جزائريات (الثالثة والأخيرة) … وصلت القُطْرية حدها التاريخي، عادل سمارة

 

من ثورة لدولة إلى تثوير الدولة لأجل الوحدة

كلمة الدكتور عادل سمارة من فلسطين المحتلة 1967 في الاحتفال الخمسيني

لانتصار الثورة الشعبية في الجزائر.

مقدمة في مؤتمر تحرير التاريخ المنعقد في  المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ، علم الإنسان والتاريخ، بمدينة الجزائر العاصمة 2-4  تموز 2012

مداخلتي هذه عن الجزائر والوطن العربي، بل الجزائر في الوطن العربي ، وهي وإن لم تركز على فلسطين بما أن المؤتمر مكرَّس لتحرير التاريخ، إلا إنها تنتهي إلى صلب القضية الفلسطينية التي تنعكس عليها إيجابيات وسلبيات الوضع العربي وهو في حالة الثورة أو تحت نير الثورة المضادة أو يمور بالإرهاصات.

أُجادل هنا ودوماً بأن الثورة المضادة ضاربة الجذور في الوطن العربي، تُطبق على الفضاء العربي بوضوح مهما حاولنا تزويق هذه اللحظة أو تلك. فهي موجودة على الأقل منذ تفريخ/توليد الوهابية في الجزيرة العربية وجرى تكريسها العلني مع اتفاق سايكس-بيكو 1916 ليكتشف بعضنا قبل البعض الآخر أن الحليفين اللصيقين والمكونين الرئيسيين للثورة المضادة هما قوى الدين الإسلامي السياسي وقوى الرأسمالية العالمية وفي اذيالها الكيان الصهيوني وأنظمة الحكم في القُطريات العربية وخاصة  ما تسمى بالمعتدلة، وهذا وصف مدائحي.

فما يحصل هو ان الثورة المضادة راسخة رانخة في الوطن العربي، وهو ما سبب الحراك الجاري، وبالتالي كان لها ان تستنفر قواها، وهي كثيرة، فيكون الصراع بين الثورة والثورة المضادة،  بل بين إرهاصات الثورة والثورة المضادة. وإن كان من خير في اللحظة لهذه اللحظة أنها كشفت وقوف قوى الدين الإسلامي السياسي في خدمة المركز الرأسمالي العالمي. كان الانكشاف هذه المرة واضحاً لا يسهل تمويهه، واضحاً وضوح من يقول: الرأسمالية الغربية حليفنا رغم أنها حليفة الصهيونية. وهنا لا يبقى سوى صدور فتاوى بالتصالح أو تعليق الصراع مع الصهيونية لعقود قادمة كصلح الحديبية…الخ. وهذا يطرح على القوميين والشيوعيين غير التابعين تحدٍّ لا يفتح مجالاً للهروب .

هنا تتموضع الجزائر، بتجربتها في الثورة التي  اذلَّت الاستعمار الفرنسي الذي لم يتخيَّل أن يتمكن هؤلاء  العرب والأمازيغ الفقراء، نحال القُدود لن يتمكنوا من هزيمة عنجهية المستعمِر ولم يتخيل أن هذه الثورة قد ألهمت فرانز فانون الأسود من المارتينيك ليصبح عربيا أممياً. وهي الجزائر نفسها التي واجهت قوى الدين الإسلامي السياسي لقرابة عقدين وكان النظام النظام المغربي ، بما هو ركن الثورة المضادة في بلدان المغارب العربي، يزود هؤلاء بالسلاح تنفيذاً للمخطط الإمبريالي في استهداف الجزائر.

ولأن الجزائر صاحبة كل هذه التجارب ما تزال مستهدفة من قبل الثورة المضادة ضمن مشروع الأخيرة للقضاء على أي قطر عربي له توجهات استقلالية. إن الجزائر قوية يمكن أن تلعب دوراً أساسياً قيادياً في الوطن العربي على الصعيدين العربي والإفريقي. فاي عربي له رؤية استراتيجية يدرك أن التحالف والعمل المشترك العربي الإفريقي هو ضمان مستقبل الطرفين. هذا ما أسست له الناصرية وقوضته الثورة المضادة في مصر في فترتي السادات ومبارك حيث الانفتاح والتفريط بالسيادة والتنمية. ولأن العدو يخطط ويعمل فهو يقوم بتييع مصر وتدمير سوريا وصولا إلى الجزائر مرة أخرى بحيث حتى لو بقيت، فلن يكون بوسعها العمل منفردة وفي تلك الحالة لن تسمح لها الثورة المضادة حتى بالانكفاء.

