بوتن و”التاريخ اليهودي”

عبداللطيف مهنا

خسر العرب نصيراً كبيراً لقضاياهم بانهيار الاتحاد السوفيتي. بانهياره تفرَّدت الولايات المتحده بالقطبية فاستبدت بقرار العالم، الأمر الذي لازال العرب يكابدون تداعياته المريرة إلى يومنا هذا. كانت مواقف السوفيت من القضايا العربية يحكمها مزيج من ركائزٍ ثلاثٍ هى : مصالح دولة عظمى هى واحدة من قطبين كونيين مامن منازعٍ لهما، والمبادىء المستندة إلى ايدولوجيا تحكمها الرؤيا الشيوعية لعالمنا، أو صراع النفوذ بين القوتين الكونيتين العظميين في حينها. بعد دراما الإنهيار السوفيتي وبدء الحقبة اليلتسينية انحدرت المواقف الروسية ازاء القضايا الدولية بانحدار مكانة روسيا وأنحسار تأثيرها في السياسة الدولية وحلَّت حقبة البيات الشتوي للدب الروسي المنهك، وطبعت السياسة الروسية براغماتية مُسفَّة فتصرَّف الكرملين بما ينطبق عليه تصرُّف عزيز قومٍ ذل.  بعدها جاءت الحقبة البوتينية لتبدأ إفاقة الدب من سباته ومحاولاته إستعادة الدور والمكانة  الكونية البائدة. تجلى هذا روسياً في السعي الحثيث لاستيلاد عالمٍ متعدد الأقطاب، الأمر الذي سهَّله وشجَّع عليه ارهاصات تراجع المد الإمبراطوري الأمريكي وبداية العد العكسي لإفوله . لكنما المرتكزات للمواقف الروسية من قضايا عالمنا لم تعد هى المرتكزات، إذ لا مكان بات للمبادىء وما من دورٍ للأيدولوجيا، وإنما المعيار أصبح هو المصالح والمصالح أولاً وأخيراً، مع محاولاتٍ جادةٍ  لتفادي العودة للحرب الباردة مرةً أخرى ما امكنهم ذلك، وإن كان راهن العلاقات الروسية الغربية يشيرإلى أنه من الصعب تفاديها في مثل هذه المرحلة الكونية الحبلى بالتحولات المتسارعة. نرى هنا براغماتية تختلف عن براغماتية يلتسن، وهي قد تكون مفهومة ومنطقية، بل ومن حق الروس، وقد تلتقي أحياناً مع مصالح أمتنا والمنطقة في مواجهاتها مع المشاريع الغربية المعادية. من ذلك الموقف الروسي الصارم من إستهداف سورية ورفض موسكو للتدخل الخارجي في الأزمة التي تعيشها، وكذا الموقف من تهديدات الغرب لإيران وفرض المقاطعة الإقتصادية عليها بذريعة ملفها النووي. لكن ما دامت المصالح وحدها هي المعيار، فلا ينبغي علينا إنتظار عودة الروس إلى سالف عهدهم السوفيتي إتجاه قضايانا، إذ لم تعد من سياسة تتحكم فيها المبادىء وترسمها الأيدولوجيا في الكرملن، ناهيك أصلاً أنه مامن سياسةٍ خيريةٍ في عالمنا هذا. وعليه ، ومن هذه الزاوية فقط، يمكن النظر إلى زيارة بوتن الأخيرة الى الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة وفهم ما وراء إكتشافاته ل”التاريخ اليهودي” المزعوم!

حاول الإسرائيليون الإفادة من الزيارة إلى أبعد حدٍ. تغنوا بكونها الزيارة الرئاسية الرسمية الأولى التي يقوم بها قيصر الكرملن لجهةٍ خارجيةٍ بعد تتويجه لفترة رئاسيةٍ ثالثةٍ. اطنبوا في الحديث عن الوشائج الثقافية والبشرية التي تربط كيانهم بالفضاء الروسى. أكثروا من الكلام عن مليون يهودي روسي هاجر الى فلسطين المحتلة قبيل وبعيد إنهيار الإتحاد السوفيتي. تحوَّل وزير الخارجية ليبرمان حارس الملهى الليلي في دنيا السوفيت سابقاً إلى مرافقٍ ودليلٍ سياحيٍ لبوتن طيلة أمد الزيارة. أخذوه معتمراً القلنسوة اليهودية الى حائط البراق، حيث، وكما يقولون، “أدى بعض الشعائر”. وقبلها قام بافتتاح نصبٍ تذكاريٍ للجنود السوفيت اليهود الذين قضوا إبان الحرب العالمية الثانية في نهاريا… أعطوا إنطباعاً باحتمالات نسج تلاقٍ إستراتيجيٍ بين الطرفين بالحديث عن الخطر الأصولي الإسلامي، أو هذا العدو المشترك، الذي يتفقان حول خطورة تهديده لكلٍ منهما.

كل هذا هو المتوقع من قبل الإسرائيليين، وقد يكون غير مستغربٍ أن يأتي مثله من روس ما بعد السوفييت، لكن ربما هوغير المتوقع وحتى المستهجن بالنسبة للكثيرين أن يطلب بوتن… وقد أهداه مواطنه السابق ليبرمان كتاباً بالروسية محشواً بالخرافات الأثرية حول ما يدعوه الصهاينة “نفق الحائط الغربي”، أو تلكم الحفريات التي نبشوا من خلالها ما تحت المسجد الأقصى وبالتالي طمست العديد من المواقع الأثرية العربية الإسلامية… أن يطلب أن يأخذوه إلى النفق، حيث يقول الإسرائيليون أنه وهو يجول فيه منبهراً قد عقب قائلاً: “هنا نشاهد كيف أن التاريخ اليهودي محفور في حجارة القدس”… من غير المتوقع بل والمستهجن أن يكتشف الرئيس الروسي “تاريخاً يهودياً” منقوشاً تحت اساسات المسجد الأقصى!

تزامن هذا مع إعلان بلدية القدس المحتلة عن حفلةٍ تهويديةٍ جديدةٍ في سياق عملية إستكمال تهويد المدينة. بناء ما مجموعه 1800 وحدة سكنية في مستعمرةٍ تحاذي جنوبها. إقامة “متحفٍ ضوئيٍ بصريٍ” في موقع نبعٍ اثريٍ يعود للحقبة العربية اليبوسية قبل ثلاثة ألاف عامٍ في وادي حلوة لا يبعد عن المسجد الأقصى إلا بعشرات الأمتار!!!

إبان زيارة الرئيس الروسي لفلسطين المحتلة لم يعرِّج على رام الله، إكتفى بلقاءٍ بروتوكوليٍ مع رئيس سلطتها خلال حجيجه إلى كنيسة المهد في بيت لحم المحتلة، وفعل مثلها في الأردن حيث التقى الملك وحج الى المغطس، أو موقع تعميد السيد المسيح، ليفتتح بيتاً للحجاج الروس على أرض كان قد قدمها الملك…هناك بون شاسع بين الحاج بوتن والرئيس الروسي المنبهر بما اكتشفه على حين غرةٍ من آثار إسطوريةٍ يهوديةٍ نقشت حديثاً على حجارة القدس… لايلام الحاج الروسي، والأحق باللوم هم العرب ابعد خلق هذه المعمورة عن التنادي للذود عن حقوقهم و مقدساتهم ومصالحهم.