطاليا) متنفسا للنظام وللشبان الباحثين عن العمل، ولعائلاتهم، إلى أن أغلق باب الهجرة نهائيا، بعد انهيار الإتحاد السوفياتي وتوسع المجموعة الأوروبية (الإتحاد الأوروبي لاحقا) نحو أوروبا الشرقية والوسطى (بعد انضمام البرتغال وأسبانيا واليونان)، وتضييق الخناق على مواطني جنوب المتوسط (أي العرب) وافريقيا، إضافة إلى اتفاقيات الشراكة (بداية من 1995) التي تفتح حدود بلدان المغرب العربي ومصر والأردن أمام رأس المال والمنتوجات الأوروبية، وتحويل بلدان المغرب العربي إلى تكنات شرطة تحرس حدود أوروبا، لوقايتها “من الهجرة غير النظامية والإرهاب”، وزادت اتفاقيات منظمة التجارة العالمية الطين بلة، إذ مول البنك العالمي دراسة (قامت بها الوكالة الفرنسية للتنمية) أواخر سنة 2006، مباشرة قبل أزمة الغذاء، تضمنت نتائجها “نصائح” غير سديدة للحكومة التونسية، منها تقويض القطاع الفلاحي والكف عن إنتاج الحبوب والخضار والبطاطا واللحوم والألبان. واستيرادها، بدعوى أن استيرادها (المنتوجات الغذائية) أقل كلفة من إنتاجها (تشغل الفلاحة أكثر من 350 ألف عاملا ثابتا وحوالي 200 ألف عاملاً موسمياً)، وفي نفس الوقت فرضت اوروبا شروطا تعجيزية على دخول المنتوجات التونسية أسواقها، واستفادت المؤسسات الأوروبية لاستكمال هيمنتها على السوق التونسية، بما في ذلك قطاعات الخدمات وتجارة التفصيل (المفرق). ويمول ويدعم الإتحاد الأوروبي وأمريكا الفلاحة والصناعة، ويمنعان ذلك على الدول الفقيرة. وتقتضي علاقات “الشراكة” فرض مواصفات معينة لقبول المنتوجات التونسية في الأسواق الأوروبية، مما يقضي على النسيج الفلاحي المحلي وعلى البذور وأنواع عديد من الخضار والفواكه والباكورات والحبوب الخ، وتستفيد مؤسسات أوروبية من عملية “تأهيل” المؤسسات التونسية التي أفلست المئات منها بسبب عدم مواكبتها لهذه المواصفات، وتسببت في تفاقم البطالة، وكانت علاقات “الشراكة” عاملا إضافيا لتدهور الوضع الإقتصادي والإجتماعي، وغزو السوق المحلية وغلق باب الهجرة.

إضافة إلى هذه العوامل الخارجية، كانت العائلتان المتصاهرتان (بن علي والطرابلسي) تقومان بنهب الموارد وعدم احترام قوانين رأس المال، فهما لا تنحدران من البرجوازية التقليدية، وفرضتا قواعد جديدة (ذات صبغة مافياوية) تتمثل في تقاسم أو افتكاك كل القطاعات المربحة في البلاد وفرض “أتاوات” على الرأسماليين والشركات، واحتكرتا تمثيل الشركات الأجنبية وفرضتا رشاوى على كل من يرغب في الإستثمار في تونس سواء كان رأسماليا محليا أو أجنبيا. ثم إستخدمت العائلتان جهاز الدولة (الشرطة ومصلحة الضرائب) لترهيب من لم يستجب لطلباتهما المجحفة، وهرب أفرادها أموالا طائلة إلى الخارج، قد تساوي قيمة ديون البلاد الخارجية. مما خلق تململا في أوساط قسم من الرجوازية التونسية والأجنبية. ونشر البنك الدولي والإتحاد الأوروبي دراسات وتقارير عن ظروف الإستثمار وما أسمتة بالشفافية (بخصوص القروض التي استفاد منها المقربون من النظام، ولم تسترجعها البنوك)، تعبر عن شيء من الإستياء، ومولت أمريكا والإتحاد الأوروبي منطمات “غير حكومية”، تدق ناقوس الخطر من حين لآخر حول “التجاوزات” وتطالب بتصويب الأمور، واحترام حقوق الملكية الخاصة، وحقوق الإنسان، وتوفير ضمانات لرأس المال. واستفادت العائلتان من خصخصة مؤسسات القطاع العام (اتصالات، طاقة، مصارف، أراضي خصبة…) لنهب موارد البلاد، بمساعدة الشركات الرأسمالية الأوروبية وبعض أثرياء الخليج، والإستثمار في قطاعات غير منتجة ووفيرة الربح (سياحة، توريد، عقارات، نقل…).

