اردوغان

بين السياسة والتياسة

فرهود عبد الودود

وطأت أقدام الصهاينة والأمريكان أرض بلاد الرافدين ثم جاء كولن باول إلى دمشق بوصية يوصي بها أو دين، واضعاً بشار أمام خيارات صعبة والتي كانت بمثابة سلاحٍ ذو حدين.

وطلب منه فك الارتباط مع المقاومة وإيران وأن يتحالف مع الصهاينة والأمريكان ثم يركب حافلة الشرق الأوسط الجديد ويراقب من نافذتها سباق الإبل والبعران. أو يصيبه ما أصاب القذافي وصدام ويضيع دمه بين العربان.

امتلك سيادة الرئيس من الجرأة والشجاعة ما جعله يواجه ما جاء به كولن باول من قلة أدب وفظاعه فطرده من القاعة. خرج مبعوث العم سام من بلاد الشام مدحوراً مذموماً صفر اليدين، وعاد إلى واشنطن بخفي حنين. ولكن السياسة الإمبريالية لا تكل ولا تمل فهي ذات باع طويل في نصب الكمائن والمكائد ونشر المحن والمصائب. تكثفت العقوبات على سوريا وتواصلت الضغوط وخرج الجيش العربي السوري من لبنان بموجب قرار أممي ثم أصبح رفيق الحريري في ذمة الله. كل ذلك استمرار لمسلسل الملاحقة لسوريا من جهة ومحاولة لإثارة فتنة طائفية في لبنان من جهة أخرى.

عام 2006 اندلعت حرب تموز، فظن ضعاف النفوس أن المقاومة لن تفوز وأن بشار قد فاتته حافلة الشرق الأوسط الجديد وعن قريب سوف يكبل هو وأعوانه بالأصفاد والحديد لكن مشيئة الله شاءت وأبت إلا ان يحق الحق ويزهق الباطل فذهبت أوهامهم أدراج الرياح إلا أن العم سام لم يهدأ له بال ولم يرتاح.

واستمر  مسلسل النكاية والتخطيط لتطويع المعادن والحديد ليجعل من تابع عنيد بطل صنديد.

وقع الخيار على اردوغان بأن يكون بطلاً وصانع للسلام فزج به وسيطاً في مفاوضات غير مباشرة للسلام بين سوريا واسرائيل، استمرت المفاوضات ردحاً من الزمن قام خلالها (شيخ الإسلام) بزيارات مكوكية بين دمشق وواشنطن وسرعان ما تبين أن ما كان يحصل لم يكن سوى أسلوب آخر لابتزاز القيادة السورية لما عرضه كولن باول سابقاً.

توقفت المفاوضات وقضي الأمر ولكن اردوغان لم ينتهي به الأمر، ولابد من الانتقال للمرحلة التالية التي تستوجب منه أن يمر في مرحلة جديدة من الصقل والتلميع ليزداد بريقاً وتألقاً فيستحيل العجين لجيناً في أنامله ويحسبه العامة أنه التاجر الصدوق الأمين فيشتروا منه النحاس على أنه ذهب خالص ثمين.

رفض مصافحة بيريز في دافوس ثم لملم أوراقه غاضباً مهرولاً متجاوزاً الجالسين على المنصة، فاعترضه عمرو موسى وفي قلبه غصة، غادر اردوغان القاعة وخرج مما أصاب عمرو موسى الخجل وانتابه الحرج.

عاد الى اسطنبول عودة الابطال الفاتحين، فهرعت الجماهير التركية نحو المطار له مستقبلين، رافعي رؤوسهم وبه فرحين مستبشرين، يا له من قائد لم يسبقه أحد في الشجاعة والاستبسال في الدفاع عن المظلومين وحقوق الإنسان ارتفعت موجة التهديد والوعيد بأن اسرائيل سوف يطالها العقاب ولو بعد حين مما بعث الثقة والنشوة في نفوس الملايين من العرب والمسلمين.

 بعد سقوط الشهداء الأتراك على متن سفينة مرمرة المبحرة إلى غزة، ارتفعت أسهم اردوغان وازداد الرهان فقلنا: “اقتربت الساعة وانشق القمر” إنما ينتظر اسرائيل أدهى وأمر!! ادعى اردوغان أنه من آل عثمان!! فقلنا يا بشرى هذا قائد مغوار إنه يغضب حين يتهدد المواطن والأوطان، والويل لإسرائيل  حين يغضب اردوغان.

اشتد الخصام وأعلن اردوغان أنه لا صلحَ ولا عودة للعلاقات إلى سابق عهدها إلا باعتذار وتعويض وفك للحصار فقلنا: “يا ليت جميع حكامنا اردوغان!!”.