وإذا كان للمرء أن يدرك درس التاريخ الذي يؤكد أن ليس أمام الجزائر إلا أن تضطلع بهذا العبء والمهمة كما فعلت ما بين الاستقلال ونهاية السبعينات لا سيما على ضوء تطورات النظام العالمي والبروز العنيد، حتى اللحظة على الأقل، لروسيا والصين. كما أن الجزائر من الدول العربية القليلة التي ترفض أية علاقة بالكيان الصهيوني في السر والعلن وهو موقف تأسس في فترتي الرئيسين بن بللة وخاصة بو مدين الذي رسَّخ تماماً هذا الموقف، وحتى اليوم.

 

الكمبرادور الإندماجي:

ولكن، رغم تضحيات الشعب الجزائري في حرب التحرير الشعبية وبعد خمسين سنة على الانتصار وإذلال المستعمِر الاستيطاني الفرنسي، ما زال الجزائريون من دُعاة الفرنسة والاندماج مع فرنسا موجودين يروجون لفرنسا الثقافة والمصالح ويوزعون الندم على الثورة . وهم لا شك يستغلون أخطاء النظام ووجود الفساد وتدفق الشركات الغربية للسيطرة على الاقتصاد الوطني (علماً بأنهم ليسوا ضد الراسمالية!)  ليبرروا نحيبهم على الاستعمار. وهذه مواقف اصطفاف بالطبع في الجانب الآخر مقارنة مع النقد الوطني والثوري لأخطاء المسيرة وخاصة بعد رحيل بومدين وتدهور الجزائر في تطبيق السياسات اللبرالية الجديدة وتغلغل الشركات الأجنبية  في الاقتصاد وتراجع الإنتاج والتصدير الصناعي والانكفاء على الذات…الخ ويساعد هؤلاء الاستدعائيون حضور اللغة وحتى  الثقافة الفرنسية بشكل مهيمن في هذا البلد.

ولا شك أن الاستدعائين هؤلاء إنما يعززون تعنت فرنسا بعدم الاعتذار للجزائر على 130 سنة تتوجت بخروج الاستعمار مهزوماً لتدخل الجزائر حقبة الاستقلال، أو ما بعد الاستعمار، بل إن فرنسا تزعم بأنها كانت تقوم برسالة حضارية في الجزائر ضمن ما يسمى بالاستعمار الإيجابي!

وهذا يثير أسئلة من نمط: هل فشلت الثورة في نقل تراثها وتضحياتها إلى الأجيال الجديدة التي ولدت وترعرعت في حضن الاستقلال والكرامة الوطنية وبعيداً عن دموية المستعمِر؟ هل وصل الفساد والاستغلال الطبقي المحلي إلى درجة التماهي مع الاستغلال الاستعماري مما سهَّل على الاستدعائيين القول بأن ما حصل هو استبدال استعمار بآخر! وهل يمكن وضع الإثنين على قدم المساواة؟ وبغض النظر عن هذا جميعه، هل من معنىً للكفر بالذات ومن ثم تجسيد نظريات الاستعماريين بأن غير الأوروبيين لا يمكنهم التغير ذاتياً ولا مناص من أن يغيرهم الأبيض؟ والأبيض في حقيقة الأمر لا يغير.

أم أن خطيئة الثورة وخاصة كلما تحولت إلى سلطة كامنة في نطاق آخر تماماً، بمعنى أن مغريات السلطة والتحول التدريجي من سلطة الثورة إلى سلطة الدولة الأمنية من جهة، والابتعاد عن النهج الاشتراكي والاندماج في الكمبرادور أو خلقه ذاتياً، وفي النهاية تبني سياسات السوق والنيولبرالية هو الذي أوصل الجيل الشاب إلى أنماط التفكير هذه؟ وربما السبب هو هذه الأمور مجتمعة. فليس أخطر من فتح اية ثغرة في اقتصاد البلد للغزو الإمبريالي فهي أخطر من فتح ثغرة في جغرافيته.

