كيف صُنعت خرافة الربيع العربي والثورات الوهمية؟

كلاب بافلوف.. وأرانب المختبرات.. وأجراس وأضواء الفضائيات

محمد الأسعد

 

مع اقتراب ربيع الذئاب الغربية الذي تطلق عليه وسائط إعلامية عربية واسعة الانتشار تسمية “الربيع العربي”، ومع اقتراب موعد هياج جماهيري تم إعداد قنوات تصريفه بدقة وبدأت تطلق عليه هذه الوسائط نفسها تسمية “الثورات العربية”، بدأت حركة موجهة في أكثر من موقع إعلامي عربي، وفي أكثر من ساحة عربية، لتصفية وإبادة الأصوات الحية الناقدة التي دأبت على تحليل ونقد مضمون برامج فضائيات ومقالات صحافية بطانتها سموم تدمر مراكز المناعة الإدراكية في العقلية العربية، وفي مقابل ذلك تكثير أصوات آتية من وراء البحار، من مراكز أبحاث، حقيقية أو وهمية، وأخرى تنبت كما الفطر في هذه العاصمة العربية أو تلك، تستخدم لغة واحدة ومصطلحات واحدة. ولم تكن هذه الأصوات  تقع على أشكالها كما قد يتوهم بعض الناس، بل كانت تقع على علف تنثره مؤسسات غربية تنتحل تسميات من قبيل ” التنمية” و “التعاون” و “نشر الديمقراطية” و”ثقافة التسامح”.. وما إلى ذلك. وتحت كل هذه التسميات المنتحلة كان الخطاب واحداً؛ تسويغ السياسات الأمريكية وترويج قصصها، وتبرير كل جرائمها، وتسفيه كل تحليل تنويري بحقيقة أهدافها الاستعمارية.

كان الأمر أمر صراع فكري يدور، ولكن في العتمة، بعيداً عن الأنظار، تطبيقا لقانون ثابت في مجال هذا النوع من الصراعات؛ الخفاءُ ضمان النجاح. فكان الكاتب والإعلامي من أصحاب الأصوات الحية يلمس ضربات أشباح توجه إليه، تشوه سيرته أو تحجب صوته أو تطرده من عمله، ولا يعرف من أين تأتي الضربات أو من يقف وراءها. وأكثر الأمور بعثا للحيرة هو أنه كان يرى بأم عينه كيف تطرد العملةُ الرديئة العملة الجيدة، ثم لا يجد من يصغي إليه، لا بين أصحاب المؤسسات الإعلامية، ولا بين أصدقائه حتى. وكثيراً ما كان يتهم بأنه ضحية عقلية المؤامرة!

*

هذه الحركة الموجهة لم تكن آتية من فراغ، أو قائمة على فراغ، بل جاءت في سياق مشروع قديم بدأ في التسعينات مع تفكك الاتحاد السوفييتي وبروز مشروع القرن الحادي والعشرين الأمريكي علناً. وكانت أول علاماتها في دول الاتحاد السوفييتي السابق، حين ظهرت دعوات”الحرية” و”الديمقراطية” و”التعددية”، وقد انتحلت مفاهيمها حركات اتخذت شتى الألوان شعارات لها، فكان لها لون “برتقال” هنا ولون “بنفسج” أو “زعفران” هناك، ولكن ألوان بطانة كل هذه الألوان كانت واحدة؛ هي ذاتها ألوان العلم الأمريكي، ومفاهيمها المنتحلة تجتمع وترمي نحو هدف واحد؛ تمدد جغرافية الهيمنة السياسية الأمريكية على أكبر مساحة من العالم.

