تحية لتدخل سوريا في فلسطين

عادل سمارة

قرأت مقالاً “مرفقا ادناه  بعنوان “فلسطينيو سورية والثورة السورية” ل “كاتب” اسمه ماجد كيالي.

والمقال على درجة عالية من الخبث المقصود ولكن الفاشل في تغطية نفسه. مركز هذا المقال، رغم اللف والدوران هو أن لا تتحدث سوريا عن فلسطين وان لا تقول أن المعيار هو القضية الفلسطينية. وأعتقد ان ما اثار هذا “الكاتب” هو أن الحديث عن فلسطين يكشف عورات المطبعين وأهل اوسلو، لذا يريدون وأد القضية بزعم رفض “تدخل” سوريا فيها. هذا ما يريده ولكن هذا ما لا يريد النطق به!!

هذا يذكرني بما كتبه المرحوم فلاديمير إيليتش لينين ذات يوم عن الخبثاء والمراوغين والمواربين بان الواحد منهم يدور حول الحقيقة كما يدور القط حول صحن من المرق الساخن. هذا الكاتب يريد تكرار عبارة عرفات عن القرار الوطني المستقل وهو مستقل عن العروبة وهو القرار الذي أوردنا المهالك فإذا به لا مستقل ولا يحزنون. لذا لا يجرؤ هذا على تمثُّل ذلك الشعار بعد نتائجه. كما انه يكرر أمراً اشد بؤساً وهو تراث ياسر عبد ربه الذي اعترض على تركيز الرئيس الشهيد الحقيقي صدام حسين  على فلسطين وخاصة حين ربط إنسحاب الجيش العراقي من الكويت بانسحاب جيش الكيان الصهيوني من فلسطين المحتلة وحينما كان يرسل الرئيس الشهيد صدام حسين مساعدات لأهالي الشهداء الفلسطينيين. لأن امثال هذا يريدون لنساء الشهداء أن يقفن على قارعة الاستجداء من مال ريع التسوية. أما الهدف المباشر لهذا فهو بقصد القول لسوريا اليوم: لا تتحدثوا عن فلسطين. وكذلك لحزب الله. فهذا في ضيق حقيقي لأن مختلف العروبيين بمن فيهم السوريين يؤكدون أن العدوان على سوريا هو لخدمة الكيان. وبما ان هذا عدو لسوريا ومتماهي مع أوسلو فهو في مازق يعبر عنه بخبث. طبعاً ياسر عبد ربه حمله إدوارد سعيد إلى البيت الأبيض الأمر الذي قاد م ت ف إلى المطهر الأميركي فاصبح تدخل امريكا في الشأن الفلسطيني شرعياً. لكن هذا الكاتب لا يعترض على التدخل بل الإمتطاء الأميركي للشأن الفلسطيني، فهو لا يخشى سوى تدخل البعث في هذا الشأن المشاع!

ويبدو ان الكاتب يحاول توسيع مجال تحركه من مثقفي اوسلو إلى مثقفي قطر النفط والغاز. كيف لا وهناك المال الذي لا يُحصى. ويبدو ان هذا الرجل يكتب بحساب مثل سائر مثقفي الحكم الذاتي القابعين في الخارج.

فالنظام السوري يقر بان ما بدأ في سوريا كان حراكا شرعياً. وبعض المشاركين حتى الآن يرفضون التفاوض مع النظام ولكنهم يرفضون الناتو وبعضهم دخل الانتخابات وشارك في الوزراة مثل د. قدري جميل (شيوعي لا يعترف بالكيان) ود. علي حيدر (قومي سوري). ولكن هذا الحراك كان له وجه آخر وبشكل مباشر هو قوى الدين السياسي (الذين يعيشون اليوم فترة شهر عسل مع الإمبريالية والصهيونية) والشيوعيين الكلاسيكيين الذين يتفاخرون بأنهم اول من اعترف بالكيان وما زالوا. هذا ناهيك عن القاعدة وانواع عديدة من العصابات والمذهبيين والطائفيين. كما اتضح ان ما يدور في سوريا هو اسرائيلي امريكي تركي  قطري سعودي إماراتي اوروبي غربي ومع ذلك ما زال ماجد كيالي يسميها ثورة شعبية!

