أحمد حسين
لم يعد تفكيك المشاعة الهجرية قضية للنقاش أو مساءلة المستقبل. والآن يمكن القول بهدوء ويقين ثابت، أن فضاء مختلفا في الشرق الأوسط، سيقدم نفسه للتاريخ، بعد أن استقرت هوية الجغرافيا البشرية والسياسية رسميا، على ما كان الغرب يؤجله منذ زمن بعيد، بسبب صراعاته الإستعمارية البينية التي حتمت التأجيل. كان الموات الوجودي في المشاعة الهجرية، بكل أبعاده الإجتماعية، أكثر جدوى وأسلم في العلاقات الإستعمارية البينية، التي كانت تتحرك استعماريا في إطار التوافق الضمني، من إعلان وفاة المشاعة الهجرية رسميا، وفتح باب التسابق الحر في المنطقة. لم يكن هتاك تساؤلات بحثية أو خلافية،حول وجوب إفراغ المنطقة من أية حيوية اجتماعية محددة، تعطي للجغرافيا والتاريخ فرصتهما المنطقية في استبناء مصطلح الأرض الخراب، من تناقضات العينة المتواجدة، مع قوانين الإجتماع البشري. لم يكن هذا سرا استعماريا تكتيكيا يمكن إخفاؤه بالأكاذيب. كان جوهر الوجدان المتوارث لثقافة المصير في الغرب، والذي ظل يحدد علاقاته بالآخر. هذا الآخر الأزلي للغرب هو عربي التاريخ، الذي ظل منذ أيام طروادة وقبلها، يغلق في وجهه بوابة الشرق، ويفصل بينه وبينها على مر العصور. لذلك فإن وجود العربي أصيح إشكالا مصيريا خطرا بالنسبة للغربي. وفي إشكالات المصير يلجأ الأقوى عادة إلى إبادة الخطر من جذوره.
عندما بدأ سياق العولمة، لم يعد الغرب مضطرا إلى تأجيل النعي، بل لم يعد من مصلحته ذلك، لأن السباق قد بدأ من أطراف عالمية أخرى، وعلى أسس جديدة تجاوزت الحلم الأوروبي بالمتوسطية. لقد اعتبرت الصهيومريكية نفسها الوريث الأوروبي والكوني للعالم وللتاريخ. ودخلت الصين بقوة في التنافس على مصادر الطاقة. وعلمت أوروبا أن حلم المتوسطية قد فات أوانه، واكتفت بالسعي إلى ضمان إلى حصة من النفط تروي عطشها. هذا السياق الغربي لاغتيال العرب، كان معروفا للكثيرين، وما زال قائما بقوة أشد. ولكنه أصبح معروفا اليوم بصيغته الصهيومريكية المعولمة، لدى كل أمم العالم، ما عدا الهجريين بالطبع. لأن الميت لا يتدخل في مراسيم الجنازة.
إذن فإن الإعلان عن وفاة العنصر العربي رسميا، من جانب الصهيومريكية، كان استئنافا لهاجس الإبادة الأوروبي، لأن شواطيء العولمة شرقي المتوسط، لها ذات الأهمية الحاسمة التي كانت لها بنظر المتوسطية الغربية. كل ما أضافته أمريكا إلى وضع المشاعة، هو مواصلة الإستثمار في الإستشراق الأوروبي بوتيرة أسرع، وبعد كوني شامل للهدف،وآليات أكثر نجاعة، وتفضيل العنف المتحلل والمباشر، على النفاق التمدني الأوروبي الكاذب والمثير للإشمئزاز.
هذ أكثر من كاف في وصف واقع لم يعد يجدي معه أي شيء. لم يعد هناك ماض أو تاريخ للمشاعة يجدي ذكره أو حتى أرشفته. عم سيتحدث التاريخ؟ عن أناس عاشوا منذ قرون غائبين عن وعي الوجود، فلفظهم مصطلح الحضور من حسابه أخيرا، كما تستوجب نواميس الوجود؟ ربما هناك اختلاجات لا بد منها تدل على كينونة محتضرة، ولكنها غارقة في ضباب الغموض الأبيض مثل الأشباح، قكيف يمكن اعتبارها ظاهرة وجود فعلى يمكن الحديث عنها في السياسة؟ لم يكن لعرب الهجرة تاريخ واقعي يمكن الحديث عنه أصلا. كان تاريخا للهدم واحتجاز الحركة فتحول إلى مستنقع منتن. استولت عجول الفقه الإستشراقي على وعي البشر في المشاعة، وحولتهم إلى هجريين عديمي الدين والعقل والإرادة، مهمتهم الفصل بين العرب وتاريخهم الحقيقي بالفقه الدبنوي. كان هذا الفقه دائما هو النفي الشعوبي والشجب العنصري للعربي. والهجري كحيوية خامدة في علم الإجتماع، هو معلم اجتماعي بائد على الجغرافيا والتاريخ ولكنه ليس فيهما، وهو سيفتتح،في اعتقادي، عصر العبودية المعولم بخاماته الجسدية.
