عبداللطيف مهنا
هذه هي حكاية فلسطينية فقط. فلسطينية جداً. تطوَّع ناصر ملتحقاً بفدائيي الخمسينيات في قطاع غزة. تلكم المجموعات المقاتلة الشهيرة التي أسسها وقادها قائدها الشهير الشهيد مصطفى حافظ، والمعروفة شعبياً بإسمه، والتي أبلت بلاءً مشهوداً به في غاراتها آنذاك على المحتلين. تزوج ناصر متأخراً ورزق بطفلين أوثلاثة. بعيد نكسة يونيو 1967 واحتلال القطاع بات ناصر ورفاقه مطاردين ملاحقين من قبل العدو، حيث دأب المحتلون على مداهمة منزلة باحثين عنه، معوِّدين أطفاله الصغار على رعب تلك المداهمات وما يرافقها من عبثٍ وتحطيمٍ لموجودات البيت المتواضع القليلة، وما يتبع من تحقيقاتٍ يجرونها مع الوالدة هم لا يستثنون بدورهم منها سائلينهم ما إذا يرون والدهم أوما يعرفونه من أخباره. في تلك المرحلة عاش قطاع غزة أوج مقاومته وأشد أيامه معاناةً تحت وطأة الإحتلال. كانت دورياتهم العسكرية تطلق النار لمجرد الإشتباه، وكثير ما كان جندهم يمارسون القتل كهواية، من ذلك أن يُسأل العربي عن بطاقة هويته التي أصدرها وفرضها الإحتلال فإذا لم تكن معه فهذا يعني الاعتقال، وإن كانت معه فقد يأخذونها منه ويأمرونه بالركض ليطلقوا النار على ظهره بزعم أنه فر ولم ينصاع للأوامر لعدم توفرها لديه فاضطروا لقتله. كان الفلسطينيون يواجهون هكذا حالات برفض الركض والتشبث بما يمكنهم التشبث به من حديد المجنزرة التي يمتطيها الجند مهما انهال هؤلاء عليهم ركلاً وباعقاب البنادق… كانت بطاقة الهوية اللعينة في حينها تعني وترمز للكثير الكثير…
تمكن ناصر من مغادرة القطاع والوصول إلى الأردن والإلتحاق بثورة فلسطينية كانت في بداياتها وأوج مدها، وتعوَّد أطفاله على معرفة والدهم من خلال صورته شاباً معلقةً على جدار في بيتهم. وكلما كبروا كبرت معهم حكايات والدتهم عن والدهم. بعد عامين أو ثلاثة أبعد المحتلون الأسرة الصغيرة عبر نهر الأردن إلى شرقه، فكان ناصر على موعد مع لقياها، وما كان له ذلك، حتى هم باحتضان طفله البكر، الذي لم يتجاوز حينها الثامنة أو التاسعة من عمره، فاجأه أن الطفل حاول التفلُّت من ذراعيه قائلاً : أنت لست أبي ! أُسقط في يده، ومر على وجهه طيف ابتسامةٍ حزينةٍ، وطفق يحاول إقناعه طفله بعكس ظنه، بيد أن الطفل أصرَّ وفاجأه بواحدةٍ أخرى : إذا كنت أبي أرني بطاقة هويتك ! لم يجد ناصر بداً من الانصياع فناولها له. رمقها الطفل وتمتم : نعم، أنت هو ولكنك لا تشبه الصورة التى كانت معلقةً على الحائط في بيتنا الذي تركناه. إغرورقت عينا ناصر، وسقطت دمعة أو دمعتان على وجنتي الوالدة، واحتضن ناصر بكره وتمتم بدوره وكأنما يناجي نفسه قائلاً : نعم، هي الأيام يا بني، ولم يزد، واكتفى بالصمت.
كان ناصر يروي لنا الواقعة متندراً دون أن تُخفي إبتسامته الحزينة تأثره مهما كرر روايتها. ومضت السنون، ولاقى ناصراً ربه، ولا زلت اذكر تلكم الحكاية الفسطينية جداً، كلما شاهدت صوراً متلفزة تغطي عمليات تبادل للأسرى الفلسطينيين مع العدو، حيث يعود المناضل بعد عقودٍ قضاها وراء القضبان ليلتقي أبن أو إبنة تركه أو تركها جنينا في بطن والدته ليلاقي في عودته أحفاداً منه أو منها يراهم لأول مرة، لاسيما أولئك المحرومون من حق الزيارة خلال كل تلك العقود.
وإذا كانت بطاقة الهوية اللعينة لها كل هذا الذي تعنيه وترمز اليه عند أولئك المطحونين بنير الإحتلال في وطنهم السليب، فإن لوثيقة السفر لدى منكوبي الشتات في مخيمات اللجوء ما يعادل هذا الذي لها ولاينقص عنه. هذه الوثيقة التي تمنح له كلاجىءٍ في بعض البلدان العربية التي لجأ اليها قد تعد أحياناً لعنةً تطارده على تخوم المجزأ من الوطن العربي الكبير ومطاراته وموانئه، فهي إذ لا تخوله حق المرور ببعض دنيا العرب إلا بفيزا دونها خرط القتاد، فقد تمنعه من حق العمل حتي في بعض البلدان التي ولد ونشأ في مخيمات اللجوء البائسة على أرضها! نستثني قليل البلدان ونخص منها سورية التي للفلسطيني كامل حق السوري فيها، وعراق ما قبل الغزو الأمريكي، حيث بعده، كما هو معروف، نُكِّل بالأشقاء اللاجئين، فوصلت طلائعهم الى البرازيل ولازالت بقاياهم مهجَّرة في مخيماتٍ صحراويةٍ مزرية ومعزولةٍ على الحدود العراقية بانتظار أن تقبل دولة ما في هذا الكون المترامي إستقبالهم على ترابها.
أذكر أننا كنا ضمن وفودٍ عربية على طائرةٍ عائدين من مؤتمرٍ عربيٍ ضد التطبيع عقد في صنعاء مارين بالقاهرة حيث إقتضت منا حركة الخطوط الجوية تبديل الطائرة بأخرى، الأمر الذي يتطلب مكوثنا في القاهرة أثنى عشر ساعة قضاها الفلسطينيون دون سواهم، في الترانزيت، أما باقي الأشقاء فغادروا المطار إلى المدينة في أمان الله وعادوا قبيل إقلاع الطائرة مع ما تبضعوه من هدايا… والأدهى أن الإسرائليين كانو يمرون من أمامنا بكل حرية. كان هذا قبل ثورة 25 يناير، بعدها، وقبل أيام، مكثت لدى مروري بالقاهرة خمس ساعاتٍ لا أكثر والفضل يعود فقط لموعد إقلاع الطائرة البديلة… تغيرت مصر ولم تتغير المعاملة!
كانت الذريعة لدى البعض هو دفع الفلسطينيين الى التمسك بحق العودة، ولدى البعض قرار الجامعة بالحفاظ على الهوية الفلسطينية، والمفارقة هي أن كل جيل فلسطيني يأتي هو أكثر تمسكاً بفلسطينه وفلسطنته وعروبته مما سبقه، بينما يزداد تناسي أغلب ما يعرف بالنظام العربي قضية كانت مركزية لديه ويوغل متجافياً ابسط ما تقتضيه عروبته.