بلغ المنتوج الإجمالي العام لتونس 51,8 مليار دولارا سنة 2010، وبلغت نسبة الديون حوالي 20 مليار دولارا أو 2000 دولار لكل تونسي، وبلغت نسبة البطالة الرسمية 14,7 بالمائة من القادرين على العمل، و 25 بالمائة لدى الشباب و 30 بالمائة لدى خريجي الجامعات ( أما النسب الحقيقية فهي أعلى من ذلك بكثير). ومثلت الديون الخارجية (ثلاثة أرباع الديون) عبئا ثقيلا على ميزانية البلاد، التي سددت معدل 2,5 دولارا عن كل دولار وقع اقتراضه بين سنتي 1970 و 2009، ولا زالت الفوائض ومبالغ “خدمة الديون” تقتطع من ميزانية الصحة والتعليم والخدمات الإجتماعية.

ساهمت هذه العوامل مجتمعة في تعميق التبعية الإقتصادية، واختناق الوضع الإقتصادي وعدم قدرة النظام على السيطرة على الوضع، ولم يعد بإمكانه إلقاء بعض الفتات لإسكات الأصوات المحتجة، ولم تساعده الرجعية العربية التي تفضل إستيراد المهاجرين من باكستان والهند وبنغلاداش والفلبين وغيرها، وتشغيلهم في ظروف أقرب إلى العبودية أو القنانة، منها إلى العمل المأجور ورفض تشغيل العمال العرب وحل مشاكل “زملائهم”، حكام أنظمة تونس ومصر والمغرب واليمن.

ب – الوضع السياسي

بلغ عدد الأحزاب المرخصة في تونس عام 2010 تسعة أحزاب، ولكن الحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي، وريث الحزب الدستوري الجديد الذي تأسس سنة 1934، وهو أيضا وريث الحزب الدستوري القديم الذي تأسس حوالي 1920) كان يهيمن على الحياة السياسية وعلى جهاز الدولة وعلى كل دواليب سير المجتمع، ويضطر أغلب المواطنين للإنتساب للحزب الحاكم لقضاء شؤونهم الإدارية والقضائية أو للعثور على وظيفة، وتلاقي الأحزاب القانونية صعوبات كبيرة لطبع وتوزيع صحفها وعقد اجتماعات عمومية أو اجتماعات مضيقة في محلاتها التي تحاصرها الشرطة وتمنع المواطنين من دخولها، ويختار الحزب الحاكم (بواسطة أجهزة الدولة) مرشحي المعارضة ويقرر مسبقا نسبة وعدد الفائزين في الإنتخابات المزيفة، حسب قواعد تتغير قبل كل دورة انتخابية.

ويوجد في تونس حوالي 12500 جمعية هيمن الحزب الحاكم عليها جميعا، باستثناء بعضها التي تقل عن العشرة، منها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وجمعية النساء الديمقراطيات وجمعية النساء من أجل البحث والتنمية والمجلس الوطني للحريات… ونقابة الأجراء “الإتحاد العام التونسي للشغل”، التي بقيت القوة المنظمة الوحيدة القادرة على تجنيد اعضائها وفتح أبواب مقراتها لاحتضان التحركات والإحتجاجات، رغم مهادنة القيادة للنظام وتآمرها أحيانا ضد مصالح الشغيلة والشعب.

تواجد داخل “الإتحاد العام التونسي للشغل” نقابيون من مختلف الإنتماءات السياسية، وبقي اليسار يمثل ثقلا داخل الهياكل الدنيا والوسطى، رغم مناورات القيادة التي نجحت في إبعاد العناصر اليسارية (والنساء) من أعلى هيئة (المكتب التنفيذي)، لذا لا غرابة في تفاعل القيادات النقابية المحلية (الصحة، التعليم، النقل، البريد…) مع المحتجين والمتظاهرين، لكنهم فعلوا ذلك كأفراد وليس كمجموعات تنتمي لأحزاب أو منظمات يسارية.