على صعيد الوطن العربي الذي تمركزت فيه منذ العام 1967 وبدأت تتوسع آليات السيطرة الأمريكية بالتوازي مع التمدد الصهيوني، كان الصراع الفكري يأخذ بعداً خطيراً، أخطر ما فيه خلق ذهان الاستحالة في الذهنية العربية. فبعد تقويض حركة المقاومة الفلسطينية من داخلها عن طريق ترسيخ أقدام قيادات لها تأخذها من متاهة إلى أخرى، وبعد احتلال مصر من الداخل وتوقيع قيادتها اتفاقيات استسلام غير مشروط سميت “اتفاقيات كامب ديفيد”، بدأ ذهان الاستحالة يتجسد في الذهنية العربية، ويصبح ملموساً، استحالة المقاومة والتحرر والتنمية والوحدة، بل وحتى خلق منظومة حد أدنى من تضامن عربي ضد التوسع الصهيوني. واستكملت عملية خلق ذهان الاستحالة بتسلل قيادة الفلسطينيين بعد رحلة متاهات متطاولة إلى “اوسلو”، أي إلى اتفاقيات نزع شرعية ومبررات المقاومة ببصمة ذئب أمعط لا يعرف إلا الشيطان وحده من أين جاء وامتطى حصان حركة المقاومة الفلسطينية.

لم يعد الإنسان العربي، تحت وطأة هذا الذهان، قادرا على التمييز بين ما هو وهمي وما هو حقيقي. وتشرح هذا تجربة الأرنب والجزرة التي قام بها بعض علماء الحروب النفسية. يؤخذ الأرنب إلى صندوق زجاجي مغلق يحتوي على ممرات جدرانها من زجاج ينفذ أحدها إلى الآخر، وتوضع أمام نظره، ولكن خارج الصندوق جزرة واضحة بينة، فيبدأ الأرنب سعيه للوصول إلى الجزرة، ويواصل سعيه راكضا من ممر إلى آخر من دون أن يستطيع الوصول إلى الجزرة التي يراها رؤيا العين، ومع ذلك لا يستطيع الوصول إليها. كانت الجدران الزجاجية تصده دائماً، فينتقل إلى ممر آخر فآخر إلى ما لانهاية. وبعد إعادة التجربة مرة بعد أخرى، يرسخ في ذهن الأرنب المجهد انطباع يتحول إلى شبه غريزة؛ إن هذه جزرة لا يمكن الوصول إليها، بل والأكثر من ذلك؛ إنها جزرة وهمية.

وللتأكد من هذه النتيجة، يؤخذ الأرنب خارج الصندوق الزجاجي وتوضع أمامه الجزرة نفسها، الجزرة الحقيقة، فيلحظ عليه إنه يواصل الدوران ويقفز عنها، باحثا هنا وهناك عن الجزرة إلى ما لانهاية أيضاً. لم يعد هذا الكائن المجهد، الذي ذاق مرارة الإخفاق مرة بعد مرة في الوصول إلى هدفه، قادرا على التمييز بين الحقيقة والوهم.

الإنسان العربي تم تمريره بتجارب عديدة مماثلة لتجربة الأرنب مع الجزرة المستحيلة على مدار أكثر من نصف قرن، فأول وحدة عربية بين بلدين من بلدانه تحطمت، وثوراته وتضحياته لم تحقق أي نتيجة ملموسة، ولم تحقق أي مواجهة مع عدوه الصهيوني أي نتيجة غير الفشل، وكان كلما اقترب من الجزرة الموعودة وهو يراها عياناً، تتحول إلى وهم وسراب خادع. لقد تخلق ذهان الاستحالة وتعمق طيلة عقود وعقود، إلى درجة إن هذا الإنسان حين وضعت أمامه جزرة حقيقة، أي أول انتصار في تاريخه الحديث على عدوه الصهيوني/الأمريكي في جنوبي لبنان (2006) لم يصدق عينيه وبقية حواسه، وكان من السهل تشويه هذا الانتصار، بل ومحوه من الذهن كأنه لم يكن بلغو أجهزة إعلام تثير في ذهنه غريزة ذهان الاستحالة. ولعب ويلعب ذهان الاستحالة دوره الآن في طمس أي وعي عربي بانحسار التمدد الأمريكي، وظهور ملامح نظام دولي جديد لم تعد للأمريكي وحاملة طائراته المسماة “إسرائيل” اليد العليا فيه.

