جزائريات (1): مؤتمر تحرير التاريخ … في الذكرى أل 50 لتحرير الوطن

عادل سمارة

 في مؤتمر اقامه المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ علم الإنسان والتاريخ في الجزائر العاصمة ضمن فعاليات الاحتفال بالذكرى الخمسين لاستقلال الجزائر تحدث على مدار ثلاثة ايام أكثر من ستين باحثاً ومفكراً من الجنسين. وتركزت معظم الأوراق على عنوان المؤتمر وهو “تحرير التاريخ”. وقد ناقشت الأوراق مختلف جوانب حياة الجزائر تحت الاستعمار الفرنسي الأشد عنصرية ومنها سياسات الاستعمار والمقاومة الجزائرية لمدة 130 عاماً في مجالات السياسة والاقتصاد والمرأة والسجون والرياضة، واللغة والألقاب، والإعلام، والدين، والأقدام السوداء (المستوطنين) ورحيلهم….الخ.

لقد استفدت كثيراً جداً من الاستماع لمداخلات الكثير من الباحثين والمفكرين المتميزين سواء الجزائريين أو التونسيين أو الأفارقة أو الفرنسيين. هذا طبعاً مع الأخذ بالاعتبار اعتمادي على الترجمة الفورية التي مهما كانت ممتازة إلا أن المستمع يفقد منها بعضها.

ليس هذا عرضاً شاملاً لما قبل، وإنما إشارات ضئيلة إلى بعض ذلك.

من أهم المواضيع المثارة والأقرب إلى الوضع الفلسطيني كان حديث أحد الفرنسيين (وهو أمر تعرض له كذلك عدة باحثين جزائريين) ناقداً مزاعم فرنسا السلطة والمثقفين من جانبها بأن الجزائر لم تكن موجودة قبيل الاستعمار الفرنسي، وبأن (الجزئرة) نتجب كهوية ووطنية عن الوجود الفرنسي هناك اي خلقت الجزائر على يد الاستعمار الفرنسي أو الاستدمار كما طرح باحث جزائري أفلت اسمه من ذاكرتي. وبالطبع هذا تزييف إمبريالي بلا مواربة، لأن الوجود الموضوعي للشعب الجزائري عربا وامازيغ هو سابق على الاستعمار الاستيطاني. وليس شرطاً أن عدم قيام دولة بالمفهوم القومي لأوروبا القرن التاسع عشر أن ينفي هذا وجود الشعب اي شعب في وطنه حتى لو لم يصل مرحلة وعي الشعب أو الأمة بوجودها. فهذه النظرة الاستعمارية الغربية تعطي الاستعمار مناخ الادعاء بحقه وحتى تمنُّنه على المستعمرات بأنه استعمرها. والاستعمار لم يذهب ابداً سوى للاستغلال واحتجاز التطور. وإذا صاحب هذه العملية تطورا ما، فهذا شأن تطور حياة الشعوب.

بيت القصيد كما هو الحال الفلسطيني حيث يزعم الصهاينة بمن فيهم بعض المؤرخين الجدد مثل إيلان بابيه والمبهورين الفلسطينيين والعرب بهم (مثقفي الصدى) بأن الصهيونية خلقت نفسها والفلسطينيين. وهذه حالة إنكار للوجود الموضوعي تاريخيا وجغرافيا للفلسطينيين في وطنهم. وإذا كانت شعوب وأمم في محيط النظام العالمي لم تتبلور في حالة الوعي القومي قبيل الغزو الاستعماري، ولم تنتقل إلى الراسمالية وتخلق سوقها القومي كما يزعم ستالين، فهذا لا ينفي وجودها، وإنما يؤكد الإعاقة الاستعمارية لتطورها. والتاريخ مليء بأمثلة سبْق أمم لأمم في مراحل من التاريخ. فالثورة الجزائرية والمقاومة الفلسطينية هي دفاع عن الوجود الموجود.

