سمير كرم
اكتملت صورة «الهيمنة الإسلامية» على المنطقة العربية بصعود «الإخوان المسلمين» إلى قمة السلطة في مصر.
اختلفت صورة الأحداث في مصر اختلافا يكاد يكون كليا عن الاحداث التي جرت في تونس واختلفت هذه عن الاحداث التي جرت في ليبيا، كما ان احداث سوريا الجارية الآن تختلف بدورها في الشكل والمضمون وقد تختلف في النتيجة. وعلى الرغم من التعقيد الذي تميزت به هذه الاحداث جميعا، حتى بدت لجماهير الشعوب العربية لغزا غير مفهوم، الا ان القاسم المشترك بينها كفيل بأن يوضح إلى اقصى مدى وجهة هذه الاحداث. ان تنظيم «الإخوان المسلمين» لعب ويلعب الدور الرئيسي فيها جميعا، ويشكل صعوده إلى السلطة، وقتاله من أجل الصعود إلى السلطة في سوريا، العامل المشترك الدال على حقيقة الاتجاه الذي تسير نحوه التطورات في المنطقة.
لكن ليس هذا هو العامل الاوحد المشترك. لقد صاحب صعود «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في هذه البلدان العربية دعم عسكري ومادي وسياسي ومعنوي، تضافرت فيه جهود وإمكانيات المملكة العربية السعودية وقطر والامارات العربية المتحدة. في كل الحالات، يتضح ان هذه الجهود والامكانيات عززت مواقف تنظيم «الإخوان المسلمين» للهيمنة على السلطة. وصحيح ان الامر استوجب في حالة ليبيا تدخلا عسكريا مباشرا من جانب حلف الاطلسي والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وكذلك من جانب قطر والامارات العربية. ولم يستوجب الوصول إلى هذا المدى في حالة تونس او في حالة مصر. والامر لا يزال معلقا لاعتبارات تتعلق بالتوازن الدولي كما تتعلق بالاوضاع الداخلية في حالة سوريا. انما يبقى واضحا ان الولايات المتحدة تؤدي دور قائد الاوركسترا في كل الحالات. هي صاحبة الخطط وهي القوة الرئيسية التي توجه وتدعم حركة الاطراف نحو تحقيق هدف وصول تنظيم «الإخوان المسلمين» إلى قمة السلطة.
ولقد بدت مصر مختلفة تماما. كانت مهيأة تماما لثورة شعبية عارمة على خلفية من أخطار وأخطاء النظام الحاكم فلم تستطع اي من القوى الداخلية او الخارجية ان تمنع وقوع الثورة الجماهيرية يوم 25 كانون الثاني (يناير) 2011. ولكن دور «الإخوان المسلمين» الذي بدا غائبا لم يلبث ان دخل على الوضع خلال ايام قليلة. ولم يلبث ان بدا انه قادر بقدراته التنظيمية على ان يهيمن على الثورة التي وقعت من دون ان تكون قد فرّخت قيادة ثورية في صورة مجلس لقيادة الثورة. وإذا بتنظيم «الإخوان المسلمين» يحقق الهيمنة ويلعب دور قيادة الثورة ويستولي عليها ويخوض معاركها لحسابه الخاص.
لم تتضح من البداية حقيقة الدور الأميركي في احداث مصر. ومع ذلك كان لا بد ان يبدأ اتضاحها بعد شهور قليلة عندما انكشف الغطاء عن اتصالات شبه سرية بين تنظيم «الإخوان المسلمين» والولايات المتحدة ممثلة في دبلوماسييها وفي قياداتها الاستخبارية التي لم تنقطع عن زيارة مصر طوال فترة العام ونصف العام منذ تاريخ 25 يناير 2011. وانزاح الغطاء كليا عن الاتصالات الأميركية مع الإخوان في مصر بعد ان صعد هؤلاء بأساليب بين الشرعية وغير الشرعية إلى مركز الاغلبية البرلمانية في مجلسي الشعب والشورى المصريين. وقتها اذيع لاول مرة وبصراحة غير مسبوقة ان «الإخوان المسلمين» قدموا لمندوبي الولايات المتحدة الذين توافدوا على مصر تباعا ضمانات ببقاء معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل واستمرار حالة السلام بينهما. وتوالت الضمانات الإخوانية لأميركا بشأن طبيعة النظام الاقتصادي – الاجتماعي في مصر حينما تكتمل هيمنة الإخوان على الحكم بانتهاء الفترة الانتقالية التي يتولى خلالها تسيير امور البلاد المجلس الاعلى للقوات المسلحة.