كان الربيع العربي سياقا إجرائيا محددا بالتفاصيل المملة. لم يكن هناك ما يمكن إضافته إلى إنسان المشاعة الهجري. كان قد تمت برمجة الأكثرية على الثقافة الهجرية المعادية للقومية، على يد الفقهاء، من ثورة الحنابلة في بغداد على عروبة الخلافة والإسلام، وحتى تحالف الإخوان مع الغرب، ثم الصهيومريكية، في أيامنا. وكان هناك هجريون متمردون يصنفون أنفسهم مع مثقفي المعاصرة، ويرون أنهم يجب أن يعتنقوا الليبرالية الحداثبة ليكونوا مقنعين ثقافيا. وكانوا متحررين حتى انعدام المحافظة، ليكونوا مقنعين تحرريا. وهؤلاء مثل كل النيوليبراليين يتحركون بين العدمية الشاملة والثروة نحوالجنس. أي أنهم في قرارة أنفسهم يعتقدون أن الجنس هو غاية الحياة، وأنهم مدينون بوجودهم لعضوين جنسيين تحديدا وليس لأم وأب. أما مثقفو الخبرة الحياتية في الوظائف الأميرية العابرة، فهم نيوليبراليين يضيفون الإبتذال كقيمة إلى العدمية، ويحولون الجنس إلى التزام سياسي همجي في الشكل والمضمون. هؤلاء أعدوا ليكونوا إعلاميين ميدانيين للربيع العربي فقد نقلوا الإعلام الميداني إلى مستوى أورغيا الدم. كانو جميعا يبلغون تشنجهم الجنسي الجماعي وهم يحرضون على قتل الأطفال. وكان الحضيضيون ذوو النظرات الزائغة والأسنان المتآكلة، يشاركون في أورغيا التظاهرات الغنائية وهم في نعيم الغيبوبة، ويمارسون القتل في طريقهم إلى جهنم. لم يكن أحد منهم يعرف لماذا يفعل ما يفعل، سوى ميليشبات الإخوان وخريجي معسكرات المارينز في مصر وتونس وليبيا وقطر والسعودية وتركيا. وهكذا قام كل بدوره بتلقائبة وهمة تعبوية سريعة الإمتثال. وتحولت المشاعة الهجرية إلى فضاء مسرحي يقدم عروض استخدام الدم في لعبة التشكيل النهائية للتاريخ والجغرافيا، وكيفيات استخدام البشر عليها. وفي الواقعة التي شاهدناها في المشاعة بساطة مذهلة خالية من التركيب، تشبه عفوية استعمال الخشب في صناعة االأثاث.
المهم الآن، هو أن ما كان متوقعا قد حدث. استبدل الوجود الفراغي للهجري، بالفراغ الإيجابي للعميل الحركي القديم للإستشراق، حيث العمالة هنا هي تأدية دور بنيوي حداثي، في قاع الطوابق السفلى للمجتمعات في المشاعة. شراكة تراتب وتبعية بين العميل الحركي والسيد الكوني، تقوم على تبادل المنفعة بين الطرفين، في إطار ثانوية الطرف العميل. الإخواني وكيل غير سيادي وتابع للعولمة، وإمبريالي صغير سيادي واستبدادي واقتصادي محنك في نفس الوقت، على المستوى المحلي. كل ذلك مع إسقاط مصطلح الشعب والقومية في الهوية الإجتماعية او السياسبة أو الثقافية للمشاعة الجديدة. ولكن المشاعة لم يرد لها أن تكون واحة للسلام الإجتماعي والرخاء النسبي كما يظن البعض. فإيديولوجيو اللصوصية والفقه من ناحية، والنيوليبراليون العدميون، متشابهون في النوايا إلى درجة انعدام أية فرصة للتعايش أو على الأقل استمرار التحالف بينهم. كلاهما يريد ذات ما يريده الآخر. وسوف تصبح المشاعت الهجرية مطاحن للحوم الطرفين كما يريد المشروع التأسيسي للمشاعات. وفي النهاية سيتموضع الطرفان في خانة واحدة للإستعباد ويصبح من الصعب التفريق بينهم. فالجميع سيكون لهم قرون وأختام على أكتافهم. سيتحرر الفقه من التظاهر نهائيا، ويتخلص من الحرام والحلال. وسوف يسقط الحجاب ويأخذ معه قسم معتبر من الملابس. أما النيوليبراليين فسيعودون إلى قراءة هوبز بعد ساعات العمل الطويلة والمضنية. فماذا مع أمثالنا من صيادي العنقاوات القومية؟
