قرار انتشار الجيش على حدود الشمال: هل سيحقق الامن المتوخى ؟

العميد د. امين محمد حطيط

عندما ادخلت اميركا منطقة الشمال اللبناني في مسرح عمليات الحرب الكونية التي تقودها ضد سوريا، ظن ادواتها وعملاؤها اللبنانيون بانها فرصتهم للانتقام من سوريا، برميها بنار مخصصة لاحراق الجسد االسوري دون ان تحرق اصابعهم او تمس البيئة التي يتحركون فيها….

أ‌. و لكن الاحداث خرجت عن مسارها لدى التنفيذ الذي ابتدأ بالاعلان عن ” انطلاق المارد السني ” ايذاناً ببدء الحرب من لبنان على سوريا، اعلان طلقه التيار الذي سجل في الانتخابات النيابية الاخيرة احتكارا للصوت السني في الشمال و لاقته جماعات 14 اذار للانخراط في الحرب العدوانية تلك ولم تتردد و للاسف جهات رسمية لبنانية بالادلاء بدلوها حماية لمصالح شخصية ضيقة، جهود تضافرت الى حد جعل لبنان بصيغة او خرى بيئة حاضنة للعمل ضد سوري حيث سجلت ممارسات نذكر منها :

1) التهويل على الدولة اللبنانية و الضغط عليها من باب ” الرعاية الانسانية للنازحين السوريين ” بقصد توفير الظروف المناسبة للمسلحين الذين يتقاطرون من بلاد عربية و اسلامية لتكوين ” الجيش الاميركي” من اجل شن الحرب على سوريا لاسقاطها كما اسقطت دول سابقة. واستطاع هذا التهويل ان يرغم الدولة على الانكفاء من الشمال الى الحد الذي ادعى فيه ما اسمي ” جيش سوري حر ” بانه بات يسيطر على معظم الحدود السورية مع لبنان.

2) قيام الهيئة العليا للاغاثة اللبنانية – وبضغط من الجهات نفسها – باحتضان المسلحين والارهابيين السوريين الذين يلجأون الى لبنان بعد ارتكابهم اعمال القتل و التدمير في سوريا، ثم التكفل بامور الاستشفاء لهم و الرعاية و الاقامة، حتى باتت هذه الهيئة و رغم سياسة ” النأي بالنفس ” الشهيرة المعلنة، توفر للقتلة المجرمين رعاية و امانا اجتماعياً في لبنان بدل ان يترك امرهم لاجهزة الدولة المختصة ليصار الى تسوية وضعهم و تقرير مصيرهم على ضوء القواعد القانونية و الانساتية،بالتنسيق مع الاجهزة السورية ذات الصلة.

3) الاعتراض على عمل الجيش و رفض تحركه لضبط الاوضاع العسكرية و الامنية في الشمال بعد ان بات علنياً في تلك المنطقة نقل السلاح و ارتداء البزات العسكرية، و اقامة معسكرات التدريب، وتركيز مخازن الاسلحة و الذخائر المهربة من الخارج و التي لم تكن باخرة لطف الله 2 الا غيض من فيضها.

4) استهداف الجيش في امنه و معنوياته الى الحد الذي سمح البعض من تلك الجماعات لنفسه بوصف العسكريين بانهم مجموعة من “القتلة المقوننيين ” و دعا اخرون منهم الى انشقاق في الجيش ثم اطلقوا النار عليه، و رغم ان هذه الافعال تقع تحت طائلة القانون الجزائي، فان القضاء اللبناني، كما السلطة السياسية اللبنانية سكتوا جميعا و لم تتحرك الدعوى العامة، لا بالعكس كان السلوك حيث تمت ملاحقة العسكريين الذين قاموا بواجبهم لدى تنفيذ مهمة عملانية نظامية مأمورة و مخططة، و كان فظيعاً ان نجد من ينفذ القانون حبيس اقفاص الاتهام و ظلمات السجون، و من خرق القانون طليقاً لا يلاحقه احد. ممارسة شجعت البعض على المزيد من الاعتداء على معنويات الجيش و المطالبة باحالة هؤلاء العسكريين امام المجلس العدلي في سابقة لم يعرفها جيش في العالم.

ب‌. لقد ادت هذه السلوكيات مع ما رافقها من غوغاء و تحريض الى ضمور تواجد الجيش و انتشاره في اكثر من منطقة من مناطق الشمال خاصة القريبة من الحدود مع سوريا، و تسبب ذلك في فراغ امني استغل من اجل خدمة الهدف الاميركي الاساس – اقامة الملاذ الامن للارهابيين – وسجل مشهد شمالي فيه ما يلي:

1) استشراء الظهور المسلح و قطع الطرقات و محاصرة الاهالي في منازلهم، والاعتداء على بعضهم وصولا الى تسجيل ارتكابات مخلة بالاداب و الاخلاق العامة.

2) تحول الحدود اللبنانية – السورية في الشمال الى خط مواجهة و قتال بين الجيش العربي السوري الذي يدافع عن امن سوريا، و بين الارهابيين المتمركزين في الجانب اللبناني من الحدود و الذين تعدى عديدهم – وفقا لبعض التقارير الصحفية الاجنبية ال الفي مسلح – ما تسبب في ارهاق المواطنيين اللبنانيين من الجو الذي اشاعته هذه الاشتباكات و االذي ما كان ليحصل لو ان لبنان مارس سلطته وتحمل مسؤولياته في منع تحول ارضه الى قواعد للارهب ضد سوريا.