إنسدادية الثورة والدولة  القُطرية

قد نجد بعض التفسير لتردي الكثير من أوضاع الجزائر التي رغم جراحها ما تزال فيها كبرياء الثورة المنتصرة، نجده في مشكلة الثورات العربية نفسها التي تتفارق ما بين ثورة وانقلاب، أو ما بينهما لكنها لا تختلف من حيث انحصارها أو أيلولتها إلى الانحصار القُطري والذي به تُغلق أمام نفسها ليس التوجه القومي  وحسب، بل تُغلق فرص بقائها. وهو الانغلاق الذي تُعمِّده جامعة الدول العربية التي تكونت عام 1945 باقتراح[1] من ونستون تشرشل الذي كان وزير المستعمرات البريطانية ثم رئيس وزرائها. وقد رعت هذه الجامعة مختلف القُطريات في مواجهة الوحدة العربية، بل إن وجودها كمؤسسة تفريقية قد أوقع عبد الناصر  نفسه في خطيئة رفضه استعادة الكويت من قبل عبد الكريم قاسم مما أبقى الكويت لغماً دمر العراق في أعوام 1991 و2003. وبوسع المرء الزعم بأن موقف ناصر هذا ينمُّ عن أن هذا القومي العربي كان مصاباً بوباء ثقافة القطرية رغم إنجازاته. وما أكثر القوميين الذين هم قُطريون جوهرياً وما أخطر ترددهم في انتهاج سياسات بسماركية تطابق روح العصر.

ولأن الجامعة العربية أُنشئت لرعاية الدولة القُطرية، فكان لا بد لمصيرها أن يتغير طبقاً لمصير الدولة القُطرية نفسها. ولا غرابة إذن أن هذه المؤسسة قد استخدمت لتدمير الدولة القُطرية بدل أن تلعب دورا وحدويا كما زعم مؤيدوها. لذا، وقفت ثانية ضد استعادة العراق للكويت 1989، وشارك معظم  أعضائها ضد العراق إلى أن دعى أمينها العام السابق عمرو موسى الناتو لاحتلال ليبيا. والمفارقة المهينة أن الرجل تمكن من نيل شرف الترشح لرئاسة مصر بعد سقوط راس النظام السابق! كما أن رئيسها الحالي يبذل جهداً مستميتاً لتمكين الناتو من تدمير سوريا هكذا بكل علانية. وإذا ما دفعنا هذه المعطيات إلى قراءة متمعنة، فإن التطور الطبيعي لهذه السياسات والمواقف للجامعة العربية هو الانتقال من استدعاء ضرب سوريا إلى ضرب الجزائر. ولا شك أنه لو توفرت لهذه الجامعة قدرة عسكرية للاعتداء على سوريا، أي لو كانت قطر والسعودية والإمارات قادرة على ذلك لفعلْنْ.

لقد جرت كثير من الثورات في الوطن العربي ضمن هذا القطر أو ذاك، واستلمت السلطة كما استلمتها القوى القطرية المرتبطة بالأجنبي، ولأن الثورات تلك انحصرت أو حوصرت لتبقى ضمن القطر الواحد، فقد تماثلت مع القُطريات المرتبطة بالمركز الإمبريالي من حيث هجران البعد القومي والاكتفاء بحماية نفسها بالدولة الأمنية داخلياً وبحماية الاتحاد السوفييتي من الخارج. ولكن هذه القطريات وصلت حالة الانسداد بالمعنيين القومي والاقتصادي. وبخصوص كيانات الخليج، فهي في مأزق قومي بمجرد وجودها المضاد كلية للمسألة القومية. إلا أن ما يسعفها مؤقتاً امرين:

الأول: ضعف  الحراك الشعبي الداخلي فيها نظراً لتاريخ مديد من تجويف الوعي مما حال دون ثقافة الطلب فما بالك بالاحتجاج والثورة

والثاني: لأن الثروة بيد الأسر الحاكمة اي في وضعية التجريف الكلي، ولأنها ثروة بفوائض الريع، فقد ظل بوسع هذه الأنظمة تقديم رِشى معيشية للسكان.