نحن كأفراد لن نخسر شيئا لا يمكن تعويضه. فالقومي لا يمكن منطقيا أن يخسر قوميته لأنها لم تكن اختيارا للمصلحة الفردية. إنها النقيض العقلي للفردية، والحركة المرحلية والجدلية الأهم في البناء التطوري. سوف نبقى بالطبع قوميين باعتزازنا التاريخي، ووجداننا الثقافي، وهويتنا التاريخية الحضارية التي بدأت الإجتماع الكوني، يوم كانت بعض الشعوب ما تزال تقلد الحيوانات. لدينا كل ما نحتاجه من حيوية ومؤهلات الإنسان المميز، لنغادر إلى أفق أرفع وأوسع نحارب فيه الذل والعبودية،هو الأفق الإنساني الشامل. لقد أحببنا والتزمنا بالمفترض المصلحي لشعبنا العربي المفترض، ولكنه اختار الهجرية لتي هي حركة النقض البدهي المدبر لوجوده القومي. لفد اختار الهجري تلاشيه القومي في أعظم عملية انتحار جماعي في التاريخ. ولأنه كان ضحية للإغتيال، فسوف نظل نحبه وراء واقعه المسحور، ونأسف لمصيره الكارثي. لقد كان كل شيء ضده. وسحره كهنة الفقه الشعوبي ليصبح ضد نفسه. فماذا بإمكاننا أن نفعل للمنتحرين غير أن نرثي لهم ونبكي عليهم؟ لم يعد لهم ملجأ له باب. خسروا قوميتهم فخسروا إنسانيتهم، لأن الأفق القومي هو عتبة الأفق الإنساتي. هكذا يحتم ناموس التجربة، ألذي تعيه كل شعوب الأرض ما عدا أولئك المساكين.
ويقودنا هذا الموقف من التحولات الشكلية على أنظمة المقابر الهجرية المغرقة في القدم، إلى الإشكال المتفاقم الذي افتعلته أمريكا مع سوريا لضمها إلى دول المشاعة بالقوة. فالربيع الهجري الذي أطلقته أمريكا، وولاء دول المشاعة للربيع العربي، وأداؤها المتقدم والمخلص في تنفيذ إجراءات المذبحة على الساحة السورية، يشير إلى أن هذا الربيع الدموي، معناه أن أمريكا لا تستطيع أن تسمح ببقاء شبر واحد في المشاعة غير خاضع لسيطرتها المطلقة. فمنطقيا سوريا لا تستطيع سوريا تهديد المشاعات الأمريكية أو التدخل في شؤون ربيعها الوافر البركات. وفي الحقيقة أن سوريا أصبحت في العقود الأخيرة، طرفا مبتعدا عن تلك المشاعات الهجرية، لأنه لم يعد بالإمكان وجود اشياء، ولو شكلية، مشتركة لها مع تلك الجيوب المسحورة يالمسخ. لقد أعلن معظم الدول العربية إقامة اتفاقيات سلام وعلاقات ظاهرة ومعلنة، أو ظاهرة وغير معلنة، واستثمارات مشتركة مع إسرائيل، ولم نسمع أن سوريا تدخلت في ذلك، ما لم يطرق التآمر أبوابها علنا. وعندما أطل الربيع ” العربي ” كانت هذه التسمية المشبوهة توحي أن هذا الربيع يلزم سوريا أيضا. ولكن الأهم أن “العرب”، اي جميع عملاء المشاعة من ذوي العراقة الأيديولوجية وعلى رأسهم الإخوان، أو العراقات الأسرية العميلة الممتدة أجيالا في جهنم، سيكونون جيش الخلاص من سوريا.
