عبداللطيف مهنا
قبل أيام غشتنا ذكرى “النكسة”. من العرب من لم يعد يستسغ هذه التسمية. وهناك منا من يعيب علينا إطلاقها على هزيمتنا في الخامس من يونيو 1967، باعتبار أن ماحدث لنا كان أكثر من نكسةٍ ولم يكن أقل من هزيمةٍ نكراء لازلنا نعيش عقابيلها الكارثية حتى يومنا هذا. بل لانعدم من بيننا من لابأس عنده من أن يفضِّل إستخدام تسميتها الإسرائيليه، “حرب الإيام الستة”. نعم، لقد كانت هزيمة مرة لا زلنا نتجرَّع صابها ويسري علقمها في عروقنا، لكنما تسميتها في حينه لم يكن إلا باعتبارها، عند عرب مواجهتها لا التسليم بها، هزيمةً ناجمةً عن عدوان لابد من إزالة آثاره، وجولة في صراع مديد لانملك إلا خوضه، والإنتصار فيه بالنسبة لنا ضرورة وجود. بمعنى آخر، كانت التسمية إعلان يعكس إرادة أمة لا تقبل نتائج عدوان ولا تعجز عن مواجهته والرد عليه، وتعبير في حينه عن ثقتها بإمكانية نهوضها من كبوتها وعن إيمانها بنفسها وبقدرتها على استعادة كرامتها ونيل كامل حقوقها. وعليه، ومنذ اليوم الأول بدأ العمل لإزالة آثار تلك النكسة، وكانت لاءات الخرطوم الشهيرة، وبعد قليلٍ من الأعوام لم تزد على الست كانت حرب 1973 التي إنتصر فيها الجندي العربي فخذله السادات وحوَّلها موضوعياً الى أم النكسات التي تلت جميعاً. بمعنى أنها كانت نكسة في عرف الواثقين في عظمة هذه الأمة المجيدة القادرة على إزالة آثارها وعلى مواصلة صراعها التناحري مع أعدائها وحسمه لصالحها أوانقضائه فحسب بانتصارها… وكانت مجرَّد هزيمة ماحقة لاغير بالنسبة لمن ساروا على هدى المنطق الساداتي فحوَّلوها فعلاً الى نكبةٍ مضافةٍ، أو ثانيةٍ، استدامتها فيما بعد إنهزاميتهم وتعايشت معها دونيتهم.
قبلها، قبل خمسةٍ واربعين عاما، كانت فلسطين هى القضية المركزية للأمة العربية، أو ما لا يجروء عربي على القول بخلافه، وكانت مسألة تحريرها مهمة معلنة لكامل الأمة وتعد واحدةً من مسلماتها. وكان تحريرها يعني إستعادة كامل ما أغتصب منها إثر نكبة 1948، أو هذا الجزء الذي يظهر اليوم في خوارط ونشرات وحوارات بعض الفضائيات العربية تحت مسمى “إسرائيل”… وبعدها، وإثر تحوُّل مفهوم النكسة الى آفة التسليم بالنكبة، أي من هزيمةٍ في معركةٍ الى هزيمةٍ لإرادةٍ، تبدَّلت المهمة العربية المعلنة من تحرير ما بعد النكبة إلى إستعادة ما بعد النكسة، واختُصرت فلسطين في غالب الأدبيات الرسمية العربية الى الضفة الغربية وقطاع غزة… ومع استشراء المنطق الساداتي نفض النظام العربي يده من القضية التي لم تعد عند قطرياته الغارقة في أولوياتها مركزية. وهذه الإستعادة لاتعني تحريراً، لأنها غدت بعهدة منطق “السلام خياراً إستراتيجياً وحيداً” رهينة التفاوض حتى التصفية. أسهم في هذا إستشراء العجز العربي وساعد على تبريره سيادة منطق “يا وحدنا”، الفلسطيني، وأحبولة ” الممثل الشرعي الوحيد” الفلسطينية-العربية الرسمية المشتركة، وجاء الإنحراف الأوسلوي الكارثي لينعش باطل التذرع العربي الرسمي اللاحق بمقولة “لسنا ملكيين أكثر من الملك”! فأصبحت ال22% المحتلة من فلسطين بعد العام 1967 عند هؤلاء أراضٍ متنازعٍ عليها لاأكثر، واتاحت خطيئة أوسلو وملهاة “المسيرة التسووية” برعاية عدو العرب الأول الولايات المتحدة الأميركية الوقت الكافي لتهويد القدس وبقايا ما لم يهوَّد بعد من الضفة الغربية، وتشديد الحصار الإبادي على قطاع غزة بمشاركة عربية مشهودة ومباركة دولية معروفة، وجاري التمزيق الموضوعي لوحدة الساحة السياسية الفلسطينية، أي انشطارها مابين مساومٍ ومقاومٍ، ليضيف لإولئك المتذرعين ذريعةً أخرى.
واليوم إذ تمر ذكرى النكسة التي حُوِّلت إلى نكبةٍ مضافةٍ، أو هزيمةٍ مستدامةٍ، أوسموها ماشئتم، وكأنما هى لم تمر بالنسبة لغالب العرب، تماما كما هوحال ذكرى النكبة السابق عليها بأسابيع، تلك التي، كما قلنا في حينها في مقالٍ سابقٍ، قد تفرَّد الفلسطينيون وحدههم أوكادوا بإحيائها، لكنما، بالنسبة لهذه التي أعقبتها، فلولا ماكان من إحيائهم لذكراها في غزة لمرت عليهم مرورها على أشقائهم… أما “السطلة” فقد أحيتها على طريقتها الأسلوية. إذ إشتكى رئيسها في آخر ما جد من الحلقات الدافوسية في مسلسل اللقات اللإقتصادية الدولية المنعقد منتداها السنوي الدوري مؤخراً في إسطنبول من أن “شركائه” في “السلام”، الذين، كما قال “تنازلنا لهم عن ثلاثة أرباع فلسطين قد أداروا لنا ظهرهم”! وبالتوازي مع ما قاله، وكأنما هو الرد عليه، جاءه من راعي “الشراكة السلامية” ووسيطها “النزيه” الولايات المتحددة، ومن قبل رئيسها باراك أوباما، حين استقبل في مكتبه في البيت الأبيض وفداً من يهود بلاده المتدينين، ليطمئنهم الى أن ماجرت عادته على وصفها بنافذة السلام “قد أُقفلت”، لأن الفلسطينيين، لا يرغبون في فتحها! وليوضح لضيوفه أن كل ما بدا سابقاً ضغوطاً من قبل إدارته على حكومة نتنياهو بشأن تلك “النافذة” التي أُقفلت إنما كان لحرص الولايات المتحدة على مصلحة إسرائيلها.
… أربعةٍ وستين عاماً من النكبة وخمسةٍ واربعين من النكسة، والى أي مدىً قادمٍ قد يتطلبه حسم الصراع العربي الصهيوني على فلسطين لصالح أمتنا، تظل مهمة تحرير فلسطين ضرورة وجود ومهمة أمة بكاملها، والفلسطنة هوية نضالية وليست زمرة دم أو إمتياز بالتنازل لمن توَّهموا أن الغزاة سوف يقبلون عليهم لتنازلاتهم ولن يديروا لهم ظهرهم بعدها… ولن تعود فلسطين قبل أن يعود العرب لفلسطنتهم.