زياد منى وأنسي الحاج

عادل سمارة

عزيزي الأستاذ زياد منى،

 

فقد قرأت ردك[1] على السيد أنسي الحاج وتحديداً على المشابههة بيننا وبينهم، وهي مشابهة تنتهي إلى تفضيلهم. ومع علمي بأنك عميق الاهتمام بالتاريخ القديم ولأنك ذكرت الأندلس وكيف عاشت الناس جميعاً في دولة الأمويين هناك، لا بل كان الحي اليهودي في إشبيلية هو الملاصق قبل غيره للقصر الملكي، هذا ما شرحه لي مهندس البلدية وهو من الحزب الشيوعي الأندلسي حيث بدأ حديثه كالتالي: بعد أن احتل الإسبان الأندلس. دُهشت وخِلت أنني لم أفهم فطلبت منه الإعادة فكرر بوضوح!

لا اقول أن العرب كانوا هناك أصحاب أرض لكنهم زرعوا هناك بعد فتحها، وكي لا يغضب اللاعروبيون، اقول احتلالها، زرعوا هناك حضارة إنسانية حقيقية.

تقول آخر البحوث بأن كولومبس كان يحلم بجمع المال والرجال لاحتلال القدس وإرسال اليهود إليها نظراً لما عانوه من قمع ومذابح في إسبانيا. بدل أن يعمل من أجل حق اليهود في العيش هناك في موطنهم إسبانيا وبدل أن يواجه الطغيان الإسباني أصر على احتلال القدس مأخوذا بأساطير التوراة ذلك الكتاب الذي يتم استكماله حتى اليوم ولن يتوقف فهو كتاب مفتوح للتأليف الموسع ناهيك عن التلمود! أراد تخليص القدس من “المسلمين” لاحظ، ليس تخليصها من العرب على حد ما تكتبه كتب التاريخ المتغربنة، فهي تتحاشى قدر الإمكان ذكر العرب سوى في معرض التشهير.

وهكذا فعلت الصهيونية التي بدل أن تقبل الاندماج في البلدان الأوروبية التي ذبحت اليهود هربت بالأمر إلى فلسطين. وليس هذا ما أود التفصيل فيه هنا.

ولكن، هل تعلم ما الفارق بين القتل في فورة الغضب أو العمى التكفيري أو القمع السلطوي؟ كل هذه مسائل وقتية. أما الوحشية القصوى التي لا أعتقد أن الحاج يجهلها فهي القتل الدائم، المذبحة الدائمة في فلسطين منذ مئة عام. هل يمكنك أن تشرح لي كيف تستطيع جماعة بشرية أن تعيش طوال عمرها في تعذيب الآخرين دون أن تتعب من التعذيب؟ أليس التعذيب في هذا المعرض ثقافة متأصلة بل يجري تعميقها عن قصد ومنهجية؟

لا أود الخوض في علم المخابرات ومثقفيها بأن اقول أن الفاعل في الحولة وغيرها ليس النظام السوري، لنترك هذا للتاريخ ربما القريب. لعل ما يدهشني في هذا السياق هو ذلك الركض لتبرئة أو مديح الكيان الصهيوني الإشكنازي وحتى الغرب الراسمالي؟ فأي لا وعي هذا؟ بل ولماذا؟

ليس لأمر فقط أننا لا نشبههم يا عزيزي، فهم يرفضون اصلاً أن نتشبه بهم. لو رجعت إلى مقولة The West and the Rest (الغرب والبقية)، ومقولة The uniqueness of Europe(فرادة اوروبا) وشروحاتهم عليهما بأن دورهم جذبنا أو جرنا للأخذ بثقافتهم ومن ثم تأكيدهم بأننا لن نتمكن من إتقان ثقافتهم، لعرفت اين يقف مثقفونا المتغربنون والمتخارجون سواء منهم الذين في الوطن أو مثقفي ما بعد البحار. (سوف أرسل لك فصلا من كتابي حول مسألة الثقافة برأيهم، بل الكتاب نفسه Beyond De-linking: Development by Popular Protection vs Development by State

أعتقد أن السيد الحاج متأثر إلى درجة كبيرة بما يسمى ريادية او تفوق اليهود. وآمل أن أكون على خطىء وخطل. ولكن على سبيل المقارنة، استحضر هنا التالي.