وإذا أخذنا بالإعتبار، أن مصر هي القيادة ” الثورية ” الإقليمية للربيع العربي، وأن إسقاط مبارك تم على خلفية ولائه المباشر لإسرائيل، وليس عبر التنسيق مع أوباما، استطعنا أن نفهم أن مبارك لم يكن سوى الضحية المختارة موضوعيا، منذ قرر التحالف الإخواني مع امريكا وضع الربيع العربي موضع التنفيذ. بالطبع كان لأمريكا تحالفات أخرى مع باقي عملائها في مصر حول هذا الموضوع. وقد رأينا كيف قام الجيش بالثورة نيابة عن الشعب، وأسقط ميارك بضمانات للنظام لم يستطع بعد ذلك الوفاء بها لاعتراض الإخوان عليها. وشرب الشعب المصري المقلب الثوري وانتهى الأمر. وإذا أضفنا إلى هذا السباق مكانة مصر العفوية والموضوعية في التاريخ القومي المغدور، وكونها أكبر المشاعات وأهمها، ولكن أكثرها تأثرا وارتباطا بالثقافة الإخوانية تاريخيا، أصبح من المؤكد أن مصر الإخواتية والديموق… كانت منذ البداية موطن النشأة لمؤامرة الربيع العربي على العرب. وأنها الآن هي غرفة العمليات الإقليمية التي تطبخ فيها إجراءات الذبح العربي في سوريا. فهل احترمت سوريا إرادة لشعب المصري في تشكيل مسلسله الثوري الهجري، أو اختيار حكامه؟ لم نسمع بغير ذلك. والسوريون ليسوا أغبياء، ويعلمون تفاصيل ما جرى ويجري، فهل تدخلوا في خيار ليس لهم حق التدخل فيه؟ لم يفعلوا لأنهم ملتزمون بقناعانهم الإيديولوجية، كما أن الشعب المصري التزم بقناعاته الإيديولوجية حينما أعطى ثقته للإخوان. كل خطأ شعبي هو الصحيح الواقعي في مرحلته. فالخطأ الشعبى المستدعى جدليا بواقع الحال، هو في كثبر من الأحيان دينامية لتجربة تطورية لاحقة. والأخطاء الوعيوية هي جزء جوهري من الحركة الطورية والتطورية الجدلبة. صحيح أن الهجرية ليست خطأ جدليا في أية حال، من وجهة النظر القومية. إنها كارثة مرضية نادرة ومنفرة، تقع خارج الظاهرة التطورية وتناهضها. ظاهرة لها سياق فريد تاريخيا، ترى في تعطيل الوعي والعقل، ومطاوعة التخلف، التزاما تزعم كنيسة الفقه الشعوبي والإستشراقي التآمري أنه التزام ديني. فالثقافة الهجرية هي حالة مسخ اجتماعي مدبر، قامت الكنيسة الإسلاموية فيه بإبادة عقلانية ووعي وحرية كثير من أتباعها، وحويلهم إلى مجرد بصمات على جدارالخراب العربي الشامل، لأن هذه هي مهمتها بطبيعة الهدف. وقد اختار الشعب المصري بكثرته، مثل بعض الشعوب العربية الأخرى، التجربة الهجرية، بديلا عن معاناة الوجود الإجتماعي المعقدة، ومسؤوليات المواجهة. فكيف يمكن مناقشة مثل هذا الوعي الشعبي الكاسح، الذي يتمثل الدين في الدينوية الفقهية، التي هي عدوه الديني والقومي والإجتماعي، وباختصار عدوه الوجودي؟ سؤال سيطرح نفسه على البعض. وحتى إذا كنا نعرف كيف حدث ذلك، وأن الشعب المصري لم يقرر نتيجة ما نسب إليه، ولكن الإعتراض والطعن من الخارج هو تدخل في نتيجة انتخايات، اعتمدها الشعب المصري بدون أعتراض؟ فهل تدخلت سوريا فيما جرى في مصر، وهي تعرف انعكاساته المباشرة النآمرية عليها؟ وتخيلوا فقط أن تحدث ” ثورة ” في مصر، مجهولة السياق والهوية والأسباب والمطالب والنتائج، عنوانها مبارك وخاتمتها مرسي، وأقل الناس علما بمجرياتها هم الثوار، لو استطعنا أن نصدق أن جماهير ميدان التحرير كان لها علاقة حقيقية بشيء مما يجري. لقد قدم ” شباب الثورة ” استقالتهم بعد أن وعدوا، من النظام القديم والنظام الجديد والعسكر، بأن ” الثورة ” ستتحقق، بدون ذكر عنوان البلد التي ستتحقق فيها، والتي تبين لهم فيما بعد أنها ليبيا واليمن وسوريا. هل كان ذلك ممكن الحدوث في بلد غير هجري مشاعي، وهل يعني ذلك قي النهاية غير أنه إجراء ثوري تآمري واضح على هوية المنطقة التي تشكل سوريا جزءا مستهدفا فيها بشكل خاص؟ فلماذا يسكت الشعب المصري على تدخل من انتخبهم قي الدم السوري؟ أليس الشعب المصري مسؤولا عمن قام بانتخابهم. إنه لم ينتخبهم ليذبحوا الشعب السوري، فلماذا يسكت حينما ير تكبون باسمه جريمة تترفع عن مثلها الحيوانات، آلياتها المجرمون والمرتزقة والمخدرات والجنس والكذب والخيانة ومرسي وكل ما يغضب الله والإنسان. فهل أرسلت سوريا إرهابيين إلى مصر، يعتدون على الشعب المصري؟ وهل اعترضت على تعيين مصر رجلا لها في الجامعة ” الأمريكية ” يدير الحملة الدموية على الشعب السوري؟ لماذا؟ لأن سوريا الدولة القومية لا يمكن أن تفعل هذا بدولة ” عربية ” كانت مرة المثل القومي الأعلى لكل العرب القوميين. ولأن سوريا لا يمكن أن تلعب لعية الآخرين في مصر.
