الخطر في الاحتلال وتجاهل القوة
محمد العزير
في كتابه الجديد “أزمة الصهيونية”*، يخرج الإعلامي والناشط اليهودي الأميركي بيتر بينارت عن المألوف في النظر الى العلاقات الأميركية الإسرائيلية محدثاً ضجة في وسط متخم بالكتابة عن هذا الموضوع. سبب الضجة، التي لم تنجح سياسة الإهمال الكامل التي تعتمدها المؤسسات اليهودية الأميركية المؤيدة لإسرائيل في طمسها، أن الكاتب يلقي مسؤولية قضية الشرق الأوسط على طرفين رئيسين هما اسرائيل والجالية اليهودية الأميركية بأسلوب حيوي مؤثر وبمعلومات ووقائع موثقة يصعب تجاهلها. لكن الغرض من الكتاب، ومن كل إنتاج المؤلف ليس الدفاع عن الجانب الفلسطيني أو العربي في الصراع وانما لضمان مستقبل أفضل لإسرائيل كدولة، ولليهود الأميركيين كجماعة.
يسارع المؤلف في مقدمة الكتاب الى توكيد يهوديته وصهيونيته وإيمانه بهما. يتحدث عن جدته المولودة في مصر وتعيش في جنوب افريقيا بعد إقامة مديدة في الكونغو. إسرائيل بالنسبة لها هي الملاذ الآمن لليهود حتى ولو لم تسكن هناك. يصف بينارت حياة جدته بسلسلة من المآتم للجاليات اليهودية التي عاشت فيها. ولأنه لا يريد لذلك أن يستمر، شعر انه سينام مرتاحاً لوجود اسرائيل كدولة، وهو يشاهد يهود الفلاشا يتوجهون الى الطائرات التي أقلتهم من اثيوبيا الى اسرائيل، كذلك عندما شاهد اناتولي شرانسكي ينزل رافعاً اشارة النصر في مطار بن غوريون بعد اعتقال دام ثماني سنوات في الاتحاد السوفياتي السابق كما قالت له جدته. لكن الوجه الآخر لتلك الصورة كانت شريط فيديو للطفل خالد جابر وهو يحاول الوصول الى والده في لحظة اعتقاله بتهمة سرقة مياه مستوطنة في الضفة. «تمنيت لو أني لم أشاهد هذا الشريط، فحتى ذلك الحين، كنت معظم حياتي عندما أرى المعاناة الفلسطينية أحاول أن أجد أسباباً للقول إن هناك مبالغة أو أن الفلسطينيين مسؤولون عن معاناتهم»، يقول المؤلف.
من هذه الثنائية يعود بينارت الى السنوات الأولى لنشأة الصهيونية، وبما يلامس الرومانسية يستعيد أقوال وكتابات تيودور هرتزل حول الطبيعة الليبرالية للحركة التي أسهم في ولادتها. (يستخدم المؤلف مصطلح الليبرالية بالمفهوم الأميركي الذي يعني التحرر والعدالة والإنسانية). وينطلق من رواية هرتزل «التنيولاند» المنشورة العام 1902 لتثبيت السياق الثنائي لمقاربته للموضوع من خلال استحضار شخصيتي الرواية، المرشح الرئاسي لإسرائيل الموعودة في حينه ديفيد ليتواك الذي يتحدث العربية ولا يميز بين الناس على أساس الدين أو العرق أو الجنس، والحاخام غايير الذي يريد حرمان غير اليهود من حق التصويت. في الرواية ينجح العلماني ويهاجر الحاخام وهذا عكس ما يراه المؤلف في اسرائيل بعد العام 1967. ففي هذا العام الذي انتصرت فيه اسرائيل على العرب مجتمعين انتقل المشروع الصهيوني من تمثيل «الضعف اليهودي» الى محاولة دؤوبة لتجاهل «القوة اليهودية»، وفي هذا العام تحولت اسرائيل الى دولتين. اسرائيل ديموقراطية، عصرية وليبرالية داخل «الخط الأخضر» واسرائيل غير الديموقراطية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
لم يقتصر هذا التحول على اسرائيل، فالطرف الآخر للثنائية هو الجالية اليهودية الثرية والواسعة النفوذ في أميركا والتي كانت على مفترق استراتيجي، إما الإبقاء على «الحلم الصهيوني» الليبرالي الإنساني لإسرائيل وإما الصمت عن الارتكابات الإسرائيلية التي يذكر المؤلف، وبنزاهة عالية، انها بدأت مع الإعلان عن قيام الدولة وأدت الى تهجير 700 ألف فلسطيني عن بيوتهم وأرضهم. اختارت المؤسسات اليهودية الأميركية العريقة الخيار الثاني وقررت أن تتعامل مع اسرائيل كضحية دائمة بصرف النظر عن الوقائع. هذا التحول كرّسه وصول اليمين الإسرائيلي الى السلطة والصعود المتنامي لليمين الديني في أميركا.
ولكن بالنسبة للمؤلف المعضلة اليهودية الأميركية ليست في العلاقة مع اسرائيل بل في مستقبل هوية الأجيال الجديدة من اليهود الأميركيين. ويرى المؤلف في إصرار النخب اليهودية الأميركية على ذهنية الضحية الدائمة ورفض الاعتراف بإسرائيل كقوة عسكرية فاعلة ورفض مساءلة سياسة الحكومة الإسرائيلية عوامل تواصل إبعاد الشباب اليهودي الأميركي عن مجتمعه الصغير واستمرار اندماجه بالمجتمع الأكبر الذي يعيش فيه ميسوراً وحراً ومرتاحاً وستطيح بالنهاية المشروع الصهيوني.
