د.نهلة الشهال
“اتهم” قادة من حزب ساركوزي السيد ميلانشون، مرشح اليسار للرئاسة (يسار الحزب الاشتراكي الفائز)، بأنه صديق ميكيس ثيودوراكيس، الموسيقي اليوناني العالمي والمناضل الذي ما زال يشارك في التظاهرات رغم سنيه الــ88. ما رد عليه ميلانشون ذاك بأنه…ليس صديقه ولم يلتق به يوماً!! وأنه سيلاحق قضائياً “مشوهي سمعته” وهم ثلاثة وزراء سابقين، بل مضيفاً بأنهم هم وحكومتهم من منح السيد ثيودوراكيس وسام الشرف الفرنسي الأعلى عام 2007.
وأما التهمة /العرة فهي معاداة السامية والصهيونية. فصاحب موسيقى فيلم “زوربا اليوناني” ـ التي أصبحت تعرِّف بالفيلم وتفوقه شهرة، رغم أهميته بذاته ـ وصاحب الإنتاج الموسيقي المبدع وشديد الغزارة مما منحه أعلى جائزة موسيقية في العالم، وصاحب عشرات المؤلفات السياسية والفلسفية…إشتاط غضبا عام 2002 عندما هجم شارون على الضفة الغربية وأعاد احتلالها وحاصر ياسر عرفات في “المقاطعة”، وهو كان قد التقاه سابقاً وأعلن تأييده لنضال الشعب الفلسطيني مراراً. ثم عاد فجن من الغضب عند احتلال الأمريكان للعراق، ونطق بأقوال ضد بوش و”اللوبي اليهودي الأمريكي” الذي يرى أنه أصل البلاء. وعاد فقال إن لا مشكلة لديه مع اليهود كبشر، بل هو عاش مع العديد منهم ويحبهم، ولكنه يعتقد أن اللوبي ذاك يمارس سيطرة محكمة على السياسة الأمريكية، محملا الأجهزة الإستخبارية المسؤولية عن أيلول 2001، التي أدانها، معتبراً بن لادن دمية مستخدمة من قبل تلك الأجهزة (فحتى الموساد لا يملك بنظره التقنية اللازمة لتنفيذها). وهو قال في مقابلة إنه معاد للصهيونية، و” للسامية ” كما توظفها الصهيونية. يا للكفر!!
وحدهم الفرنسيون كفيلون بأخذ الأمور إلى هذا الحد. قد تكون تصريحات ثيودوراكيس تلك غير صائبة، ومخالفة لما هو “لائق سياسياً”، لكن الرجل الذي توازي قامته الإكروبوليس لا يُختصر بهذه. والأكثر إثارة هو رد فعل اليساري الراديكالي ميلانشون الذي يتبرأ من الرجل العظيم، وهو حقاً قد لا يكون إلتقاه (لسوء حظه، بعكس بابلو نيرودا وسلفادور اليندي وجمال عبد الناصر وفرنسوا ميتران نفسه…)، لكنه وضع على مدونته مقالة منذ عام بالتمام تعلن تأييده لندائه. وعنوان نداء ثيودوراكيس ” إلى المستنكرين من مواطني أوروبا واليونان”. والمستنكرون أو الساخطون باتت أسماء علَم تعين تياراً عارماً في أوروبا وأمريكا، شبابياً خصوصاً، يتمرد على النظام المهيمن. وتعود التسمية لبيان صغير أصدره مقاوم آخر للنازية، شهير وطاعن في السن هو الآخر، ومتضامن مع فلسطين وزار غزة رغم سنيه التسعين، اسمه ستيفان هيسيل، وعنوان منشوره الذي ترجم الى 36 لغة وباع عشرات ملايين النسخ: “استنكروا!” بلغة الأمر. الاستنكار ولد على أية حال مع الأزمة البنيوية للنظام الرأسمالي المعولم، حين أراد أركانه أن يحمِّلوا الفئات الأكثر فقراً وهشاشة كلفة تلك الأزمة، مبتكرين خطط ” التقشف ” كما يسمونها، فيما يتبارون لإنقاذ البنوك الكبرى، بحجة الخشية من الانهيار العام.
ماذا يقول نداء ثيودوراكيس، الموقع باسم “الشرارة ـ لجنة المواطنين المستقلين”؟ يخاطب المواطنين الأوروبيين بعد مخاطبته لليونانيين فيدعوهم لعدم تصديق ما تقوله حكوماتهم وصحفهم، وينتهي بأنه لا حل إلا بتغيير النظام الاقتصادي الأوروبي الحالي، مذكراً بأن “الديمقراطية ولدت في اليونان حين ألغى سولون ديون الفقراء للأغنياء” (والشاعر والمشرِّع سولون، واحد من سبعة هم “حكماء اليونان”، يعتبر أبو الديمقراطية، وهو الغى الرق بسبب الدين، واتخذ تدابير عدة باتجاه تعزيز حضور الشعب وليس الخاصة)، وبأن “اليونان، بلد أفلاطون وأرسطو و بيريكلس و بروتاغوراس، ومفاهيم الديمقراطية والحرية، ومفهوم أوروبا نفسه، قاتلت في الأربعينيات من القرن الفائت ضد الفاشية بطريقة مثالية حتى لا تستقر على القارة”، لكن “الأوروبيين يناضلون ليس من أجل اليونان بل من أجل أنفسهم”، فإن “وافقوا على التضحية باليونان وايرلندا والبرتغال واسبانيا، فسيأتيهم الدور، ولن يمكن بناء أوروبا وسط الأنقاض”. ويخص ثيودوراكيس البنك وصندوق النقد الدوليين بهجومه اللاذع وكراهيته.
ولا يتوانى ثيودوراكيس عن المشاركة في التظاهرات (وهي غالباً عنيفة في اليونان) وقد تعرض في شباط الفائت للضرب رفقة مانوليس غليزوس الذي يفوقه سناً، وهو المناضل الشهير الذي انتزع العلم النازي من على قمة الأكروبول بعد أيام من دخول جيوش هتلر الى أثينا عام 1941، ولم ينفك مذاك، كما ثيودوراكيس، عن النضال ضد النازية (أصدر أول نداء للمقاومة)، ثم خلال “الثورة المضادة” وهي حكم الإرهاب في اليونان (بين 1945 و1949 وتعرف بفترة الحرب الاهلية)، الذي تعرض ثيودوراكيس في ظلها للاعتقال والتعذيب والنفي الى معتقل ماكرونيسوس المرعب، حيث دفن مرتين حياً وحيث أصيب بالسل الذي لازمه مذاك، ثم عاد فناضل ضد حكم الكولونيلات برئاسة بابادوبولس (1967ـ1974)، ولم ينقذه من المعتقل وخطر الإعدام سوى حملة عالمية هائلة، فنفي إلى فرنسا.
لم يتوقف ثيودوراكيس عن اتخاذ المواقف طيلة حياته، وبشأن كل شيء. وحين اكتشف الموسيقى الشعبية اليونانية غرف منها وحوّلها إلى العالمية، لكنه لم يفعل إرضاء لذاته بل انشأ في الوقت نفسه مراكز ثقافية في طول البلاد وعرضها (أكثر من 200 مركز) حين أتيحت له فرصة تبوؤ منصب وزاري. اتخاذ موقف…