3) تحول جزء من المستشفيات اللبنانية الى ما يشبه المستشفيات العسكرية الميدانية للارهابيين تتولى حراستها اجهزة امنية غير رسمية.

4) نزوح الكثير من اللبنانيين عن قراهم من الشمال، و احجام شرائح كبيرة منهم عن الذهاب الى المنطقة وفقا للمعتاد من السلوك لجهة قضاء فصل الصيف هناك، احجام سببه الخوف من الاختلال الامني والتحول الذي حمل احدى الراهبات المسيحيات على القول :” المنطقة لم تعد لنا “.

ج. وكان لا بد لهذا المشهد الخطر من اي يفرض تدخل الدولة للاضطلاع بمسؤولياتها من اجل امن الوطن و المواطن و سيادة القانون و الوفاء بالتزامات لبنان الدولية التي تحددها قواعد القانون الدولي العام والاتفاقيات الثنائية بين لبنان و سوريا، تدخلاً يضع حداً ” للمنطقة المعزولة ” التي تقوم واقعيا اليوم في الشمال اللبناني. تحركت الدولة و قررت انتشار الجيش على الحدود الشمالية و لكن…؟

لقد ضيعت الدولة فرصا كثيرة خلال الاشهر ال 16 الماضية من عمر الازمة السورية، والان يبدو انها في في قرارها الاخير (انتشار الجيش على الحدود) و بالصيغة و الطريقة التي صدر بها، اضاعت فرصة جديدة حيث انها لم تتكئ على صراخ المواطنيين اللبنانيين الذين كفروا بسياسات الانتهازيين من قادتهم السياسيين، واطلقوا الصرخة التي تناشد الجيش فرض الامن، ولم تمارس صلاحياتها كما ينبغي ويفرض الواقع الميداني، بل جاءت بقرارا لا نعتبره في مستوى الخطر و التهديد، ثم ان محضر جلسة مجلس الوزراء ذاته الذي ادرج فيه القرار، حمل قرارا اخر اجهض الصدمة المعنوية للقرار العملاني هذا من خلال الضغط على القضاء اللبناني للتوسع في التحقيق حول قضية الكويخات، توسعة تخفي جنوحاً للاستجابة الى الغوغاء و الاستمرار في خرق القواعد العسكرية في محاسبة العسكريين ما يعني ببساطة عدم ثقة بقرارات القضاء العسكري، و رغبة في ابقاء سيف الملاحقة مسلطاً على رقاب العسكريين ليكونوا عبرة لسواهم حتى لا يتجرأ احد بعد ذلك على اطلاق النار على ناقل سلاح حتى ولو اطلق هو النار عليه. ؟!!……

اننا نرى في موقف الحكومة اللبنانية المتضمن للقرارين اعلاه، ثغرات وعوائق تؤدي الى تعقيد عمل الجيش وغل يديه عن حفظ امن ينبغي ان يصنعه السياسيون، وهنا نذكر بان اساس القوة العسكرية هو الهيبة والمعنويات، وان شعور العسكري بان دولته تعاقبه من غير جرم ارتكب، وتحجم عن حمايته، سيؤدي به الى التراخي في تنفيذ المهمة. ولهذا كان اولى بالحكومة ان تتخذ موقفاً حاسماً لاستعادة الامن للشمال وللوطن عبر :

1) اعلان المنطقة شمالي خط عرسال طرابلس، منطقة عسكرية و تكليف الجيش بحفظ الامن فيها استناداً للمادة 4 من قانون الدفاع الوطني،و منع اي ظهور مسلح او قطع طرق او اقفال مناطق، لان الامن لا يكون امنا سطحيا ًعلى خط، بل اساسه امن منطقة و اقليم متكامل في الجبهة والعمق.

2) وضع حد للمس بمعنويات الجيش و سحب ملف عسكريي حاجز الكويخات من التداول الاعلامي، والسير فيه وفقاً للاصول المسلكية و القضائية المطبقة في الجيش وبسرية تامة.

3) الملاحقة القضائية الجدية بحق كل من يمس بسمعة الجيش و معنوياته كائنا من كان وذلك تطبيقاً للقانون الجزائي. ووضع حد نهائي لكل السلوكيات التي سبق ذكرها اعلاه ضد سوريا من لبنان.

ومن غير هذا، سيبقى قرار نشر الجيش على الحدود محدود التأثير من الناحية الامنية و لن يستعاد الشمال الى لبنان و لن يجهض مشروع الملاذ الامن الاميركي، و اكثر من ذلك نخشى ان تكون الدولة قد وقعت في فخ نصب لها، فوضعت الجيش اللبناني في مواجهة الجيش العربي السوري، وتركت الداخل ل”جيش الارهاب الحر” ما سيسمح لاميركا مستقبلا ان تتباكى على السيادة اللبنانية في حال سقوط قذيفة دفاعية سورية في لبنان. وهي اميركا ذاتها التي تسكت عن احتلال الغجر و مزارع شبعا ولم تحرك ساكنا بل ايدت احتلال اسرائيل للجنوب اللبناني لنيف و 22 عاما، لم يوضع حد لها الا على يد المقاومة التي يحتفل لبنان و كل احرار العالم في هذه الايام في الذكرى السادسة لانتصاراتها التي منعت اقامة الشرق الاوسط الاميركي الجديد.

:::::

المصدر: جريدة البناء اللبنانية