كيالي مثل كثير من الكتاب العرب الذين يقرؤون ما تقوله الفضائيات، لا يقرؤون ما يكتب كتاب ليسوا عرباً ولكنهم يذكرون حقائق  يبدو انه لا يمكن تعريبها! من لا يقرا الحقائق عليه ان يقول لنا لماذا وما الثمن!!!

لا بأس قل عن سوريا ما شئت. ولكن بمنطقك الذي يأخذ على سوريا التدخل في ما اسميته الشأن الفلسطيني فلماذا تتدخل في الشان السوري طالما انك قُطري وإقليمي وحتى اضيق، اقصد أوسلوي!

في معرض حديثه عن “أن سورية دأبت، منذ أواخر الستينات، وعبر طرق عدة، ومتوازية، على استيعاب الكيانات الفلسطينية، وتحديد قدراتها، والسيطرة على مساراتها أو توجهاتها السياسية.” ثم يتابع “والأنكى أن سورية في سبيل ذلك قامت بإنشاء فصيل فلسطيني خاص بها، هو طلائع حرب التحرير الشعبية ـ قوات الصاعقة، وقامت بدعم فصيل أو أكثر (لا سيما الجبهة الشعبية – القيادة العامة).” وهي سورا كانت وحدها من بين الأنظمة العربية التي ” قامت بإنشاء فصيل فلسطيني خاص بها”؟

كيالي يقول ان سوريا تتدخل في الشان الفلسطيني. إعطني بلداً في العالم لا يتدخل في الشأن الفلسطيني؟

هل الأمر محرم على سوريا؟ طبعاً لو اعترفت سوريا بالكيان لما قذفتها انت بهذه التهمة؟

ثم من عينك ممثلا للشأن الفلسطيني؟

ألا تتواضع وتقول أنك تمثل نفسك او انك مخول من فريق أوسلو وهو فريق لا يمثل كل الفلسطينيين؟

ثم هل لك ان تقول كم شأناً فلسطينياً موجود اليوم؟ هل فريق اوسلو يمثل الشأن الفلسطيني؟

هل المعترفون بالكيان يمثلون هذا الشأن؟

أليس الشأن الحقيقي هو حق العودة؟ هل باعته سوريا؟

هل تجرؤ على القول أنك تقصد بتدخل سوريا بانك تريدها ان تعترف بالكيان وبدولة اوسلو-ستان، وحينها ترسل لسوريا قصيدة غرام؟

أين التدخل السوري في الشأن الفلسطيني؟ أليست هذه فزاعة فريق اوسلو للتغطية على توقيع هذا الاتفاق؟ ماذا فعلت بكم سوريا بعد كارثة أوسلو ؟

هل كان عليها القبول كي لا تتدخل في الشأن الفلسطيني؟

كتب أحد كتاب (ما ـــ بعد البحار) اسعد ابو خليل ان سوريا وافقت على المبادرة العربية. وهكذا ببساطة “غرش” الأخ عن أن سوريا هي التي اصرت على تضمين المبادرة حق العودة. ومع ذلك انا ضد موافقة سوريا عليها لأنها جاملت التواطؤ الرسمي العربي. قد يقال كنظام هو مضطر، هذا شأن آخر.

هل قالت سوريا ذات يوم انها تمثل الشعب الفلسطيني حتى نقول تدخلت. أنا ادين سوريا لأنها لم تقل انها تمثل الشعب الفلسطيني والأردني واللبناني وانا مع انتصار سوريا اليوم من اجل هذا واوسع. كل عربي له حق التدخل في كل شان عربي. لذا، حينما استعاد صدام الكويت كنت انا سعيداً ونقدت سوريا على موقفها.

كيالي لا يرى غضاضة في تدخل  امريكا وكل الغرب وقطر والسعودية والإمارات في الشأن الفلسطيني، بل هو مع تدخل الكيان الصهيوني الإشكنازي بما هو مع اتفاق أوسلو، كل هذا مقبول سوى سوريا! تماماً مثل سائر مثقفي اوسلو ووادي عربة وكامب ديفيد.

