أحمد حسين
سوريا لن تنتصر عبر المفاوضات. على العكس من ذلك، فإن المفاوضات يجب أن تحقق الحد الأدنى من النتائج التي تقبل بها الصهيومريكية بديلا عن التدخل العسكري المباشر، الذي يحمل من المخاطر على الإستقرار الدولي والمنطقة أكثر مما هو على سوريا وإيران. هذا الحد الأدنى الأمريكي هو ما يجري التفاوض عليه الآن بين أمريكا وتوابعها المنطقية والدولية من جانب، وروسيا والصين من جانب آخر. وبينما تصر أمريكا على إلحاق أكبر ضرر معنوي ممكن بالنظام السوري واستقراره ومصداقيته القومية والوطنية، فإن روسيا تحاول فقط منع الفراغ الذي سينجم عن سقوط النظام السوري، حتى لا يتم ملؤه على الطريقة المصرية أو التونسية. وبينما يشدد بيان عنان التوافقى على حوار الدائرة المستديرة، بين كل أطراف ” المعارضة ” السورية والنظام، فإنه بالمقابل يشدد على أن التغببر في سوريا بجب أن يقرره ” الشعب السوري بدون تدخل خارجي “. وفي حين أن الجانب الأول يؤكد على أمور إجرائية ميدانية لا يمكن الخلاف حول عبنبتها بين الفرقاء الدوليين، فإن الجانب الآخر الخاص بكون الحل سوريا، لا يكاد يعني أي شيء عمليا. فما دامت الإنتخابات الدبموقراطية والتعددية يجب أن تتم بدون استثناء أى طرف، وما دام هناك حكومة انتقالية ستنظم المسيرة نحو ” التغيير ” بناء على أجندة البيان الخارجية، فهل هناك ضمان ألا يلاقي النظام السوري ما لاقاه مرشح إسرائيل وكلينتون، أحمد شفيق، من مصير مؤلم. هل سيخوض البعث الإنتخابات البرلمانية والرئاسية مقابل الإخوان المسلمين وينتصرون عليه قبل إعلان نتيجة الإنتخابات. ماذا سيكون أمام روسيا عندها ؟ هل ستتدخل عسكريا في سوريا ؟ روسيا ليست بلدا استوائيا، أو غبيا لتتبادل الأدوار مع أمريكا في الوقوف ” ضد إرادة الشعب السورى “. ستكتفي بمرارة الفشل وتدخل سباتا شتويا جديدا، تستيقظ منه على عالم تكون قطر فيه أهم من روسيا في الشرق الأوسط. وستشتري أمريكا عندها الوطن السوري ربما بضعف سعر التكلفة التي بذلتها في مصر أو تونس. أما إذا سارت الأمور في اتجاه معاكس لهذا، فمتى كانت أمريكا بحاجة إلى أسباب لفعل أي شيء ؟ ستستأنف طريقها من حيث توقف بيان جنيف، لمواجهة روسيا في إيران إذا شاءت المذكورة..
أول نتائج بيان عنان، أنه أطلق العنان لادعاء الاطراف المعنية،أن ما كان يحدث في سوريا هو ثورة حقيقية، وليس كما ظلت سوريا تقول أنه شكل من الخيانة والتآمر المتعدد الأطراف، والمدعم بالكذب الإعلامي. فلا يوجد نظام وطني يفاوض الخونة والعملاء ومذيعات التلفزيون المستهلكات. ونظام إيديولوجي قومي ووطني وتحرري، كالنظام السوري، يفعل ذلك، لا يمكن أن يجد لنفسه مبررا سوى أنه كات يكذب أو يكذب الآن. ولكننا نعرف أنه لم يكن يكذب. ونعرف أن ضغوطات الأصدقاء قبل الأعداء هي التي قادته إلى سقطته المريعة. ولكن لا أحد ينتحر ليرضي أصدقائه. فهل فعل النظام السوري ذلك ؟ أرجو أن يكون الجواب لا قاطعة. وحتى ذلك الحين فإن التخبط أمام لغز دافنشي أفضل من حله.
النتيجة الثاتية، هو أن تدويل الوساطة سيعطي للصهيومريكية الفرصة لإعادة القضية السورية إلى بعدها الإقليمي بل المحلي، بوصفها ظاهرة عدم استقرار داخلي خالص، وليس إشكالا نموذجيا لاستقواء الصهيومريكية على العالم وشعوبه وأنظمته ومصالحه وثقافاته. وستنسحب أولويات الإهتمام العالمي عندها من سوريا إلى السودان.
ومن النتائج المتوقعة لتحول المواجهة بين مواقع الممانعة الشرق أوسطية والصهيومريكية إلى مفاوضات، خسارة السياق الذي كان يحولها في نظر كثير من متضرري العالم من العربدة الأمريكية، إلى دولة ذات سياسة مبدئية تراهن على عالم سوي، بدون هيمنة أحادية مطلقة. وهي نتيجة ستكون مرعبة على روسيا نفسها، وعلى كل شعوب العالم التي تحلم بارتخاء القبضة الصهيومريكية حول رقبتها. إن هزيمة سوريا ومعها روسيا في أول مواجهة مبدئية مع حق أمريكا في تشكيل العالم، ستغلق الباب أمام سياق التفاؤل الذي كان يداعب أحلام الكثيرين في العالم، إلى أمد طويل جدا من الإستبداد العالمي المنظم. إن انحطاط الواقعية على يد الصهيومريكان، كان سيحتم، لو أتيحت الفرصة للوجدان التحرري، الإندفاع نحو الرومانسية الواقعية للتصدي والنضال مرة أخرى. ولعل توجس الكثير من الأنظمة من هذا الإحتمال قد لعب دورا في إشاعة التراخي المشترك على جانبي المائدة الدولية الخاصة بالقضية السورية.