حالت هذه القطريات سواء وليدة الاستعمار/المركز أو وليدة الثورة، دون التوجه الوحدوي الذي هو الطريق الطبيعي للحماية من انسداد افقها مما جعل مأزقها موجها فقط باتجاه نهايتها. فحتى القُطريات التي اقامت قواعد صناعية  لم تتمكن من الحفاظ عليها وتطويرها بمعزل عن السوق القومي مما ادى إلى شل هذه الصناعات وتخلفها وهو شلل ارتبط بتصفية او محاصرة القطاع العام وخاصة بعد ركوعها لسياسات صندوق النقد الدولي بتبني وصفاته والسياسات الاقتصادية النيولبرالية. ناهيك عن أن دول الفائض اخذت تربط مساعداتها لدول العجز بإخضاع سياسات دول العجز للسياسات النيولبرالية اقتصادياً ولسياسات التطبيع المباشر او غير المباشر مع الكيان الصهيوني الإشكنازي والتي هي بالطبع جزء من سياسات الإملاء من قبل المركز الرأسمالي العالمي. ولعل اوضح تجسيدات هذه السياسات هو تقوية قوى الدين الإسلامي السياسي وخاصة التيار الوهابي. إن الدولة القطرية، أو ما يسميه البعض الدولة الوطنية قد وصلت حدها الانسدادي[2] الأقصى محلياً بما هي لا قومية ودوليا بما هي من صنع المركز الرأسمالي العالمي الذي قرر تفتيتها.  كان هذا الانحصار القُطري قد ساد في حقبة : أولاً: تراجع المد القومي والاشتراكي، وثانياً اعتماد الدولة الأمنية لحماية السلطة وثالثا: وجود السوفييت لمنع العدوان الخارجي ومع الوقت وتراجع القوى هذه اضطرت القطرية إلى تغذية نفسها ذاتيا الأمر الذي أبان انسداد أفقها .

ولكن حقبة العولمة قدمت معطيات علينا التنبه لها بحذر وقلق. فقد وصل المركز  كما وصلت دواخل الدولة القطرية إلى ان هذه الدولة قد انتهت صلاحيتها بمعنى أن المطلوب تفكيك الدولة القطرية من داخلها. وهي سياسة بل قرار قام على مرحلة تغذت فيها الاتجاهات الطائفية والمذهبية والجهوية والإثنية وهي اتجاهات لا تقوى وتنتعش إلا بعوامل منها:

1-    ضعف القوى القومية والوحدوية

2-    تأزم الأوضاع الاقتصادية

3-    تعمق التبعية بشتى أنماطها

4-    تزايد العدد السكاني مما نقل الأقليات المذهبية والطائفية هنا وهناك من أعداد بسيطة إلى أعداد يمكن أن يقيم لها المركز الرأسمالي دويلات جديدة ضمن موجة القومية الثالثة، ففي فترة سايكس-بيكو كانت هذه الفئات تافهة العدد.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا كله يصب في خدمة الكيان الصهيوني حيث ينتقل الوطن العربي من البنى القُطرية المضادة للوحدة إلى تجزئة أعمق بحيث يصبح القطر الواحد شظايا، وهذا ما يوفر إمكانية اندماج الكيان الصهيوني في الوطن العربي اندماجاً مهيمناً.  فالمركز الرأسمالي والكيان الصهيوني يبحثان عن سايكس بيكو مصغر إلى أدنى منزلة عشرية: إثنيات، طوائف، مذهببيات جهات بدو حضر على أن تكون جميعها في حالة اقتتال دائم، وهذا ما نراه اليوم.

العولمة تطرق الأبواب المغلقة

لعل العولمة هي الطور المأزوم للراسمالية بما هي ما بعد الإمبريالية. وإذا كانت العولمة قد بدأت بزخم قوي استمدته من تهالك وتفكك دول الاشتراكية المحققة وليس من زخم الرأسمالية في مركز  النظام العالمي، فإن مأزق هذا النظام حالياً قد بشِّر سريعاً بإمكانية انتهاء هذه الحقبة على أفق وخيارات للإنسانية مفتوحة. وقد يكون المؤشر الثاني على هذا الأفق، إلى جانب أزمة النظام الرأسمالي العالمي وخاصة مركزه، هو بروز الرأسماليات الصاعدة وتبلور القطبيتين الروسية والصينية بقيادة أنظمة مستقلة.