                                            *

في تلازم مع ذهان الاستحالة، أو بالتجاور معه، بدأ مع مطلع العام 2011 خلق غريزة جديدة على يد فضائيات و “مفكرين” و “معلقين” و “شيوخ دين” تم إعدادهم بعناية وحذق طيلة العقدين الماضيين. ففي سياق الانحدار الأمريكي ( رتشارد هاس، فورين أفيرز، يناير 2006، وزبغنيو برزنسكي،فورن بولسي، يناير/فبراير 2012) بعد فورة اندفاع تم فيها احتلال عدد من البلدان وتفكيك أخرى (1990/2003)، وحبس الوحش الصهيوني وراء جدرانه، وفشل تشكيل جغرافية المنطقة سياسيا لصالح التحالف الغربي، وفي ضوء تعاظم قوة تحالف المقاومة واستناده إلى شرق صاعد ليحتل مكانه على صعيد تقرير مصائر العالم، أدخل المستعمرون القدماء لعبة “الثورات” في البلدان العربية. لم يكن التفكير في هذه “الثورات” وارداً في زمن الفورة الأمريكية، ولكنها أصبحت على الطاولة، حين تبين لهؤلاء إن نهاية العصر الأمريكي، وهو أمر اصبح حتمياً، سيعني صعود الشرق القادم والمتكتل مع قوى المقاومة في الإقليم، ولم تعد مسألة سقوط قلاع التبعية النخرة إلا مسألة وقت، وخاصة بعد تحطيم أنياب الوحش الصهيوني، وتعاظم السخط الجماهيري، واحتمال قيام ثورات حقيقية مقاومة أيضاً. ومن هنا جاءت التضحية بعدد من أحجار الشطرنج، جنود وفيلة مسنة وخيول عجفاء، في سبيل مراوغة الخصم (قوى المقاومة) والوصول إلى قلاعه. كانت فكرة “ثوراتٍ” تُمنح اسم “الربيع العربي”، بينما التسمية التي تليق بها هي “ثورات ربيع الذئاب الغربية”، ضربات استباقية، فتمت إزاحة الأحجار، مبارك وبن علي والقذافي وعلي صالح، وإحلال بديل أكثر فعالية في إجهاض أي تحرك جماهيري تحرري ووطني ذي طابع قومي، في “نقلة استراتيجية” على حد تعبير الصحافي الأمريكي “سيمور هيرش”، صنعت فيها الولايات المتحدة تحالفا بين حاملة طائراتها “إسرائيل” وجماعات المتاجرة بالدين الإسلامي دولا ومنظمات إخوانية (إعادة التوجيه، سيمور هيرش، نيويوركر، 5مارس، 2007).

وفي عصر السطوة الإعلامية كان لابد من إطلاق أسلحة الفضائيات المجهزة منذ زمن؛ المجهزة بنوع من المصداقية أخذتها من انتحال صفة فضائيات المقاومة، وببلايين الدولارات، وبتقانات عالية وماهرة تضاهي تقانات هوليوود السينمائية. وهناك القليل ممن يدركون كيف استخدمت هذه الفضائيات، وخاصة المسماة “الجزيرة” و “العربية”، نتائج تجارب العالم “بافلوف” على كلابه، واحتذت نهجه حرفياً. وحين نسمي هذه الفضائيات بالعربية، لا نعني إنها “عربية” فعلا، فالعاملون فيها من آكلي الكسكسي والفول والمسخن والبرياني.. أجهل من أن يعرفوا من هو “بافلوف” وما هي تجاربه. إن واضعي مثل هكذا آليات هم رجال مخابرات واختصاصيون في إدارة الحروب الإعلامية يقبعون وراء الكواليس، استقدموا من مراكز مخابرات غربية. وما يراه المشاهدون من وجوه على الشاشات ليست سوى وجوه قصب أجوف او ببغاوات تنطق بما تتلقاه عبر مايكروفونات معلقة في آذانها.