ومن النتائج اللاذعة لبيان جنيف، أن معدلات العتب بين إسرائيل وأوباما سترتفع. فإسرائيل لن يرضيها تأكيد البيان على وجود الإخوان في التركيبة الديموقراطية القادمة في سوريا، واحتمال تغلبهم داخل المعارضة على بسمة وبرهان وهيثم، وفي الإنتخابات على القوى الأخرى الأقل إزعاجا لها، باستثناء النظام القائم الذي سيزول أو يضعف. فالإخوان حلفاء للصهيونية من الناحية الرسمية، ولكنهم فصيل اقتصادي براغماتي يمثل البترودولار، يسعى للتنافس مع إسرائيل في الهيمنة الإقتصادية في المنطقة والجوار الأفريقي. ولا يمكن أن يتزحزح عن هذا الموقع حتى للحور العين. لقد انتصر أوباما ولكنه حرص على عدم المس بحقوق إسرائيل في مصر، كما أنه حرص أن تتلقى تعويضا مناسبا من السعودية وقطر. ولكن إسرائيل لا تعيش على الترضيات كمصر أو تونس، وهي لن تتنازل عن أن جانبا من كينونتها هو نفطي، كحق جيولوجي لكينونتها الجغرفية العريقة في المنطقة. ومن المؤكد أنها ستصل إلى حل مع الإخوان، بدأت بوادره تتوضح، ولكن الإخوان لن يسارعوا إلى أية تسوية علنية مع إسرائيل لأسياب معروفة تخص استثماراتها الفقهية في البشر. كيف سينعكس هذا على موقف السياسة الإسرائيلية مما يجري في سوريا ؟ لا أدري ! هذا أشبه بلغز دافنشي. ولكن إسرائيل لا تتساهل حتى في الشجارات الأسرية.
وتلخيصا، كما وضعت ملحمة الممانعة السورية الممتدة، في فصلها الحالي، سياق التصدي المبدئي للهيمنة الصهيومريكية على أجندة عالمية مشتركة للتحرر، وشكلت اقتراحا لعالم جديد على مستوى العلاقات الدولية والقاعدية، فإن اختلاس هذا السياق بالمفاوضات من جانب أمريكا وصواحبها الدوليات، سيحتم بعدا مقابلا ومعاكسا، يرسي العلاقات الدولية على غرار جديد يحتم الرضوخ لأمريكا، ويصل بهذا العالم بواسطة الفوضى البناءة، إلى حضيض غير مسبوق من انعدام التوازنات الإجتماعية يحتم الكارثة الكونية.
إن أنصاف الحلول، بالنسبة لحدود المواجهة مع الصهيومريكية، من جانب بنى الممانعة الشعبية والنظامية على الساحة الدولية، هو أخطر ما يهدد هذه البنى، وبالمقابل يمنح أمريكا وآلياتها الجهنمية الزمن التآمري اللازم لارتكاب جريمتها الكونية. فهي المستفيد الطبيعي كصاحبة مشروع تصفوي، يستهدف العالم على صعيد بنيته المادية الشاملة، وبناه الإجتماعية والمعنوية التاريخية، التي راكمت هويته الإنسانية الموحدة. مشروع بهذا الشمول التفصيلي، والوعي التآمري، لن يضره الزمن التربصي المطول، وإنما يضر الممانعين أصحاب الزمن التداركي المتعجل، الذي يعمل تحت طائلة فوات الوقت الموضوعي للتصدي.
ألصهيومريكية قطار للأندفاع الذاتي انطلق إلى الهدف، ولا يمكن وقفه إلا بتعطيل الخط. إنها لم تعد مؤهلة بنيويا للتفكبر في شيء غير تنفيذ مشروعها. قد تقبل التأجيل لأن الزمن في صالحها،أما التعديل أو التراجع أو التعقل فهي كلمات ممسوحة تماما من وعيها الواعي. لقد اكتملت الإستعدادات لمعركة هار مجيدون الحاسمة وعلى ملوك ” الشعوب ” أن يهريوا الآن أو يهجموا الآن كفرصة أخيرة، لاختصار حجم الكارثة التي سيحدثها وصول القطار محطته الأولى في الشرق الأوسط. وعلى شعوب العالم أن تقوم بحماية سوريا في هذه اللحظة. وعلى روسيا والصين سياسيا، أن تشجعا النظام السوري على موقف الرفض لا أن تسهما في جره وجر العالم معه إلى الكارثة المؤجلة.
هذا الكلام فرضه القلق من أمريكا، والخوف على سوريا والإنسان في هذا العالم الشبيه بالهاوية. لذلك هو كلام أقرب إلى الشعر، ولا فائدة له في السباسة، مثل لغز دافنشي. ولو قصدت الكتابة في السياسة، لاكتفيت بسطر واحد : سوريا وروسيا والإنسان في هذا العصر لا يمكن أن ينتصر إلا في الحرب. ألمفاوضات مع أمريكا إخلال بشرف العقل.