بدا خلال تلك التطورات الغريبة في الوضع المصري ان الولايات المتحدة تولي تنظيم الإخوان المسلمين في مصر اهمية تفوق اهتمامها بالمجلس العسكري. وتبين ان ذلك لم يكن ناجما فقط عن اطمئنان الجانب الأميركي إلى المجلس العسكري الذي لم تنقطع الاتصالات معه طوال اعوام حكم حسني مبارك الثلاثين لمصر، بل لان الولايات المتحدة كانت ترقب عن كثب خطوات تنظيم «الإخوان المسلمين» إلى قمة السلطة، كما كانت ترقب التناقضات التي بدت في بعض الاحيان بين هذا التنظيم الإخواني والمجلس العسكري. ولقد عرف الأخير الحدود الفاصلة بين دوره، اثناء الفترة الانتقالية وبعدها، ودور «الإخوان المسلمين» اثناء فترة الاغلبية البرلمانية وبعد ذلك اثناء فترة صعود «الإخوان» إلى سدة الرئاسة في «اول انتخابات ديموقراطية» في تاريخ مصر منذ العهود الفرعونية.
تشير الدلائل في احداث مصر المتعاقبة إلى ان علاقة الإخوان المسلمين بثورة 25 يناير ستبقى مشكلة. فلقد تبين ان الإخوان تولوا الرئاسة في مصر بنسبة من اصوات الناخبين المصريين لم تتجاوز الربع. وتبين ان التنظيمات الشبابية التي شاركت في الثورة انقسمت قبيل بداية معركة الرئاسة إلى تنظيمات اتخذت جانب الإخوان المسلمين في الميدان وخارجه، وتلك هي التنظيمات التي تولت تدريبها المؤسسات المتخصصة الأميركية، وتنظيمات اختارت ان تشكل الجبهة الثالثة التي تقاوم الهيمنة الأميركية وتنحاز إلى جماهير مصر وليس إلى تنظيم الإخوان المسلمين.
وسيكون من الحتمي ان يواجه الإخوان المسلمون مشكلة المسافة الفاصلة بين شعاراتهم المرفوعة في ميدان التحرير وميادين التحرير في مدن مصر الاخرى وسياساتهم الداخلية والخارجية في الممارسة ابتداء من الحفاظ على سيطرة رؤوس الاموال على المصالح الاقتصادية والحفاظ على سلام العلاقات مع اسرائيل والتنسيق الدقيق التفصيلي مع الولايات المتحدة. انما الاهم من هذا في معركة المواجهة القادمة بين الإخوان المسلمين والثورة المصرية بتنظيماتها الحقيقية وجماهيرها هو ان الإخوان سيكونون مطالبين بإثبات صحة ولائهم لمصر. فقد كشفوا خلال فترات ماضية عن ولاء اوسع يبرر الدعم الذي حصلوا ويحصلون عليه من السعودية وقطر والامارات، هو ولاؤهم للخلافة الإسلامية وعاصمتها القدس. ترى متى يستطيع الإخوان المسلمون وقد تولوا السلطة الرئاسية في مصر ان يحلوا التناقض بين هذه الدعوة إلى حرب دينية مقدسة في مواجهة اسرائيل وبين الضمانات المقدمة لاسرائيل والولايات المتحدة. وهذا ليس فحسب تناقضا في مواجهة اسرائيل والولايات المتحدة. انه في الاساس تناقض في مواجهة الجماهير المصرية والثورة. ترى كم يطول وقت الهدوء الذي سيحرص الرئيس الإخواني لمصر محمد مرسي على الابقاء عليه للحيلولة دون تحول مصر إلى ليبيا اخرى او سوريا اخرى؟؟
وتلوح في الافق القريب اول معضلات السياسة الخارجية التي سيواجهها الرئيس الإخواني محمد مرسي. ان الجماهير المصرية وقد يكون بينها جماهير من الإخوان المسلمين انفسهم ترفع مطلب التقارب بين مصر وإيران، على الاقل في صورة علاقات ديبلوماسية غابت طويلا منذ بدايات حكم النظام القديم. هل تستطيع مصر تحت رئاسة الإخوان المسلمين ان تلبي هذا المطلب الجماهيري؟
لابد قبل الاجابة عن هذا السؤال ان نذكر ما تردده وسائط الاعلام الأميركي من ان ايران هي الشاغل الرئيسي للولايات المتحدة وإسرائيل. وان الاحداث الجارية في المنطقة العربية كما شرحناها اعلاه تحمل تأكيدات بأن ثمة هدفا يتعلق بإيران من وراء هذه السلسلة المتواصلة من التغييرات في المنطقة المحيطة بإيران. ايران هي المبرر الحقيقي لتضافر جهود أميركا وإسرائيل والسعودية وقطر والامارات وجهود مترددة بعض الشيء من جانب الاتحاد الاوروبي لوضع ايران تحت حصار اقليمي عسير. هل تستطيع الرئاسة الإخوانية لمصر ان تتجاوز هذه الخطة الأميركية ضد ايران فتقيم علاقات طبيعية مع ايران فضلا عن التضافر مع السياسة الايرانية المناهضة لاسرائيل؟ هل تستطيع السياسة الخارجية للاخوان كما يوجهها الإخوان المسلمون ان تجبر الولايات المتحدة على التنازل عن تأييد اسرائيل ضد ايران؟ ام ان مصر الإخوانية ستجد نفسها مجبرة على مواصلة سياسة النظام القديم في مصر تجاه ايران ارضاء للولايات المتحدة وإسرائيل؟ هذه تساؤلات معروفة إجاباتها بوضوح. ولا تحتمل هذه الاجابات الانحياز لما تدعو له الجماهير.