فما هي قصة كلاب “بافلوف”؟ يمكن تلخيص تجاربه بالقول إنه استطاع صناعة ما يسميه “المنعكس الشرطي” لدى هذه الكائنات، وإمكانية تعميم نتائجه واستخدامها. يأتي بالكلب تحت التجربة ويعطيه طعاماً، ويرافق إعطاء الطعام قرع جرس وإضاءة نور أحمر، وبتكرار عملية إعطاء الطعام مع شرط قرع الجرس وإضاءة النور، يتشكل في ذهن الكلب تلازم بين إطعامه وصوت الجرس ولون الضوء، فيسيل لعابه وتبدأ معدته بإفراز العصارة الهاضمة ما أن يسمع الصوت ويرى الضوء. وهذا هو ما صار يحدث؛ فما أن يقرع الجرس ويضاء النور حتى تجده يتصرف عضوياً كما لو إن الطعام حضر وأصبح في متناوله رغم ان لا طعام هناك.

أطلق “بافلوف” على محفزات هذه الاستجابة اسم ” النظام الإشاري الأول”، أي نظام الاستثارة الحسية. وطور تجاربه في ما بعد ليصل إلى الإنسان، وهنا وجد إن لدى المخلوقات العليا، مثل الإنسان، استجابة حسية للصوت والصورة، ولكن لديها أيضا استجابة لشيء أرفع مستوى؛ الاستجابة “للكلمة” المنطوقة، فما ان تنطق كلمة ويسمعها الإنسان حتى تثير فيه استجابة معينة. وأطلق على هذا المحفز اسم “النظام الإشاري الثاني” الخاص بالكائن العاقل، وهذه تسمية مجازية، لأن  من يستجيب لحواسه بلا تفكير، سواء أثارتها صورة أو كلمة، لا يمكن أن يكون عاقلا.

في تجربة تغطية “أخبار” ما سميت بالثورات العربية، تونس ومصر وليبيا واليمن، تم خلق أكثر من منعكس شرطي باستخدام شاشات الفضائيات، المشار إليها بخاصة لأنها كانت مختبر التجارب الأساس. تم خلق منعكس حسي قائم على الصورة والصوت (النظام الإشاري الأول)، صور جماهير غفيرة في الشوارع، وأعلام ولافتات وهتافات.. وما إلى ذلك، يرافقها تهاوي أنظمة. وبتكرار هذه الصور طيلة أشهر والتركيز على التلازم بين هذه الصور وسقوط النظم، تخلق في الأذهان والأعضاء الحسية للمشاهدين التلازم بين هذه الصور والأصوات وسقوط النظام، ولا معنى آخر يمكن التفكير به. بالطبع امتد الاختلاق إلى النظام الإشاري الثاني الخاص بالإنسان حصراً، فكان مشاهدو الفضائيات يسمعون دائما في هذا الخضم من سيل المشاهد الحسية وبشكل مكرور مصطلحات مثل “ربيع عربي” و ” حرية” و “كرامة” ” و”جهاد” و “ثورة” و “ثوار”.. إلخ. وهي كلمات أريد لها ان تتلازم مع الصور الحسية وتثير استجابات مطلوبة في أي وقت جاءت وفي أي ظرف.

باستغلال هذين النظامين؛ الأول والثاني، ووسائلهما الصورة والصوت والكلمة، أمكن للفضائيات ترسيخ آلية منعكس شرطي يشبه ذلك الذي تخلق في ذهن كلاب بافلوف، و يتخلق في ذهن أي إنسان يتعرض لهذه التجارب بإضافة الكلمة. ويلاحظ إن تساوق هذين النظامين كان يضاعف من فعالية المنعكس المراد خلقه. واختيار الكلمات المشار إليها لم يأت اعتباطاً، بل جاءت لاستغلال ذاكرة نصف قرن تقريباً من ذُهان الاستحالة، وقرون من تداول كلمات مثقلة بظلال عزيزة على الإنسان العربي. هذه الكلمات التي حولتها سنوات دوران الأرنب في متاهته الزجاجية وإخفاقه إلى دلالات خاوية، أي إلى مجرد ألفاظ تحمل معنى ولكنها بلا مدلول واقعي، سيكون لها الآن فعل السحر ما أن تسمع مترافقة مع صور سقوط نظام أصبح رمزا لكل ما هو ضد الربيع والحرية والكرامة والجهاد كما قيل مرارا وتكراراً. إذاً، هاهي الكلمات الوهمية تصبح وقائع ملموسة، وها هو المستحيل يتلاشى ويصبح بالإمكان استثارة الإحساس بأن نظاماً قد سقط بمجرد إعادة بث الصور والأصوات والكلمات المماثلة في أي مكان وتحت سمع وبصر أي جمهور عربي.