في هذه اللحظة الحرجة من التاريخ، تقاتل الراسمالية المعولمة بالنواجذ للحفاظ على سيطرتها/مصالحها في المحيط وخاصة في الوطن العربي. ومن هنا يمكن للمرء تفهُّم تلك الهجمة من مركز النظام الرأسمالي العالمي بل قوى الثورة المضادة  ضد محور المقاومة والممانعة من حزب الله إلى سوريا إلى إيران. وعليه، فإن ما يهمنا في هذا الصدد بأن الرأسمالية المعولمة سواء في أزمتها الحادة أو الأقل حدة لا تسمح لبلد من المحيط أن يغلق على نفسه أبوابه بل تطرقها بقوة المدفعية التي تدك الحصون. وهو الأمر الذي ربما تتنبه له اليوم الدولة القطرية الوطنية لتدرك أنها حينما انحصرت قطرياً إنما كانت تحاصر نفسها وتتجهز لغزو لا يردعه سوى المشروع القومي. فلا مكان للدولة القطرية حتى بحكام تابعين، وهذا مأزق السعودية التي ترى حتفها التقسيمي قريباً، ومع ذلك تخدم مشروع المركز في تقسيم جارتها اليمن! وقد يكون هذا الموقف أبلغ توضيح لشروط التبعية.

ليست معركة العالم بالسهلة مع راسمالية المركز في هذه الحقبة، فالمركز ما زال يستخدم جيوشه المتعددة للحفاظ على سيطرته على العالم. ومقدمة هذه الجيوش هو جيش الثقافة متحوِّراً إلى ومتشاركاً مع الجيش الإعلامي. إن خطورة السلعة الثقافية التي يصدرها المركز في كونها تعيش عشرات بل مئات السنين وتُنقل من جيل إلى جيل بينما السلع الصناعية المعمرة لا يتجاوز عمرها الافتراضي عشر سنوات. كما أن السلعة الثقافية كعزو ثقافي تبدأ قبل أسلحة الغزو الأخرى وتستمر إلى جانبها وتتواصل. وإذا كان الغزو الثقافي يصطنع الكياسة والمرونة وأحيانا الإقناع والحجة، فإن سلاح الإعلام، وكما نرى في السنتين الأخيرتين، يعتمد الكذب المكشوف تماماً دون أية درجة من التقيد بما يزعمون من الموضوعية.

يأتي الغزو العسكري بعد تمهيدات الغزو الثقافي، يأتي ليحسم ما يتطلبه الغزو الأساس اي غزو راس المال من أجل التراكم.  بمعنى أن كافة جيوش التوسع الرأسمالي في مراحل الاستعمار فالإمبريالية فالعولمة إنما هي في خدمة راس المال. وحينما لا يكفي الغزو الثقافي يكون العسكري وحينما يتم الاستقلال السياسي الشكلي يكون الغزو بالتبادل اللامتكافىء. ويكون الغزو بالهيمنة الثالثة بتقسيم عمل على طريقة غزو ليبيا اي:

·        اكتفاء الناتو بالقصف الجوي

·        وقيامه بتجنيد قوى الثورة المضادة محليا لتخريب البلد وإسقاط الأنظمة الوطنية وتسليم اقتصادها للمركز  بينما تأخذ قوى الثورة المضادة المحلية السلطة السياسية الشكلية باسم الديمقراطية.

فالتجربة الليبية أتت في أعقاب دروس العراق وأفغانستان حيث كانت كلفة العدوان هائلة وخاصة على الولايات المتحدة مما دفعها لأسلوب جديد يقلل كلفة العدوان عليها. يحقق هذا الأسلوب النتائج نفسها وهي:

·        تدمير البلد اقتصاديا وإنتاجيا بالقصف، واجتماعيا بالتصارع المذهبي والطائفي والقبلي والجهوي

·        وسيطرة المركز على ثروات البلد  وموقعه.

وتكون الشركات الكبرى هي الرابح الأكبر من هذا الغزو لا سيما في حقبة اصبحت الدولة “موظفة” لدى الشركة”

مثقفو الصدى والاستدعاء:

قام ولم يتوقف المركز باختراقات في المجتمع العربي، وقد يكون لنا الزعم بأن أخطرها كان الاختراق الثقافي محوَّلا المثقف المخروق إما إلى جهاز بث مباشر أو إلى خلية نائمة. والشغل على تجنيد المثقفين هو مديد على طول عمر الغزو الثقافي وأدواته الغربية هي السلطة والأكاديميا والمخابرات والمثقفين الغربيين الراسماليين واللبراليين واليساريين ذوي المحفزات الكولونيالية .