لقد حتم منطق الحالة أن نختار المشهد المصري لأهميته الحاسمة في المشهد والسياق. فمصر بأزهريتها أصبحت موطنا للفقه الشعوبي الهجري منذ بداية الهجمة الإستشراقية الحديثة، التي مهدت وواكبت نشوء المركز الإستشراقي الأهم في الشرق والعالم الإسلامي الثالث. ومصر أكبر وأهم موقع عربي في المنطقة ومركز للثقافة الإشكالية الفقهية، بين الديني والقومي، والذي تحول إلى ساحة صراع كبرى بين التوجهين، بعد ظهور الناصرية. وتبلور واقع الحسم حول استراتيجة موحدة للغرب وحليفه المركز الهجري والرجعيات العربية النفطية، حول وجوب تصفية المركز القومي وامندادانه العربية الشعبية الكاسحة، بكل ثمن. ولم يكن هناك ظرف موضوعي واحد للحسم في صالح الجانب القومي سوى الحراك الشعبي القومي الذي لم يحصل، وفشلت الشعوب العربية في حماية الناصرية. وكان حلول الربيع العربي، الذي أصبحت مصر الديموقراطية مركزا إقليميا له، إلى جانب نفطيات الشرف الهجري في الخليج،هو أهم وآخر نتائج هذا الفشل، وتتويجا لمشهد سقوط البشر من وجودهم الإنساني في المشاعات التي يديرها عدميو التحالف مع أمريكا.
وأكثر ما كان بارزا للعيان في الربيع المصري، غياب الصوت العربي عن سفوحه الخضراء غيابا كاملا. والأمر مفهوم تماما على صعيد الربيع نفسه، ولكن على صعيد التعقل النظري، فقد كان الأمر مدهشا. كيف استطاعت ملايين ميدان التحرير المصرية، تجنيب ذاكرتها، بهذا الضبط المرعب، ذكر جمال عبد الناصر ولو خطأ. لماذا لم يخطر ببال قادة شباب الثورة أن يترحموا عليه ولو بشتبمة واحدة،على سبيل إخفاء دورهم الحقيقي؟ الا يمكن القول بعد هذا أن الشعب المصري هو أكثر شعب منضبط في العالم؟ الوحيدون الذين أتوا على ذكر الرجل بطريقتهم هم الإخوان!
بعد بدء الحملة الإنتخابية لرئاسة المشاعة المصرية الجمهورية الديموقراطية. أتوا بالمرشح الذي حاز على برونزية السباق بعد ذلك. كان يتزعم، كما فهمت، حزبا مجهول الهوية من داعميه أعضاء النادي الناصري، على الأغلب بتوجيه من هيكل. كان الهدف امتصاص الأصوات التي تستنكف من التصويت للإخوان عقليا، وتفضل على ذلك حزبا مجهول الهوية، أو الإستنكاف السياسي بمنطق الظرف الموضوعي الخاص بفئة ما، خوفا من توجّه هذه الأصوات أو بعضها لأحمد شفيق، أو نحو الإمتناع عن التصويت. ولم يكن بوسع الإخوان، سوى اللجوء إلى ما يكرهون لتلافي ذلك. وقد دهش أعضاء النادي الناصري من النتيجة أكثر من الإخوان.
قرأت مقابلة مع الرجل البرونزي ذاك، أجرتها على ما أذكر مجلة لبنانية ساذجة، أو ربما بالغة الدهاء. وحاورته على فرض أنه ناصري، أو إخواني متستر يجب فضحه. كان كل سؤال وجهه المسائل إليه يتضمن إشارة صريحة إلى الناصرية أو عبد الناصر. وكان الرجل يتحدث بإيجابية متحفظة عن عبد الناصر وكأنه زعيم بلجيكي. وفي النهاية دفعه الحرج من التهرب المستمر، فعقد مقارنة اعتذارية بين محمد على وعبد الناصر خرج في نهايتها بنتيجة أن محمد على كان رجل نهضة وتنمية مصرية، أما عبد الناصر فكان يحب الفقراء. أي أنه كان مثل إدريس السنوسي، ومحمد على مثل نابليون. وفي أتناء المقابلة لم يذكرالبرونزي كلمة عربي أو قومي أو اشتراكي مرة واحدة، وعندما اضطر لذكر الشعب العربي وضع مكاته الأمة بدون تحديد الهوية الدينية. ولو كان نجيب محفوظ حيا، لأنحى باللآئمة على الإخوان لأنهم لم يستغلوا تاريخ محمد علي باشا، أعظم شخصية لزعيم مصري ألباني.