                                         *

 في الوطن السوري اليوم، هدف كل هذه التجارب الفضائية، بدأ عرض أمثال هذه الصور الملفقة في غالبيتها، وبث الأصوات ذاتها، واستخدام الكلمات نفسها، من على شاشات مئات الفضائيات الموجهة إلى العربي في سوريا وفي غيرها، لتحفيز استجابة مطلوبة رسختها في الذهن آليات البث بعد أشهر من الإدمان على رؤية ما يحدث في مدن عربية مثل تونس ومصر وبنغازي وصنعاء. ولهذا لم يكن غريبا أن تتحرك غرائز المنعكس الشرطي، فما أن يرى الإنسان على شاشات الفضائيات علم الاحتلال الفرنسي هنا، وكان رأى مثيله في ليبيا ، ويرى السيارات رباعية الدفع وعليها الرشاشات الثقيلة، وكان رأى مثلها في ليبيا أيضاً، ويرى ذات الوجوه بأقنعتها السوداء، ويسمع الهتافات والشعارات نفسها تقريبا، ويرى الحشود التي تضاعفها أجهزة الفوتو شوب، حتى يستثار فيه ما يشبه يقينه بحضور الطعام رغم إنه ليس حاضراً (تهاوي نظام) ويقينه بزوال المحال تحت وقع كلمات لا مدلول لها على الأرض السورية مثل “الثورة” و “الثوار” و “المجاهدين”، أي أنه سيصدق، تحت تأثير هذا الضخ الإعلامي بأجراسه وأضوائه الحمراء، قول قائل آفاق “لم يبق من عمر النظام السوري سوى أيام معدودة”، وسيصدق إن الدولة سقطت وانتهت، والفرصة سانحة للفوز بغنيمة هنا أو هناك. أليس ما يراه على الشاشات وعلى ألسنة مذيعي نشرات وكتاب دجالين إنه لم تعد تقف أمام مرتزقة بلاك ووتر وبقية مجندي الإستخبارات أية قوة؟ فلماذا لا يبادر إلى أخذ نصيبه من البطولات وجوائزها؟

قد يتصور القارئ إن هذه المحفزات الشرطية، التي صنعتها الفضائيات وخبرائها في المختبر الليبي والتونسي والمصري واليمني، تؤثر في البسطاء من الناس فقط، اولئك الأقرب إلى الوقوع ضحية لأجراس وأضواء “بافلوف” ما أن تقرع وتضاء كما نتخيل، ولكن الحقيقة أكثر مرارة من ذلك؛ لأن بعض ممن نطلق عليهم تسمية المثقفين أو النخبة  أو رجال الدين هم أكثر الناس تعرضا لهذه التجارب والأكثر استجابة للمحفز الشرطي حتى باستخدام النظام الإشاري الأول معهم، ومن دون حاجة لاستخدام النظام الإشاري الثاني، أعني باستخدام صوت حفيف الأوراق المالية، وهذا هو الجرس الذي يستخدمه ولاة أمر الفضائيات ودافعي المليارات. لأن الضوء الذي اكتفت به كلاب “بافلوف” لا يكفي لاستثارة الاستجابة المطلوبة، إنه مجرد وعد قد لا يتحقق، ولا بد من الدفع عداً ونقداً وسماع حفيف الأوراق ولمسها. وهنا نلاحظ أن أصوات هؤلاء المستثارين ( مثقفون ورجال دين)، بغرائزهم الحسية، يكادون يشكلون نظام إشارة ثالثا يضاف إلى النظامين البافلوفيين. وتمنحهم مكانتهم التقليدية (هذا دكتور جامعي وذاك أزهري..إلخ) سطوة على أذهان الناس البسطاء تستثير فيهم شبه غريزة الولاء لهم وتصديق ما يقولون ما أن تظهر صورهم وتشقشق ألسنتهم، حتى لو كان ما يقولونه في الموضوع السوري هراءً ما بعده هراء.