وهذا ما استحضره فرانز فانون في كثير من الأوراق حيث ركز على دور الثقافة في بعث المسألة ومن ثم المقاومة الوطنية والقومية وبالتالي دور القومية في الثورة والتحرير.

ولعل من أكثر التشابهات بين الاستعمارين الاستيطانيين ما ورد في ورقة عبد العليم مدجووي وهو من ثوار جبهة التحرير ومن المعتقلين وهو طبيب حيث روى كيف كان مستوى العلاج الطبي للمعتقلين الجزائريين لدى الاستعمار الفرنسي خلال الثورة حيث كان الطبيب يمر في الأسبوع مرة واحدة ليعاين المئات ويصف دواء لا فائدة منه وهو الحال نفسه في معتقلات الاحتلال على الأقل في السنوات الأولى منه. الاستعمار الاستيطاني والعنصري متطابق ولا يختلف سوى في سباق “إبداع” القمع.

في الحديث عن الإعلام، تم نقد دور الإعلام الفرنسي الرسمي والعنصري في الزعم المتواصل بأن الجزائريين عشية الاستقلال كانوا سوف يذبحون المستوطنين الفرنسيين في الجزائر . ومن بين الأدعياء كان الكاتب المعروف ألبير كامو الذي ملأت كتبه الأسواق العربية دونما تنبه إلى عنصريته. فالتنبيه إلى عنصريته هو أو غيره يجب ان لا يمنع كتبه ولكنه يدفع إلى قراءة متوازنة.

وقد قدمت إحدى الباحثات مداخلة لافتة في قراءة اللغة وكتابة الأسماء والفن والألقاب في فترة الاستعمار واستخدام الاستعمار ذلك لتقويض اسس الكتابة بالعربية وتكريس ذلك كله لإنكار وجود الجزائر قبل الاستعمار.

وكان المؤرخ الجزائري محمد حربي وهو من مناضلي جبهة التحرير الوطني الجزائرية والمقيم في باريس بعد الاستقلال، كان قد نبه إلى أن هذه المزاعم الفرنسية لا اساس لها. ورغم انه دأب يكتب عن هذا الأمر منذ عام 1957 اي قبل الاستقلال، إلا أن مجلة باري ماتش الفرنسية لم تُقر بهذه الحقيقة سوى عام 2002!

كان ابن خلدون حاضراً في المؤتمر. ومن أوضح مواضيع حضوره كانت ورقة خالد الشيخ حيث تناول تفريقه أو تمييزه بين الحضارة والعمران. فابن خلدون يرى أن العمران هو الإقامة في مدينة أو حاضرة أو عاصمة وهو بهذا يقصد التعارض بين البداوة والحضارة. وهو يرى بمعنى أن الحضارة هي وصول العمران نهايته. كما أُشير إلى أن ابن خلدون يرفض تحديد الأنساب لأنه يراها عصبية وبأنها أمور غير حقيقية.

وفي هذا الصدد أجد من المناسب أن أُضيف بالإشارة إلى أن أكثرية المجتمع العربي لم يغادر هذه العصبية، وأن سهولة التذابح التي حصلت في الجزائر خلال العقدين الماضيين وفي ليبيا وسوريا اليوم وضد شعب البحرين وفي العراق بالطبع، وبرغم دور الاستعمار، فإن هذه السهولة التذابحية لتؤكد بأن هذه المجتمعات لا تزال في كثير من جوانب حياتها قابلة لتطبيق نقد ابن خلدون لها. ولا شك بأن رسوخ اقتصاد الريع في هذه المجتمعات، وليس فاعلية الإنتاج لها علاقتها ودورها في ترسيخ العصبيات لأن علاقاتها ليست أعلى من رِشى.