لا أقصد بهذا الكلام، التدخل في انتماءات الناس في المشاعات الهجرية، أو التعبير عن دهشتي من أي شيء حصل في مصر يبعث على الدهشة. أقصد القول أن جهاز الربيع العربي يملك من الإحكام والنجاعة ما يؤهله للغسل الجماعي لأدمغة الناس. قدم عبد الناصر للمصريين مصرا جديدة. فرفضوها لكثرة سيئاتها. ولكن قيل لهم أن أعظم سيئاتها على الإطلاق، أنها ” دمرت مصر من أجل العرب “. لماذا من أجل العرب؟ لآ أحد يعرف الحقيقة سوى المصري ” المستعرب ” جمال عبد الناصر؟ وكل نظام مصري جاء بعد عبد الناصر، كان همه محو آثارالعدوان العربي على مصر. وأصبحت مصر اليوم ” باختيار شعبها ” مستعمرة خليجية هجرية، بمندوب سام أمريكي إسمه مرسي. هذا المشهد التحولي المصري، هو الصورة النموذج التي ستسود كل أقاليم المشاعة الهجرية حين يكمل الربيع استقراره الصهيواخواني. مشاهد متحاذية للسقوط الإجتماعي الشامل، على شكل جيوب صهيومريكية لوجستية مجهولة الهوية والمصير، تتطاحن خدماتيا في سوق العولمة السياسية والدكاكينية. ولكن يبقى السؤال : مصر ليست قطر أو السعودبة. إنها دولة مؤسسات عريقة تمارس العمالة بوعي. وأمريكا ليست بحاجة لمصر كي تقود المذبحة ضد سوريا، فلماذا لا يقول على الأقل جزء من الشعب المصري لمنتخبيه : ما هو الخطر الذي تشكله سوريا على طنطا؟ لماذا ترتكبون جرائمكم باسم كل المصريين؟ لماذا أصبحت مصر مطبخا لجرائم الآخرين وآخرها استشهاد النخبة العسكرية في سوريا. هل أرادت كلينتون أن تقنع إسرائيل أن النظام الإخواني في مصر، ملتزم جهاديا بأمنها الإقليمي، وأنهما يمكن أن يبنيا علاقات ثابتة لتبادل المنفعة؟ لا تذهبوا بعيدا! الأطراف التي تعادي سوريا كثيرة جدا. ولكن المعركة ضد الشعب السوري تدار من مصر بالذات.
ومقابل مصر كمركز هجري نموذجي، تقف سوريا كنموذج ذاتي لاستمرار خيارها القومي. هل من حق سوريا وشعبها ذلك؟ من يدري، فقضية الأحقية في عصر العولمة الصهيومريكي ليست سوى القوة. وحتى الآن استطاعت سوريا أن تسدد كل فواتير الأحقية من دمها وصمودها ووعي شعبها، ولكن لا شيء مضمون على المدى الأبعد. فشعوب المشاعة الهجرية هذه المرة، ليست مصادرة هجريا فقط، بل مصادرة إنسانيا أيضا، ومجندة في المجهود العسكري لذبح سوريا، كما فعل عسكريو الطنطاوي في ليبيا. أما أنظمة الربيع العربي الثورية، فهي ملتزمة ” إيديولوجيا ” بالتخلص بأية وسيلة ممكنة من العرب في سوريا، حفاظا على مصلحة مواطنيها، ومصلحة أمتهم المجهولة الهوية. أي حفاظا على دورها التاريخي في السقوط كشركات خدماتية مملوكة للصهيومريكية. وبهذا الواقع البسيط للعلاقات على ساحة المشاعة، يصبح من المستحيل المحافظة على بعد هجري أو عربي للصراع بين سوريا ودول المشاعة. المصطلحان لم يعودا يشكلان حالة افتراق مموهة، لها علاقة بتناقض ذي بعد محلي في المصالح بين كيانات المشاعة، كما كانت الأمور تبدو قبل التمايز الربيعي. لقد ذاب المصطلحان الهجري والقومي كل في مضمونه وظرفه الواقعي، وظهر إشكال العلاقة الحقيقي الآن ببعده الصهيومريكي الوحيد. الهجريات ظلت هوامش صراع استخدامية عديمة الإرادة لمشروع الصهيومريكية العالمي، تلاشت فيه منطقيا، بعد أن اقتضت الظروف الموضوعية له،الإعلان عن ملكيته المباشرة لها. سوريا وجدت نفسها أمام مشروعها الأيديولوجي القومي للحرية الإجتماعية، ملزمة بالإندماج مع