تهمنا الإشارة هنا إلى فئة من المثقفين العرب وهي فئة أولئك المثقفين الذين انتهوا إلى التبعية الفكرية ليصبحوا كمبرادور ثقافي للفكر الغربي ذات اليمين وذات اليسار وبذا لعبوا دور الصدى للتنظيرات الغربية وخاصة تنظيرات المابعديين وعلى راسهم ما بعد الحداثة حيث التكفير بالسرديات الكبرى القومية والاشتراكية والثورة والمقاومة. كان ولا يزال دور هذا الصدى هو تلبيس أو إيلاج تلك التنظيرات في المجتمع العربي لتقوده إلى اليأس والتفريد. وخطورة مثقفي الصدى بأنهم ليسوا سوى نسخاً باهتة تُردد مقولات مثقفي الغرب الراسمالي، والأخطر أنها بهذا الترداد إنما تشرعن وتسهل الغزو الثقافي وتصفية الثقافة العربية.

أدت الفترة المديدة للغزو الثقافي إلى تطور اشد خطورة في العقدين الأخيرين حيث اصبح الكثير من المثقفين مثابة أدوات لاستدعاء الغزو العسكري للأقطار العربية بدءاً من العراق وصولا إلى ليبيا ومن ثم سوريا. والحقيقة أنه تطور طبيعي ان ينتهي مثقف الصدى إلى دور الاستدعاء، وفي هذه الحالة يتم التطابق التام بين المثقف والسلطتين: اي السلطة الراسمالية الغربية والصهيونية والسلطة الكمبرادورية المحلية.

والتطور اللافت الآخر، أن مثقفي الصدى للمابعديات وفي انتقالهم إلى مرحلة الاستدعاء، قد تقاطعوا مع مثقفي الماقبليات، اي مثقفي السلفية الذين ينادون بالعودة إلى السلف الصالح وهذا متعاكس تجريدياً مع المابعديين، ولكن الطرفين يتحالفان مع الناتو ويستدعيانه. إنه تحالف الدين الإسلامي السياسي مع المحافظية الجديدة وليس لدى قوى الدين السياسي نموذجا اقتصاديا غير الراسمالية.

لعل ما ساهم في إسقاط الكثيرين من المثقفين العرب لصالح الثورة المضادة جملة من العوامل. ولكن بداية، فإن سقوط المثقف هو نتاج خلل ذاتي في مدى العمق والتعمق والإلتزام بالوطن أولاً ثم الطبقة وهو خلل إذا ما وُجد، فلا عاصم للمثقف من اي أمر حتى لو وضيع. لا شك بالطبع أن القمع بهدف تجويف الوعي وكذلك الحاجة تلعب دوراً في إهلاك المثقف. وفي هذا الصدد برز الدور الخطير وسيىء الصيت لراس المال الخليجي المفخخ، ريع النفط الذي جرى توظيفه لتجنيد المثقفين والذي اتسع سوقه في لحظة الصراع الجاري في الوطن العربي وهو ما اثمر مثقفي الاستدعاء بحجج الديمقراطية والحرية. لقد لعبت السعودية[3] هذا الدور منذ سنوات عدة، واليوم تلعبه قطر والسعودية والإمارات بشكل جماعي ومكثف. هذا المال المفخخ يلعب اليوم دورا كبيراً في تجنيد مثقفين ليكونوا جزءاً تكميلياً لماكينة الثقافة والإعلام الرسمية للمركز ومحيطه العربي.