وبدوره يرى مقدم الورقة أن أروع ما توصل إليه ابن خلدون هو اعتبار نمط العيش هو المحدد. وفي اعتقادنا أن الترجمة الفكرية الحديثة لنمط العيش هي نمط الإنتاج، لأن العيش يقوم في النهاية على الإنتاج. وفي هذا الصدد أكد الباحث بأن ابن خلدون اشار إلى أن وراء التفريق بين العرب والبربر كان الهدف منه أن يدفع البربر الضريبة.

وهنا أُضيف بدوري أن هذه الإشارة من ابن خلدون والباحث في غاية الأهمية لأنها تفتح على نمط الإنتاج الخراجي الذي ناقشه بعمق سمير أمين، وهو النمط الذي يؤكد أن العوامل المادية هي التي كانت تتحكم بوضع القوانين في الإمبراطورية العربية الإسلامية، وليس الدين أو اعتناق الإسلام. فمتطلبات خزينة الدولة هي التي كانت تصوغ آليات الجباية . وهذه أمور ناقشها عبد العزيزي الدوري.

وقد تطرق باحث فنلندي إلى العصبية الدينية (الدين السياسي ع.س) مؤكداً أن من أهم اسباب غزو العراق وليبيا هو وجود تيارات دينية يمينية في الغرب بما فيها دول إسكندينافيا وخاصة السويد والنرويج، وكان ذلك حين سألته عن دورهما في هذا الغزو.

وتعرضت زينب علي بن علي لما اسمته تاريخ المهزومين حيث ناقشت معاناة المرأة خلال التحرير وبعدها. وقد تداخلتُ حيث سألتها بأن هذا صحيحاً ولكن قبل التحرير كانت هناك النسويات الفرنسيات وكان ولا يزال دور السلطة الفرنسية واليوم دور الأنجزة النسوية وكل هؤلاء يجب أن يُذكروا كقوى لعبت ولا تزال دورها في هزيمة المرأة في الجزائر وغيرها.

وتحدثت الباحثة الايطالية الشابة باولا بلادينو عن أن المرأة الجزائرية لم تحقق المساواة سوى في الجبال اثناء حرب التحرير الوطني وذلك موضوع أطروحتها للماجستير. واشارت إلى أن إيطاليا مغلقة على معرفة تاريخ الجزائر. وقد تداخلتُ معها بالقول، وهناك مجال آخر للمساواة بين الرجل والمرأة تحت الاستعمار وهو التحقيق والسجن.

وقد قدم الباحث التونسي بلعيد حبيب ورقة ناقشت إكالية المجتمع المدني تحت الاستعمار في تونس.

وقدمت دليلة الداوودي ورقة نادرة عن التاريخ العسكري في أوساط جبهة التحرير الوطني الجزائرية وركزت على الشخصية الكارزمية للقيادي البارز عمروش.

وركزت سريا بلهادف على تاريخ حركة التظاهرات في المدن لدعم حرب الغُوار في الريف وخاصة عمال وهران 11 ديسمبر 1954 ورفضهم تفريغ شحنات اسلحة ومعدات عسكرية فرنسية. وهذا يعيد إلى الذاكرة رفض العمال المصريين اثناء العدوان الثلاثي على مصر 1956 تفريغ سفن امريكية. فاين اليوم من أمس! ألا يُثبت هذا ان القوى الثورية الحقيقية بوسعها خلق الشعب وأن القوى الرجعية والعميلة بوسعها تحويله إلى قطيع.

وتحدث ديخاتي عن مسألة في غاية الحساسية، وهي أن التركيز على الثقافة مثابة رسالة إلى ما اسمهيم (مثقفي الصدى) فهو يرى أن هذا التركيز إنما هو إعفاء للسلطة الحاكمة من التعاطي مع مسألتي العدالة والاقتصاد.

كما قدم بن عمار بومدين ورقة حول دور الفن مستذكراً قول الإيطالي سيزار بأن “الحياة لا تكفي” . وقدمت انيسة بو ياد ورقة عن عبد القادر الجيلالي مؤسس الصوفية .