قبل الإنتفاضة كانت الشرطة قادرة على منع اللقاءات والتظاهرات، فتغلق منافذ المدن والأحياء وتحاصر المناضلين في منازلهم، وإذا أفلت أحدهم من مراقبتها فإنها تبحث عنه ولما تلقي القبض عليه تعيده إلى منزله، وساهمت الإنتفاضة وتوسع رقعة الإحتجاجات في كسر حاجز الخوف وفي إبطال مفعول الرقابة، وتراخي القبضة الأمنية، بفعل تكاثر عدد المحتجين وبالتالي عدم تمكن الشرطة من ملاحقة كل المشاركين.

لعبت النقابة العمالية دورا يتجاوز دور النقابات عادة، نظرا لغياب الأحزاب المنحازة للفقراء والكادحين، ونظرا لتواجد العديد من مناضلي اليسار المنحازين طبقيا للفقراء، وبداية من يوم 28/12/2010، اضطر جزء من قيادة الإتحاد العام التونسي للشغل إلى الإنظمام إلى بقية المتظاهرين “من أجل الشغل والحرية والكرامة”، ولم تفد تراجعات زين العابدين بن علي، وإقالة وزير الداخلية ووزير الإعلام، بل أعلن الإتحاد العام التونسي للشغل تنظيم إضرابات عامة في الجهات بداية من يوم 12 كانون الثاني، وكان التتويج في العاصمة يوم 14 كانون الثاني (يوم رحيل بن علي)، حيث تظاهر مئات الآلاف في شوارع تونس والمدن الأخرى.

لم تكن الأحزاب السياسية مهيأة لمواكبة الإنتفاضة، التي فاجأت الجميع (بما فيها أحزاب اليسار، بل وخصوصا أحزاب اليسار)، ولذلك يصعب العثور على مواقف وبيانات الأحزاب خلال الأسابيع الثلاثة الأولى للإنتفاضة، وإن صدرت بيانات فهي مقتضبة وعامة ولا ترقى لمستوى الحدث، التي لم تكن مهيأة لفهمه ومجاراته، فضلا عن تأطيره وقيادته. لقد كان اليسار مقموعا ومدجنا في عهد بورقيبة وبن علي، ولم يكن يسمح له بالعمل السياسي أو بالتوجه إلى المواطنين الخ، لكن هناك دروس لم يقع استخلاصها من الماضي البعيد (الإضراب العام 26/01/1978، وانتفاضة أواخر 1983 وبداية 1984، ضد ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وإلغاء صندوق الدعم) والقريب (انتفاضة الحوض المنجمي وما تبعها لمدة سنتين)، ولم تكن مسألة تغيير نظام الحكم مطروحة في جدول أعمال اليسار التونسي، بسبب بعده عن هموم الفقراء والكادحين وعدم اندماجه داخل الفئات التي يفترض أنه يمثل مصالحها وطموحاتها، وكان يطالب بإصلاحات بالتحالف مع اللبراليين والإسلام السياسي (تحالف 18 اكتوبر) أو مع قوى ترفض تجاوز المنظومة المسموح بها من قبل النظام (الإئتلاف الديمقراطي)، أو بعض المجموعات الصغيرة الأخرى التي لم تطرح بدورها خطة للتغيير الثوري. ولما حانت الفرصة، لم تستطع هذه القوى اللحاق بالركب، لأنها لم تتجاوز الصيغة المطلبية الإصلاحية وبقيت إلى آخر لحظة تطالب النظام المتهاوي ببعض الإصلاحات، وواصلت ذلك بعد سقوط رأس النظام، وتعويضه برموز أقل انكشافا، ودخل بعضها في مساومات مشينة مع حكومات “محمد الغنوشي” الأولى والثانية وحكومة “الباجي قائد السبسي”، ولم تعمر “جبهة 14 جانفي” طويلا بسبب انتهازية البعض بدعوى “معارضة سياسة المقاطعة أو الكرسي الفارغ” وبسبب محاولة قوى أخرى الهيمنة واحتلال مواقع أكبر من حجمها الحقيقي.