عبداللطيف مهنا
كان يكفي لبنان ما يرتع فيه من أزماتٍ، غالبها ما تتوالد في حاضنة مناخات تركيباته الطائفية، وأكثرها ما أزمن فلا ينقطع هبوبه في مضارب قبائله السياسية المتماحكة. ويكفي فلسطينيو المنافي القسرية في بائس حالهم الأقرب من أوجهٍ عديدةٍ إلى حال أهلهم في وطنهم المحتل ماهم فيه… يكفيهم بؤساً ومهانةً وحيوات “غيتواتٍ” تُفرض عليهم في منافٍ لجأوا اليها في قطرٍ عربيٍ شقيقٍ، ليضاف لهم اليوم جديد نهر البارد زيادةً على ذاك الذي هم فيه. بل يكفي أمة تكسرت على جسدها المثخن المشظَّى النصال على النصال مثل أمتنا، جراحاً تضاف إلى ما يسربلها منها.
ما حدث في مخيم نهر البارد، وما تلاه وقد يتلو من تداعياته، بالإضافة إلى كونه المستهجن المعيب، هو خطير ومسيىء للعلاقة بين شقيقين لطالما إمتزجت دماؤهما في مواجهة أعداء الأمة ولبنان وفلسطين. كانا، وكلٍ منهما يكفيه ماهو فيه، في غنى عنه، وقطعاً كانا لا يريدانه، لذا أداناه وشجباه ورفضاه وتبرءا منه وسارعا إلى تطويقه، بل واتهما طرفاً ثالثاً بتدبيره…حسناً كان هذا، لكن، هل هو كافٍ لؤد تداعياته وما يضيفه إلى ما تراكم من دواعٍ لاحتقاناتٍ، أو يحول دون تكراره؟ ثم، ما الذي أتاح لذاك الطرف الثالث، إن كان، فرصة تدبير مكيدته وسهَّل عليه مهمة جرِّهما إلى ما لا يريدانه؟!
كان يكفي اللبنانيين آخر ما فيه لبنانهم من أزمتين يكابدهما ويحاول عبثاً المنجاة من غوائلهما. الأزمة المعيشية المستفحلة، والسورية، التي يجهد للنأي بنفسه مما سيلحق به جراء محاولات تحويله إلى منصة إطلاقٍ ومعبرٍ لمكائدهم الهادفة إلى تدمير الدولة في الشقيقة الجارة وصب الزيت على نار اإزمتها، هذه التي يريدون إطالتها ومنع السوريين من التنادي إلى كلمةٍ سواء تحفظ لهم وطنهم وتحفظهم له. ل اسيما وإن نار الفتنة التي أشعلوها للبنان في هشيمه الطرابلسي لا زال إورها كامناً تحت رمادها وقد لا يطول أوان إعادة نبشه وإذكاء ماهو تحته مراتٍ أخرى… ويكفي الفلسطينيين نهش الأرض من تحت من تبقى منهم على أرضهم في الضفة الغربية، وإحكام الحصار الإبادي من حولهم في معتقل غزة الكبير، واصطيادههم على الحواجز ألإحتلالية التي تقطع تجمعاتهم البشرية في الأولى، وجواً وبراً وبحراً في الثانية، ووضعهم تحت طائلة تهديد مخططات “الترانسفير” في المحتل من فلسطينهم في العام 1948.
كل ما كان من الإدانة والشجب والإستنكار والتبروء والتطويق ووعود التحقيق حول ما حدث من إستباحةٍ غير مبررةٍ لدم الفلسطنيين في مخيم نهر البارد لا يكفي، وإنما على السياسات التي تفرض عليهم ما يعيشونه من حالٍ في كل مخيمات، أو معتقلات، لجوئهم القهري في لبنان، والتي لا تختلف كثيراً عن حالهم في غزة أو على حواجز الضفة، أن تتوقف…مخيم نهر البارد حتى الآن، وبعد كل هذه السنوات التي أعقبت تدميره، لا زال مدمراً. واحد وثلاثون ألفاً من قاطنيه لازالوا مشرَّدين خارجه أو يقيمون في الخيام. عملية إعادة إعماره يتم إبطاؤها وكأنما عن عمدٍ وسابق ترصُّدٍ، فحتى الآن، وبعد كل هذه السنوات، لم يُسَّلم من ما مجموعه خمسة آلافٍ وخمسين شقةً إلا مئتين. تحاصر الحواجز العسكرية على مداخله وقلب أزقته أنفاس من يعيشون فيه، فلايخرج خارج منه ولايدخل داخل إليه، بما في ذلك الزوار والصحافيين، إلا بتصريحٍ عسكريٍ، الأمر الذي يذكِّر ب”المحاسيم” أو الحواجز الاحتلالية في الوطن السليب، وأقله بممارسات المكتب الثاني قبل سبعينيات القرن المنصرم في ذات المخيمات. قرابة ثمانين في المئة من منكوبي نهر البارد هم عاطلون عن العمل بفضلٍ من قوانين العمل المطبَّقة على الفلسطنيين وحدهم في لبنان…و “محاسيم” ألأشقاء العسكرية تتدخل حتى في تنظيم السير فتطلق النار، كما حدث هذه المرة، على مراهق يقود درَّجةً ناريةً فترديه بذريعة عدم توقفه إنصياعاً للأوامر، الأمر الذي يمكن تشبيهه بما يحدث على مداخل نابلس أو طول كرم وداخل حارات الخليل!
ما حدث في نهر البارد ينسجم ، ومن أسفٍ، مع سياسة التضييق الرسمية المتبعة عموماً ازاء الفلسطينيين في لبنان، والذريعة دائماً ما يعرف بفزَّاعة التوطين، هذا الذي يرفضه الفلسطينيون، اللذين لا يرضون عن العودة لفلسطينهم بديلاً، حتى ولو قبله اللبانيون، ويندرج في جزءٍ كبير منه تحت نوعٍ مما وصَّفه البعض بحقٍ بإستقواء الضعيفٍ على شقيقه المستضف، بل أن من اللبانيين أنفسهم من نعته مراراً، وفي مناسباتٍ عدةٍ، بالتعامل العنصري مع شقيقٍ منكوبٍ، لدرجة حرمانه ، كما أشرنا، من حق العمل وفي معظم المهن، بل إن الفلسطيني يعد المخلوق الوحيد في لبنان الذي لا يسمح له إن واتته المنية أن ترث أسرته بيته. كما لا يمكن النظر لهذه السياسة إلا في سياق التشجيع على تهجيرهم مرة أخرى والخلاص منهم، وكيف للفلسطينين أن ينسوا أن وزيراً لبنانياً (نقولا فتوش) قد نعتهم ذات يوم ب”النفايات البشرية”… والمؤسف أيضاً، أن ما حدث قد قوبل بشبه تجاهل، أو لم يعط الإهتمام الكافي، من غالبية القوى اللبنانية…ما حدث كان يجب أن لايحدث. جيد أن طوَّق، لكنما لايكفي، إن لم تتم معالجة الأسباب الكفيلة بإعادة تسخين البارد مراتٍ أخرى…