(4)
التجويف والتجريف
عادل سمارة
تناقش هذه السلسلة مفاهيم ومصطلحات، وضعتُها واستخدمتُها على فترات متفاوتة، ولا ازعم أنها ثوابتاً لا لديَّ شخصياً ولا لدى الزمن. ولكنها محاولات لإعطاء معنى لأحداث وموضوعات وحتى لمفردات تتطلب ذلك. ليس هذا نحت لغة أخرى مثلاً كما زعمت النسويات الراديكاليات بخلق لغة ضد ذكورية فاصطدمن بحائط أدى إلى الصلع الفكري، ولا كما يزعم من يتهربون من الفكر الشيوعي بتهمة أنه –اوروبي- فيرفضون أدواته في التحليل ويحاولون خلق أدوات أو لغة أخرى، نحن بانتظار إنتاجهم!
اللغة نتاج البشرية، والعبرة في تحميل المعنى وتحرير الأدوات. هذه محاولة لتحرير المعنى من أجل تحرر الإنسان، هي إعلان انفلات اللغة وتحررها من قيود فُرضت عليها سواء من مفكرين/ات أو مؤسسات، اي خروجاً على التعليب. وعليه، فهذه المعاني مفتوحة سواء على تطورها/ تطويرها من الكاتب او اي قارىء.
“كنعان”
* * *
التجويف والتجريف
عادل سمارة
كما اذكر، ذَكر مصطلح التجريف د. محمود عبد الفضيل منذ فترة طويلة، وكان يقصد به هجرة قوة العمل من مصر إلى كيانات الخليج مما أفقد مصر قوة عمل/إنتاج ابنائها بما في ذلك من إعاقة حتى للنمو الاقتصادي. وقد نضيف هنا أن نتيجة ذلك كانت تجنيد عقيدي وهابي من جهة ورأسمالي طفيلي وغير إنتاجي من جهة ثانية مما شكل قاعدة قوية لقوى الدين السياسي.
قادني التفكير في تطورات 2011 في الوطن العربي لقراءءة التجريف من زاويتين مختلفتين:
قراءة التجريف على مستوى الثروة في الوطن العربي وقراءة المناخ السياسي والاجتماعي الذي جعل هذا التجريف ممكناً، وهذا المناخ هو تجويف الوعي وهو ما ذكرته في كتاباتي عن بدايات هذا الحرك.
يمكننا القول إن تجويف الوعي هو سياسة جرى فرضها في مختلف البلدان العربية، وإن بدرجات واشكال مختلفة. وجوهر تجويف الوعي هو قمع الحركات السياسية وحتى الاجتماعية عبر فرض سياسات مضادة للديمقراطية والحريات، كمنع الأحزاب أو السماح الجزئي للأحزاب، وغض الطرف عن نشاط قوى الدين السياسي مع زعم قمعها، والرقابة على الكتب، واعتماد إعلام رسمي يخدم توجهات السلطة سواء فيما يخص الحريات أو السياسات القطرية والفئوية والمذهبية، وإطلاق اليد للمنتجات السلعية والثقافية الغربية الراسمالية، ومنع النقابات أو ربطها بالسلطة كنقابات صفراء…الخ. المهم أن تجويف الوعي هذا ساد في القطريات العربية جميعها سواء الجمهوريات ذات التوجه القومي العروبي أو الملكيات والمشيخات المعادية للأمة والقومية. هذا بالمعنى السياسي الاجتماعي العام.
أما بالمعنى الوطني والقومي فانقسمت القطريات العربية إلى فئتين:
فئة الأنظمة غير العروبية، والتي ركزت القُطرية بل ركزت حتى ثقافة كيانات اقل من قطرية في سعي لتقويض اي مشترك قومي، وهذه الفئة التي نسميها الفئة الأولى من القومية الحاكمة بمعنى أنها معادية كليا للمسألة القومية، وهي متماهية مع المركز الراسمالي الغربي كما انها تخص المرأة بالإنكار التام ناظرة إليها كأداة ومطية للذكر الذي يجد “حريته” في السيطرة عليها.
والفئة الثانية وهي غالباً الجمهوريات مصر، سوريا، العراق، الجزائر، ليبيا، والتي ركزت على البعد القومي، ولكنها فشلت في رفعه إلى مستوى التنفيذ الفعلي اي الوحدوي، إلا أنها أبقت على أرضية ثقافية قومية في المجتمع، ولعبت دورا سواء في دعم المقاومة والممانعة أو ممارسة الممانعة، كما اعطت المرأة حرية ما بدرجات متفاوتة نتيجة لتوجهاتها العلمانية. وبالعموم، ليس هذا مجال مناقشة إن كان هناك مجتمعاً مدنياً في ظل سلطات تجويف الوعي وتجريف الثروة.
إن تجويف الوعي هو المقدمة الضرورية، هو الشرط الضروري لتجريف الثروة بمعنى أن لتجويف الوعي هدف آخر يتم توظيف التجويف من أجل تحقيقه. فلا يمكن أن يكون تجويف الوعي هدفاً بحد ذاته. والهدف هو تجريف الثروة من أجل التراكم. فالتجويف ينتهي إلى تغييب أية معارضة أو نقد أو رفض أو احتجاج على سياسات السلطة الحاكمة في نهب ثروة البلد والتحكم بها وهي الأمور التي تنتهي إلى عدم النمو وإلى الفساد والمحسوبيات والارتباط المصلحي بالأجنبي وإطلاق يده في البلاد وتعميق احتجاز التطور والتبادل اللامتكافىء…الخ.
وفي التجريف كما في التجويف انقسمت الأنظمة العربية إلى فئتين:
ـــــ فئة القومية الحاكمة اللاعروبية: يزعم ويروج النظام في هذه الفئة بأن الملك أو الأمير هو خالق ومالك الثروة الريعية فهي مثابة ثروته الشخصية أو الأسرية، وطالما هو الذي يخلق ويملك فهو يتصدق على البلد. وبالطبع يعرف هؤلاء الحكام انهم كاذبون ولكن ليس أمامهم سوى الإصرار على أنهم يملكون الناس والمال والأرض فيركزون نمط التفكير الإقطاعي.
ـــــ وفريق القومية الحاكمة العروبي: والذي ايضاً يتحكم في الثروة سواء كانت ريعية أم فوائض الإنتاج المحلي، ولكنه لا يتحكم بها على اعتبار انه المالك. فميزانية الدولة هي باسم الدولة، ولكن يتم التحكم عبر الفساد، والتحالف مع الراسمالية الطفيلية وتقليص دور الدولة وإلغاء القطاع العام واعتماد اقتصاد السوق المفتوح (مصر) أو السوق الاجتماعي سوريا.
يمكننا القول إن من اهم اسباب الحراك في الوطن العربي حالياً هو رفض التجويف والتجريف. وهي أمور لأن الثورة المضادة لها دور في حصولها، فقد امتطت الحراك باكراً ونجحت في حرفه وتشويهه (مصر وتونس وليبيا)، أو هي في حالة انسداد عن إنجاز ذلك في حالات كسوريا، وفي حالة شلل (اليمن).
بقي أن نشير إلى ان كثير من المثقفين شركاء في التجويف والتجريف، هم شركاء في التجويف عبر ارتباطهم بالأنظمة وعدم مقاومتها بل إطرائها او انخراطهم في منظمات الأنجزة لزيادة التجويف ومقابل ذلك يقبضون من المحلي والأجنبي، اي يصبحون شركاء متواضعين في التجريف.