يعاني كثيرون من مثقفينا مشكلة القبول بدور الضحية والتوقف هناك. وهذا بحد ذاته إكبار للقاتل وتمثُّل به. هو إصرار على أن يرى نفسه مجرد نتيجة لعدوه، صورة لعدوه عبر كونه ضحية وحسب. إن كونه صورة فهو ضحية وبالمناسبة هذا الشعور بل تمثل دور الضحية أقنع مثقفين/ات هنا في الأرض المحتلة بأن العمالة الثقافية للكيان وللغرب بدءا من امريكا وصولا إلى النرويج هو امر طبيعي طالما كل من عليها –اقصد أرضنا- مهزوم. وهنا استحضر أطروحة إيلان بابيه بأن الصهيونية خلقت نفسها وخلقت الفلسطيني. وهي الأطروحة التي جعلت منه أيقونة لكثير من المثقفين العرب والفلسطينيين بما هو أحد المؤرخين الجدد الذين ينقدون الصهيونية ولكن لا يتنازلون عن التالي، وإن بخبث:

ـــــ بقاء دولة الكيان كدولة لليهود مما يُبقي الأرض بيدها (وبالمناسبة هذا جدل حاخامات يؤكدون على عدم تقسيم ما يسمونه أرض إسرائيل حتى لو بقي فيها عربا)

ـــــ حصر رؤيتهم للصراع في الفلسطينيين والإسرائيليين

ــــ والابتعاد بالمطلق عن العمق العربي

ــــ ابتعاد أكثر عن أن الحل هو في وطن عربي اشتراكي تعيش فيه الإثنيات والطوائف كبعضها.

وبهذا وافق هؤلاء على أن الصهيونية هي ذات اليد العليا “أخلاقيا” و “قووياً” وإلى الأبد، والأخطر هو تحول هؤلاء المثقفين/ات إلى “شرف” تكيُف الفلسطيني مع هذا المسيطر.

بدوره أخذ فيصل دراج أطروحة إيلان بابيه وأكدها :”ذاكرة المغلوبين”. وهذا يعني استحالة الخروج من إسار العدو وحال الضحية. وربما كان فيصل مأخوذاً بتهالك المقاومة في بنيتها الحالية. هذا مع أن المقاومة في مرحلة ما ليست كل شيء ولا نهاية الأساس الذي يقول إن الحياة مقاومة.

ومع أن المجال لا يتسع لنقاش موسع هنا إلا أنني أود التذكير بأمرين هامين:

الأول: أن الصهيوني (المؤرخ الجديد) إيلان بابيه لم يتخلى عن صهيونيته حتى في تعاطفه مع الضحية حيث أبقى على تفوق وسيادية الصهيونية كخالقة للفلسطيني.

والثاني: أن الفلسطينيين من دراج إلى كثيرين قد وقعوا في أُحبولة “تقدمية” بابيه فتقبلوا أطروحته وبذا سكنتهما روح الضحية.

وفي موقفه هذا فإن فيصل يفصل تماماً بين الوجود الموضوعي الإنساني للفلسطيني في وطنه والذي هو مصدر المقاومة التي استفزها الاستعمار الاستيطاني ولم يخلقها وكذلك لم يخلق الفلسطيني، بل خلق الصراع الذي هو حقبة طارئة على الوجود الفلسطيني. ولو كان الفلسطيني من خَلْقْ الصهيوني لما كانت هناك مقاومة اصلاً. فالمقاومة امتداداً للوجود الموضوعي للشعب.

أختم هنا بالإشارة إلى إثنين تشومسكي وفانون:

تشومسكي: يقرأه مثقفون عرب وفلسطينيون كما لو كان الرسول أو المسيح المخلص، مع أنه قال بوضوح وكتب بأوضح بأنه ضد دولة واحدة لأن اليهود سيكونوا فيها هم الخاسرون. ومع ذلك لم يجرؤ أحد من “حوارييه” على نقده! فهنيئاً له! بالمناسبة هو قضى شبابه في الكيان، وربما لهذا لم يتخلص من عنصريته رغم كل فلسفته في اللغة التي ليست فلسفة كما يبدو في المعنى.

وفانون: الذي قد لا يعرفه سوى ندرة من العرب والفلسطينيين الذي لم تمنعه بشرته زنوجته كاريبيته حياته تحت الاستعمار الفرنسي الأخطر دمويا وثقافيا، كل هذه لم تمنعه من الانتماء للجزائر والنضال ثم الارتفاع من الضحية إلى من أعاد خلق المستعمِر والمستعمر معا عبر الكفاح المسلح. لا بل إن أصوله هذه هي مصدر ثورته.

أختم بما يشبه التندر: في لبنان هنالك مثقفون ومثقفات يطالبون بنزع سلاح حزب الله من فرط محبتهم للكفاح المسلح؟ أدعو هؤلاء للمجيء هنا في أرض أوسلوـــــ ستان. ولك تحيتي

 


[1] المنشور أدناه.