ويؤكد المؤلف الحاجة الى رواية جديدة للمسار اليهودي تخرج من قصة الضحية الدائمة وتتعامل مع القوة اليهودية التي تتجلى في وجود اسرائيل ونفوذ الجالية اليهودية في أميركا. ويشير المؤلف الى أن ذلك ممكن بالفعل مذكراً بتجربة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحق رابين ليس على مستوى القرار السياسي المتعلق بالسلام مع الفلسطينيين بل على صعيد منح الفلسطينيين داخل اسرائيل المزيد من الحقوق والخدمات، بعكس السياق العنصري الراهن الضاغط لحرمانهم مما تبقى لهم من حقوق المواطنة.
وفي لفتة معبّرة يسرد المؤلف كيف أن أحد أبرز خبراء العلاقات العامة في الحزب الجمهوري الأميركي اليهودي فرانك لونتز نصح مؤتمر قادة المؤسسات اليهودية الأميركية العام 2005 بالكف عن استخدام كلمة فلسطيني واستبدالها بكلمة عربي لأن كلمة فلسطيني، على حد قول لونتز، تجلب الى الذهن صور لاجئين وضحايا وقمع ولكن كلمة عربي تعني الثروة والنفط والإسلام. ويعطي هذه الواقعة كمثال على سطحية النظرة اليهودية الأميركية لجوهر الصراع وتركيزها على الجانب التبريري رافضاً حجج المؤسسات اليهودية لعدم التدخل بالشأن الإسرائيلي. فالقول بـ«أننا لا نعيش في اسرائيل ولا يمكن التدخل في شؤونها مردود لأن المؤسسات اليهودية لا تترك دولة إلا وتتدخل فيها من أجل اسرائيل. والقول إن اسرائيل دولة ذات سيادة والقيادة الإسرائيلية منتخبة ديموقراطيا مردود لأن تلك المؤسسات تضغط وتتدخل وتطالب الإدارة الأميركية بالضغط على قيادات منتخبة ديموقراطياً في دول ذات سيادة بدءًا بـ«حماس» وانتهاء بدول الاتحاد الأوروبي».
ويقسم بينارت المؤسسات اليهودية الفاعلة في أميركا الى نوعين، الأول يتسامح مع الاحتلال ويضحي بالقيم الليبرالية للصهيونية، والثاني لا يقيم وزناً لتلك القيم أساساً. ويرى أن ذلك يحرم الصهيونية من الكثير من الطاقات والمواهب الشابة التي ترفض الإفلاس الأخلاقي لهذا المنحى. ويلخص المؤلف الواقع الراهن للمؤسسات اليهودية الأميركية في أن الصورة النمطية للمسؤول في تلك المؤسسة هي لرجل في الستينيات من العمر يسعى لجمع تبرعات من يهود أثرياء في الثمانينيات من العمر، وأن أولاد الطرفين لن يواصلوا هذا المسار بسبب عدم قدرة خطاب المحرقة النازية على التأثير في نفوس جيل ما بعد حرب 1967.
الجزءان الأكثر جاذبية للقارئ العربي في الكتاب هما عن الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي يعتبره المؤلف أول رئيس «يهودي» لأميركا نتيجة تأثره بشخصيتين يهوديتين أميركيتين هما الحاخامان ابراهام جوشوا هاسكل، وارنولد وولف الذي تتلمذ عليه، ويروي كيف أن وولف رهن الكنيس الذي يديره في مدينة شيكاغو العام 1967 وتبرع بماله لإسرائيل لكنه رفض العام 1993 افتتاح متحف للمحرقة في واشنطن مطالباً باستبدالها بمتحف لسكان أميركا الأصليين (الهنود الحمر) للتعريف بمحرقتهم على أرضهم. وولف الذي توفي بعد انتخاب أوباما رئيساً توقع على فراش الموت أن يلتزم أوباما الصمت في الشأن الإسرائيلي. والثاني عن كواليس جولة التفاوض الشهيرة بين الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس وزراء اسرائيل السابق ايهود باراك في كمب ديفيد عام 2000، حيث يقدم صورة حية للتفاوض يناقض الروايات الرسمية والإعلامية التي حملت مسؤولية الفشل لعرفات.
للقارئ العربي الباحث عن نقاط ليسجلها في خانة «من فمك أدينك يا اسرائيل»، الكتاب كنز من المعلومات والوقائع. أما القارئ العربي في زمن الربيع العربي والباحث فعلاً عن احتمالات السلام فهو أمام تحدٍ إنساني وأخلاقي وعقيدي. فالوجه الآخر لحقائق بينارت يتمثل في إجماع عربي على رفض الصهيونية واسرائيل جملة وتفصيلاً. هذا الرفض المبني على قناعة بعدم وجود أي معطى ذاتي في الصهيونية (المصنفة كمؤامرة كونية على كل شيء وكل الناس) أو في اسرائيل (المصنفة بما يتراوح بين غدة سرطانية وقاعدة متقدمة للاستعمار الغربي) لن يكون سهلاً القفز فوقه للنظر الى أي شيء ما بين البحر والنهر، ومآل ثلاثة عقود من السلام مع مصر شاهد على ذلك. فهل يتغير المشهد إن سارت الأمور كما يشتهي المؤلف؟
* الكتاب من 290 صفحة باللغة الإنكليزية صادر عن منشورات «تايمز بوكس» وهنري هولت وشركاه )نيويورك(
:::::
السفير