القُطرية والتكتلات الكبرى

 

لا جديد في القول بأن تطورات النظام العالمي تدفع باتجاه قيام التكتلات الكبرى. بل هي تطورات تؤكد أن لا حياة للكيانات الصغيرة، عملاً بالمقولة الاقتصادية الدارجة منذ نصف قرن، بأن الدول الصغيرة غنية كانت أم فقيرة، راسمالية كانت أم اشتراكية لن تكون إلا تابعة. والسؤال الآن: هل فهمت قيادات الدولة القُطرية العربية هذا؟ أم أنها لا تملك خيار الوحدة أو الاتحاد ولا حتى التنسيق الاقتصادي؟

لذا، نجد اليوم بأن الدولة القُطرية العربية ليست أمام خيارات بل سيناريوهات مصاغة من غيرها مفروضة عليها:

·        إما أن تتحول إلى راس مخلب ضد القطريات العربية ذات الأنظمة التقدمية والعلمانية مثل قطر والسعودية وليبيا وتونس ضد سوريا والجزائر

·        أو تواجه مصيراً تدميريا تفكيكياً (على اسس طائفية مذهبية جهوية قبائلية إثنية…الخ) كما حصل ل ليبيا، اليمن، الصومال

·        أو هي على قائمة انتظار مصيرها المقرَّر من الخارج مصر، الجزائر المغرب….

لقد أغلق التاريخ باب الوحدة العربية عبر هذه القطريات حيث وصلت حالة الانسداد المحلي وقرار تصفيتها على يد النظام العالمي ليصبح المطلوب قوى جديدة تنبعث من التطورات الجديدة في الواقع القومي والعالمي. وهذا يضع على الدول التقدمية والعلمانية المتبقية سوريا والجزائر مهمة مواجهة المرحلة وهي مهمة في غاية الصعوبة والقسوة بما تحمله من فرض التطبيع وتقويض المقاطعة وعدوان الناتو بتمويل من الريع النفطي المفخخ، وتجنيد قوى الدين الإسلامي السياسي لتدمير الأنظمة من داخلها…الخ.

ولكن، هل يمكن استثمار تطورات المرحلة؟

          لا بد لنا أن نضع نصب أعيننا ثلاث قضايا او تطورات مفصلية في هذه المرحلة وهي:

·        بروز تيار أو جبهة قوى المقاومة والممانعة

·        وبروز القطبيات الجديدة والدول الصاعدة

·        وأزمة المركز الرأسمالي الغربي.

تبين هذه القضايا الهامة أنها هي قوة الدفع للعدوان الراسمالي الغربي المتوحش اليوم. وهذه التطورات، وإن غطت على حقيقتها هجمات الغرب الراسمالي، فإنها هي التي تقرر مصير العالم رغم مناورات وادعاءات وثرثرات الغرب بل كل الثورة المضادة.

في هذه اللحظة، لا بد من هجوم الخطاب وتجديد القطاع العام ودفاع السلاح.

لا بد من تجديد الخطاب العروبي الاشتراكي الوحدوي. خطاب يركز ضد البنية القُطرية والتابعة والتي هي كومة من الثغرات لا أكثر. خطاب يشدد على كشف وحشية الرأسمالية العالمية سواء بدورها الاستعماري والاستغلالي والعنصري. وخطاب يركز على استعادة القطاع العام ونبذ اقتصاد السوق والنيولبرالية كمقدمات للتطبيق الاشتراكي بروحية القرن الواحد والعشرين وخصوصية هذا الوطن وكل قطر فيه.

هذا إلى جانب الدفاع عن الوطن بالسلاح سواء ضد ثوار الناتو أو قوى الدين الإسلامي السياسي وتوابعها من اليسار المتصهين بل ضد الثورة المضادة. هنا يجب أن ينضم جميع أصحاب المصلحة في مواجهة الثورة المضادة إلى قوى المقاومة والممانعة والتحالف مع القوى القطبية الصاعدة.

هذا على صعيد القطر الواحد، أما على الصعيد القومي العربي والجوار الإفريقي فإن التركيز على بلورة التيار العروبي الاشتراكي الوحدوي هو خيار المرحلة والمرحلة المقبلة. فبديل هذا ليس سوى التفتيت والتبعية وتسويد نخب اقل من قُطرية وأنسب للتبعية .

ليس الكاتب مدعياً تعليم أحد ما العمل، ولكن ربما أن أمام الجزائر اليو تحد قابل للمواجهة وهو الانتقال من دولة بعد الثورة إلى ثورة مع الدولة. وليس أمام سوريا سوى القتال الضاري والمفتوح. لا خيار أمام الشعوب سوى قبول تحدي التاريخ.