بقايا مشروع الحرية العالمي بمستوياته الإنسانية والشعبية. ورفعت بعض الدول التي حتمت علبها العربدة الصهبومريكية التخوف على مصير بلادها ومصير العالم، سياستها إلى مستوى الشراكة المبدئية لمواجهة الخطر مع دول الإستهداف الأخرى. وقامت بعض الدول مثل روسيا والصين، بالربط بين مصالحها ومصالح مشروع الحرية الدولي القديم، على أرضية هذا الواقع العالمي الذي فرض إشكالاته المشروع الصهيومريكي على كل الآخرين. وأدى هذا إلى حالة من التدارك العالمي الضيق حتى الآن للخطر، والتي ربما ستتحول إلى معسكر دولي واسع لاحقا. من الطبيعي في ظروف ربيع المشاعة الدموي، الذى ليس له هدف أبعد من تصفية المصطلح العربي، أن يجد مشروع الحرية السوري نفسه بالضرورة والموضوعية في قلب هذا المعسكر، ولكن محاطا أيضا بتآمرات المشاعات الهجرية، ليس بأية صفة سوى كونها أدوات لأمريكا والصهيونية. ولكن واقع الأمر الميداني، هو أن هذه الشراسة المفرطة من جانب هؤلاء،لا يمكن تجاهل نتائجها المدمرة على سوريا شعبا ووطنا ودولة. إنها أصبحت تشكل حرب استنزاف رهيبة تصيب الشعب السوري ونظامه ومستقبل سوريا كله بالضرر الفادح. وتضعها أمام واجباتها الموضوعية، وأولها الذوبان في أفق الحرية الإنساني، والمقاتلة من هناك عن نفسها ووطنها وشعبها وحريتها. لم يعد هناك مبرر موضوعي من جانب سوريا للتفكير في وشائج القربى مع شعوب المشاعة التي لم يفقدوها قوميتها فقط، بل أفقدوها التزامها الإنساني. هذه طوباوية لا يمكن للواقع الميداني احتمالها. من هذه “الشعوب ” البائسة، تأتي الذراع الأمريكية التي تحمل السلاح للخلاص من سوريا. ومن هذه ” الشعوب ” تأتي الجماهبر التي تتفرج على الدم السوري في قنواتها الفضائية، وتبرر ما ترتكبه حكوماتها ومجرميها بصمتها. لو كان المجرمون والإرهابيون والظام المشعي فرنسيا، لم يسكت كل الشعب الفرنسي على ما يجري. ضاعت فلسطين وهم يؤيدون ويتفرجون، وذبح العراق وهم يؤيدون يتفرجون، وذبحت ليبيا وهم يؤيدون ويتفرجون، وها هي سوريا تذبح بنفس الطريقة وتتحدث عن شعوب عربية. ما هو الهدف من ذلك؟
أمريكا لن تتراجع عن ذبح سوريا ب ” العرب “. لا مناص من الموت أو الإنتصار. أمريكا لم تعد قادرة بدون الإرهاب ” العربي ” أن تقضي على سوريا. فأين الموضوعية فيما يردده الإعلام السوري عن شعوب هجرية من أصل عربي؟
إن العنف الدفاعي بعد كل ماحصل ويحصل، هو الواجب الموضوعي والواقعي تجاه نفسها وتجاه إنسانيتها والتزامها القومي. كل تصور أو سلوك آخر هو غير واقعي ومعناه الإنتحار. ودور أنظمة الربيع في المشاعة الدولية واضح وضوح الدم. على ضوء هذا الوضوح، فإن العلاقة بين روسيا ودول الممانعة يجب أن تتجاوز، من جانب الطرفين كل حواجز الإندماج الإستراتيجي، وإلا فلا فائدة حاسمة منها. الضرورة السياسية المبدئية على ضوء السياق الذي تفرضه أمريكا على الطرفين، من استبعاد واستلحاق، تقرض الإنتقال إلى بعد الضرورة الإستراتيجية. فسوريا وإيران وقوى الممانعة الشعبية في المنطقة، هي مقتل المشروع الصهيومريكي من حيث حساسية الموقع وأهميتها. هذا الموقع الممانع والمتصدي ليس خشبة لعروض الشبق السياسي العابرة مثل المشاعات الهجرية، وإنما هي تشكل جغرافيا المصير بالنسبة لكل المشاريع الدولية العابرة للقارات. ومن ناحية سوريا، فإن واقع المشاعة المنتن والسام، يفرض عليها حاليا