“القمر الذي أطل من السماء فكان بهياً رائعاً”
احسان سالم
فلسطين المحتلة
تُطل علينا في هذه الأيام ذكرى استشهاد واغتيال المُناضل والمفكر الكبير غسان كنفاني، ونحنُ لا نعرف حقيقةً كيف نستقبل هذه الذكرى الباقية فينا بقاء فلسطين.
فبمجرد ذكر اسم غسان نتذكرُ نحن جيل الثورة عالم غسان البهي الناصع من تاريخ النضال القومي الفلسطيني.
لم يدر في خلد هذا المناضل الكبير وهو يُنظّر للثورة ويقول ” إنها الثورة !
وأنتَ لا تستطيع أن تعرف معنى ذلك إلاّ إذا كنت تعلق على كتفك بندقية تستطيع أن تطلق، فإلى متى ننتظر ؟! “
لم يدر بخلده أن تتحول هذه الثورة إلى عودة للبعض بعيدة كل البعد عن مقابر الشهداء، وعن جيل التشريد بعد أن وُعد هذا البعض بدولة منجوسة على بضعة أمتار من فلسطين.
ولم يخطر بباله ولا للحظة واحدة أن أرض فلسطين البهية التي رسمها بدمائه، ستغدو بازاراً للبيع والمساومة، هذه الأرض التي أصبحت قفراً ويباباً وأشدُ حزناً مما كانت، حينما كان يقول وكأنه كان يستشرق المستقبل ” إذا كُنا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نُغير المدافعين، لا أن نغير القضية” وهنا أقولُ لك أيها الشهيد الحي لقد التقط هؤلاء المدافعون الذين ذكرتهم وأنبأك حسك النضالي بوجودهم وبنيّاتهم نعم لقد التقط هؤلاء الفكرة قبل أن يفطن لها شعبك، فالتقطوا اللحظة حينما وقعوا على صك استسلام ما تبقى من فلسطين في أوسلو وما تلاها وحتى هذا اليوم الذي نحتفل فيه بذكراك، وابتعدوا عن الشهداء والأحياء الذين ظلوا على خطك النقي الطاهر، هؤلاء هم حملة بطاقات الشخصيات المهمة والتنسيق على المعابر، نزلاء الفنادق الفخمة وراكبو السيارات الفارهة ونزلاء الفلل وخطباء المنابر الذين أصبحوا يُزايدون عليك لأنهم لا يستطيعون أن يتخلصوا من روحك المُحدقة بهم.
تعود ذكراك اليوم لتذهب من حيث أتت، فبينك وبين اليوم ومرحلة اليوم سد منيع بناه أبناء جيلك ومرحلتك، صُناع أوسلو وشقيقاته بعد أن هجروا الشهداء وهجروا البنادق، وهجروا الثورة التي كنت أول من بشر بها ودفعت دمائك ثمناً لها، وها هم اليوم وقد بنوا السدود والحدود بين شعبهم وبين فلسطين بعد أن التحقوا بمعسكر السلام وأصبح العدو جاراً علينا واجب حمايته وحماية حدوده التي لا نعرفها.
فماذا نقول اليوم وقد فقدناك ونحن بأمس الحاجة اليك وإلى أمثالك ممن يمتلكون الإخلاص والإيمان بالوقت الذي تساقط العديد، وعجزوا عن الارتفاع إلى نُبل وقداسة قضية شعبهم، مثلما كنت أنت فارساً نبيلاً، حاملاً قضية شعبك فوق كل اعتبار، لقد كنت شديد الإيمان بالغد القادم، فهل تحقق هذا الغد الذي بشرت فيه ؟! بعد أن تخلى من عاصروك عن أغلب أرض فلسطين، وهم حتى ونحن نحتفل بذكراك ما زالوا سادرون وبإصرار كبير بسعيهم نحو مشروع اعترفوا مراراً هم أنفسهم بفشله، ولكنهم وبرغم ذلك مستمرون بالهروب للأمام دونما وجهه.
وتدور وتمضي الأيام، وتمضي أربعون عاماً منذُ رحيلك، ومنذ ذلك اليوم، وقد سالت مياه كثيرة بالمجاري الفلسطينية، ودخلنا بزمن فلسطيني جديد لا يخلو من الحزن والكآبة على شعب ممزق وأمة أضاعت التاريخ وفقدت البوصلة، وسكنت فيها مرحلة سوداء، لا تسمع فيها سوى مزايدات من يهمهم من الوطن فقط جيوبهم ومصالحهم وأمجادهم، أما أبناء الوطن المُثخن بالجراح، فهم هنا قد أصبحوا رهائن للواقع المعيشي الذي رُسم لهم لكي لا ينشغلوا بأي شيء آخر، لكي ينسوا أنهم أصحاب قضية، وليتشبثوا بهذا الكيان العابر الذي يلهث أصحاب المرحلة ليزينوه لهم كدولة.
أخيراً ماذا تبقى لنا منك؟!
لدينا تراثك الادبي والفكري والنضالي
لدينا الكثير من الروايات الشبيهة برواياتك
لدينا أمهات وأخوات الشهداء، ولدينا شعبنا الذي لن يموت
ولن يقبل أنصاف المناضلين بين صفوفه، ولدينا شعبنا أيها الشهيد الحي الذي ما زال فيه بقية من قدرة على الكفاح والنضال، وأنبئك بأنك ما زلت أنتَ وأشباهك منارة تهدي شعبك لدرب الثورة التي لن يخبوا نجمها فهي باقية حمراء كسنديان فلسطين.
::::