لا يقلل من قيمة الثورات وتضحياتها نُكران هذا وتآمر ذاك، ولا زعمُ البعض باستحالة التحديث الحقيقي والتقدم. ولا يمكن أن يحل استجداء اعتراف الغرب أو استدعاء الناتو محل المشروع النهضوي العربي. ولكن ما يعيب الثورات، كما اشرنا، هو انحصارها القُطري واعتماد الدولة الأمنية وفشل المشروع التنموي وتفكيك المشروع الاشتراكي. لقد عانت الدولة القُطرية من تجويف الوعي الشعبي على يد قوى القمع التي حالت دون الدمقرطة والحريات وتحرر المرأة وليس منحها المساوة فقط. وهو التجويف الذي كان شرط الثورة المضادة لتجريف الثروة ب “أمان”. هذه العوامل وغيرها هي التي أوصلت الثورات إلى الحائط المسدود.  هو تجويف الوعي الذي دفع أولاد هيلاري للتفاخر في تونس ومصر بغياب الأحزاب وغياب القوة الفكرية، فكانت النتائج كما نرى.

هذه العيوب الخطرة، وبسبب  خطورتها يجب أن تدفع باتجاه إلى الأمام لا إلى النكوصية والتراجع واستدعاء الاستعمار، أن تدفع لاستكمال المشروع النهضوي العربي عبر تثوير الدولة في الجزائر وسوريا، ثورة في الدولة لتغيير جوهري في دولة الثورة. أي بعرض ووضع مشروع الوحدة أو الاتحاد العربي الاشتراكي قيد البحث والشغل والتنفيذ. فبدل الحط من قيمة الجهود المبذولة من أجل البناء الوطني في مرحلة ما بعد الاستقلال وإدانة هذه الجهود، يكون المطلوب رفع هذه الجهود إلى الصعيد القومي. وإذا كان لا بد من قراءة تجارب الغير فلننظر إلى الاتحادات لا إلى التفكيك والتذرير، لنتجاوز فرق ـــ تسد ليس إلى الوراء بالتفكيك والتذرير بل بالمشروع النهضوي الوحدوي العربي. علينا أن ننظر إلى درس الاتحاد الأوروبي وإلى روسيا الاتحادية وإلى ميركسور لا إلى كوسوفو وجنوب السودان والبوسنة. علينا قراءة انسداد أفق الدولة القطرية بالأفق الأوسع للوحدة أو الاتحاد العربي للعرب ومختلف الشركاء في هذا الوطن باستشناء الكيان الصهيوني الإشكنازي، لا أن نتجاوز الدولة القطرية إلى كيانات تملؤها الشبهة ومصيرها التبعية والذل.

قد يكون الإصلاح الجذري بداية الطريق، والتبادل التجاري الموسع بين الدول الخارجة عن سيطرة العدو الإمبريالي الصهيوني النفطي، وبدء مشروع تنموي حقيقي بالحماية الشعبية سواء بمقاطعة منتجات الغرب الراسمالي ورفض التطبيع مع أنظمة الثورة المصادة والانطلاق إلى ثورة ثقافية ضد الاستهلاكية واستجداء الاعتراف واستدعاء الأجنبي.

وهذا يتطلب ليس فقط سلطة ثورية بل يتطلب قبل ذلك قوة المثقف النقدي الثوري المشتبك. يتطلب مشروعاً ثقافياً عروبي الانتماء وحدوي الجغرافيا واشتراكي الفكر والهدف. لن يكون الخلاص بالتلطي ومغازلة أعداء يحاورونك بغرس السكين في قلبك.

 


[1]   وهو اقتراح مسموم أشبه باقترح الصحفي اليهودي الأميركي فريدمان على الملك عبد الله السعودي مسودة المبادرة العربية التي طواها شارون في مكان ما قبل أن يفقد الوعي.

[2]   أنظر عادل سمارة، كتاب: دفاعا عن دولة الوحدة وإفلاس الدولة القُطرية، منشورات دار الكنوز الأدبية بيروت 2003.

[3]   في حدود ما أعلم، فقد التقيت بمثقفين عرب في لندن 1985 أثناء دراستي حيث كانوا يُدعون إلى منتدى ثقافي سنوي في السعودية اسمه الجنادرية يشرف عليه الأمير تركي بن عبد العزيز، وكانوا يعودون بالغنائم والأُعطيات.