تنقل (خليفة المسلمين المنتظر) بين العواصم العربية وألقى خطبته المشهورة في الجامعة العربية ثم جلب عشرات الوزراء الأتراك إلى دمشق ووقع عشرات الاتفاقيات الثنائية مع الحكومة السورية، ألغيت التأشيرات بين البلدين فأصبح الشعبين شعب واحد ولم يعد هناك حواجز على الحدود فازدهرت التجارة وأزهرت الحياة وبلا حدود .

استحوذ اردوغان بسبب هذه السياسة على قلوب الملايين من العرب والمسلمين وكاد أن يصبح القائد الخالد والأوحد لهذه الأمة!! ناهيك عن الفوائد الجمة التي عادت على تركيا وشعبها من هكذا سياسة .

إنها فوائد لا أكاد أن أبالغ إن زعمت بأنها فاقت أضعافاً مضاعفة مما حصل عليه الشعب العربي السوري المظلوم. لو كانت سياسة اردوغان نابعة من مصلحة تركيا وشعبها ومن قرار سياسي بعيد عن التبعية للآخرين لبقي الحال كما هو، لا بل لأصبحت العلاقات بين البلدين الجارين المسلمين أكثر رسوخاً، لأن مصلحة تركيا الحقيقية تكمن في علاقات طيبة وحميمة مع الشعوب العربية والإسلامية وليس مع الاتحاد الأوروبي واسرائيل ولأن سياسة حكومة العدالة والتنمية تابعة للسياسة الغربية ونابعة من جهات خارجية لم تتحقق العدالة، وطعنت التنمية في الصميم (سياسة كهذه أدخلت تركيا في صراعات وعداوات مع جميع دول الجوار).

انقلبت سياسة اردوغان رأساً على عقب مع أن اسرائيل لم تعتذر ولم تدفع التعويضات لعائلات الشهداء الأتراك وبقي الحصار على غزة بل أضيف لكل ذلك، درع صاروخي صهيوأمريكي على الأراضي التركية وترسخت العلاقات التجارية والعسكرية بين تركيا واسرائيل، ثم تحالف (الخليفة ) مع آل سعود وآل ثاني وآل خليفة.

يبدو أن (حفيد آل عثمان) لم يدرك أن السلطان عبد الحميد قد سبقه في الذكاء والكياسة حين أدرك خطورة الأورام السرطانية الخبيثة في الجسم فرفض أن يعطي الصهاينة موطئ قدم في فلسطين مقابل القناطير المقنطرة من الذهب والفضة.

إن التآمر على سوريا هو حلقة من سلسلة المؤامرات المتواصلة على فلسطين بل أكثرها خطورة على وجود الشعب الفلسطيني إن اشتراك اردوغان بالمؤامرة هو بمثابة صكوك غفران تمنحها له اسرائيل لدخول الجنة، جنة الاتحاد الأوروبي.

إنه جار ومجرور يأخذ شعبه نحو مصير غامض ومجهول ولكنه بالتأكيد لا يذهب به قدماً لتحقيق رفعة تركيا واستعادة امجادها لأنه بدوره تقوده سياسة التبعية التي لا ينصف فيها شعب ولا رعية، إنه ينقاد إلى نفقٍ لا يوجد فيه بصيص أملٍ ولا نور مثله كمن يطلب العسل من الدبور الذي تفشل تجارته وتبور.

لن يقبل به الغرب بأن يكون جزءاً منه ولن تقبل تركيا عضواً في الاتحاد الأوروبي مهما فعل الاتراك. وإن حصل ذلك فرضاً! فإنها لن تكون على قدم المساواة مع بقية الأعضاء لأن الغرب عنصري بطبعه نشأ وترعرع على تفوق الرجل الأبيض.

فأحداث شيكاغو ليست بعيدة عندما ضرب رجال شرطة بيض رجل أسود حتى الموت فقامت شيكاغو ولم تقعد، إن العنصرية الغربية تطفو على السطح بين حين وآخر إنها قناعة وثقافة متجذرة في اللاشعور. إن منصات بيع العبيد ما زالت قائمة في الولايات المتحدة حتى يومنا هذا ليس لشيء إلا لتذكير الرجل الأسود بعبوديته والأبيض بسيادته وتفوقه إن من يملك هذه الصفات لا يطمع في التقرب إليه و لا يعتمد  عليه ولا يأخذ برأيه لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

من بواعث البؤس والحماقة أن تطلب حاجتك ممن لا يريدك أن تظفر بها! إن ما يفعله اردوغان لا علاقة له بالسياسة بل إنها سياسة خرقاء مجنونة .

إنها تياسة ما بعدها تياسة!!!