ان العلاقات بين الإخوان المسلمين والولايات المتحدة تبلغ الآن ذروة بالغة الخطورة. تأتي في وقت تعيد فيه أميركا ترتيب اوراقها الاستراتيجية في منطقة الشرق الاوسط كلها. لقد قررت الولايات المتحدة تسليم مقاليد الحكم في بلدان المنطقة إلى الجماعات الإسلامية وعلى رأسها تنظيم «الإخوان المسلمين». ولا بد ان تكون قد حصلت على الضمانات لاستمرار سياسات «الإخوان» في مصر وليبيا وتونس، وفي سوريا اذا امكن، وفي اليمن وفي السودان، في الاتجاه الذي تسير فيه السياسة الأميركية في المنطقة. أهم هذه الضمانات يتمثل في الدور الكثيف الذي تؤديه السعودية بأموالها تدعمها قطر والامارات العربية والبحرين. والآن وقد انضمت مصر برئاسة اخوانية العقيدة والتاريخ والاهداف فلا بد ان تكون السياسة الأميركية قد جمعت الضمانات السياسية إلى الضمانات المالية والعسكرية.
الآن بعد اكتمال دائرة الهيمنة الإخوانية على الحكم ابتداء من تونس إلى ليبيا والسودان ومصر، وفي انتظار نتائج الصراع الدائر في سوريا وما قد يتطلبه من استراتيجية اطلسية، تكون مسؤولية الولايات المتحدة عن التغييرات التي اطلق عليها الاعلام الغربي ـ الأميركي بالدرجة الاولى ـ وصف «الربيع العربي» قد اصبحت اكثر وضوحا. ويكون التحدي الأميركي لجماهير الامة العربية وثوراتها الكامنة قد بلغ اعلى مستوى له ربما في السنوات الاربعين الماضية.
هذا الواقع الجديد الذي تشكل خلال اقل من عامين اثنين يقدم كل مبرر لنبذ وصف الربيع العربي عن احداث المنطقة وتحولاتها خاصة بعد سقوط رئاسة مصر في بئر الحكم الإخواني. فليس في كل ما جرى ما يبرر الاستمرار في اطلاق وصف الربيع على هذه التحولات فضلا عن تسميته بالربيع العربي. فلا هو ربيع ولا هو عربي. انه بالاحرى «الربيع الأميركي» في المنطقة العربية.
الى متى يبقى هذا الربيع الأميركي ربيعا وإلى متى يبقى أميركيا؟
سيبقى الوضع كله في منطقتنا مرهونا بأمرين اساسيين: اولهما الصراع الذي تتوفر كل شروطه في مصر من الآن بين «الإخوان المسلمين»، وقد اصبحوا في الحكم لاول مرة منذ تأسيس تنظيمهم في عام 1928، وبين الثورة المصرية وتنظيماتها وجماهيرها. وثانيهما الصراع الدائر في سوريا بين الحكم و خطط الولايات المتحدة التي ترمي إلى تسليم السلطة إلى «الإخوان المسلمين» على رأس مجموعة من التنظيمات التي تطلق على نفسها الإسلامية.
يعود الوضع في المنطقة العربية إلى حال الاعتماد الكامل على مصر من ناحية وسوريا من الناحية الاخرى. وقد يطول اوان الصراع ـ فهو هذه المرة اكثر تعقيدا وأكثر اتجاها نحو استخدام القوة ـ ولكن اخضاع الجماهير العربية بخديعة الثورة وتحت تسمية الربيع وبرداء عربي لن يكون نهاية المطاف. ما دامت مصر في الميدان بوعي بكل ما يدور حولها، وما دامت سوريا مستمرة في المقاومة فإن الوضع العربي غير قابل للخضوع.
الثورة مستمرة. هذه المرة ضد خطط أميركا الداخلية والخارجية وضد استيلاء «الإخوان المسلمين» على الثورة لحساب أميركا.. وإسرائيل.
:::::
“السفير”