تجاهل أي بعد عربي خارجي في حساباتها , والتركيز على بعد الممانعة الذي أصبح يشكل بعدا دوليا بارزا بعد انحياز روسيا والصين إليه، وبعد بوادر الرفض الإيجابي التب بدأت تبلور الخوف من انحطاط الدور الأمريكي إنسانيا وقيميا على صعيد علاقاته ونواياه تجاه الآخر كائنا من كان. إن دولا كبرى ومهمة مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وفنزويلا ودولا أخرى، هي الآن ربما في منتصف الطريق لألإنضمام إلى معسكر الحرية الجدبد. أي أن الفرصة أصبحت سانحة الآن أمام سوريا لتمثيل النصاعة الحضارية العربية على صعيد الثقافة العالمية من ناحية، والتخلص من عار التاريخ الهجري والثقافة الهجرية المشاعية، التي يتأذى بها العرب أكثر من غيرهم، من ناحية أخرى. ان تساهل الإعلام السوري في وصف دول المشاعة بأنها عربية، ليس حكيما على الإطلاق، ويسيء إلى سمعة سوريا كبلد عربي. كما أن تعميق تحالفها المصيري مع روسبا وإيران، وصداقاتها مع بعض دول العالم الأخرى، يقتضي التركيز على البعد الثقافي والفكري الإنساني، وإفهام العالم، أن العربي نقيض الهجري حضارة وثقافة ودينا والتزاما وتاريخا، وأن الهجرية هي استصدار استشراقي للإسلام، كان هدفه أصلا تخريب كل ديناميات النهضة الأصيلة للعروبة والإسلام في المنطقة. مرة واحدة وللأبد، وبدون تضييع الوقت والجهد، يجب أن يفهم العالم كيف يعامل سوريا كدولة عربية مسلمة وليس كدولة هجرية. العروبة حضارة إنسانية مؤسِّسة، والهجرية مشروع سياسي. الإسلام دين سماوي، والهجرية دينوية فقهية سياسية. العروبة العقل التاريخي الأول للكون، والهجرية دعوة لإنكار العروبة والعقل. وإذا كانت الهوية التزاما قوميا، فكيف تكون دول المشاعة الهجرية الربيعية دولا عربية، وهي تنكر ذلك بنفسها، وتدعم إنكارها بالمبادرة بتدمير سوريا وطنا وشعبا؟ وما معنى تمسك سوريا بالمصطلح الهجري كمصطلح عربي؟ من أراد أن يكون له شرف الأصالة العربية والإسلامية، سيجدها بعقله وإيمانه وليس بكتب الفقه الشعوبي. فلندع الناس يختارون لأنفسهم، ونختار نحن لأنفسنا. الإسلام إيمان والعروبة شرف، ومن يتخلى عن أحدهما فهو ليس عربيا ولا مسلما.
يجب على التمايز الحالي بين المواقف أن يصل حدوده الإحتدامية القصوى، وأن تعيد الشعوب العربية النظر قي هويتها وتقرر لنفسها دورا يلائم تلك الهوية. الجمع بين الهجرية من ناحية، والعروبة والإسلام من ناحبة أخرى، عبث عقلي لا مبرر له يدعو إليه كهنة الخيانة. إما هجري شعوبي دينوي، وإما عربي مسلم، لأن الفرق بين الأمرين، قائم على التناقض التام ينفي أحدهما الآخر. من كان عربيا فليقلها بتكاليفها والتزاماتها ومسؤولياتها. ليحمل السلاح إذا كان قادرا ويذهب للمشاركة في حماية المعقل القومي الأخير، كما يذهب عجول الهجرية إلى سورية لتدميره. هذه هي المعركة الحاسمة بين التىآمر الشعوبي والعروبة، وبين الدسائس الفقهية الإستشراقية والإسلام. يجب على سوريا أن تعلن ذلك وتتبناه كثقافة لا بد منهل لمشروع الحرية والنهضة والتنمية القومي، كمقدمة للرد بالمثل على المشاعات الهجرية. وإلا فدعونا من هذا الهراء الدموي الذي لن يكون له فائدة للشعب السوري. لقد آن الأوان للفصل الأخير من هذا الصراع الدوري المدمر، ويجب الفصل بين الإخوانية والإسلام، وبين الهجرية والعروبة. بدون هذا لا مصير سوى الموت لمن تبقى من العرب.