والغريب انه يكتب هذا بعد خطاب نصر الله الذي كشف ان صمود غزة كان بالتسليح السوري وصورايخ حزب الله صناعة سورية فهل هذا تدخل ام هو واجب؟ لكن يبدو ان كيالي كان ككثيرين من الفلسطينيين يتمنى سقوط غزة نكاية في حماس. ولا شك انه سوف يكتب ذات يوم بأن إرسال سوريا اسلحة لغزة هو تدخل مرفوض في الشأن الفلسطيني. حبذا لو يفهم كيالي أن الكيان هاجم غزة من أجل ترحيل الناس إلى سيناء وليأخذ الغاز. وكان مبارك جاهزا لهذا، وأخشى أن يكمل مرسي المهمة.

والسؤال اليوم إلى حماس. لا مجال للمناورة. فإما ان تعتذر حماس على خروجها من سوريا وإما انها ذاهبة إلى الدوحة، وحينها سيُرمى السلاح السوري في البحر! كان نصر الله صريحا كعادته حين أكد أن سوريا سلحت غزة.

يرفض كيالي التدخل السوري في فلسطين لأنه يريد تدخلا على طريقة السادات ومبارك أي ان تقبل سوريا بالجولان شكليا تحت سيطرتها وجوهريا مثل سيناء بيد الكيان. وهذا ما يُسعد السيد كيالي وفريق أوسلو الذي كان مبارك والسادات راعيي طريقها السياسي. لا يريد كيالي أن يسمع بان الشهيد حسن تركماني وهو ليس سوري فقط بل بعثي  والذي استشهد في تفجير المركز القومي هو القائد السوري عام 1973 الذي وصل طبريا ولولا خيانة السادات لتحرر الجولان مع ان الجيش السوري حرر جزءا من ارضه القنيطرة  رغم انه بعد خيانة مصر السادات بقي تحت ضربات اسرائيل وامريكا وحيداً. في تلك الفترة ترجم الصديق مصطفى ابو مبدا وكان يعمل في جمعية الدراسات العربية ترجم مقابلات مع ضباط صهاينة قالوا”…في جبهة الجولان  لم نشهد ولم نقرا عن شراسة مثيلة لاندفاع موجات المدرعات والدبابات السورية التي كلما كسرت موجة اردفوها باخرى” . نأسف ايها الفلسطيني فأنت مثل كثيرين من الفلسطينيين الذين بفقدان الوطن فقدوا كثيرا من الأخلاق. نعاتبك ايها الشهيد تركماني لأنك تدخلت في الشان الفلسطيني فلولا تدخلك لما فقدت حياتك ومت على فراشك كما يموت مبارك!! هل تندفع اليوم دبابات قطر والسعودية لتحرر رام الله التي تغرق في غائط التطبيع رغم مظاهرها الحداثية وسياراتها الفارهة وبيوت الدعارة التي زادت عن الأربعين وهذا حسب تقرير اليونيفيم،  وإن كنت لا تفهم الإنجليزية ككثير ممن يكتبون ضد سوريا فاليونيفيم هي فرع الأمم التحدة لشؤون المرأة في تقريرها لعام 2008 الله يعلم كم غدت اليوم!

هل سمع كيالي ان سوريا دخلت حرب  1967  من اجل تحرير فلسطين وخسرت الجولان وهي تحاول تحرير فلسطين؟ ألم يكن بوسع سوريا الوقوف موقف مصر مبارك والسادات وموقف السعودية المتآمر اقصد السعودية التي تقيم علاقات اقتصادية مع الكيان وتغزو سوريا اليوم كما غزت ليبيا.

دعنا نتحدث بصراحة، لماذا هرب “الشأن” الفلسطيني إلى تونس؟ لماذا جزع ان يلقى مصير ابطال كوميونة باريس؟ ألم يكن طريقاً التفافيا للتورط في اوسلو؟ وهل تعلم أن دولتي اوسلو اليوم غزة تعيش من قطر والضفة من السعودية؟ وما ثمن ذلك؟ إنهاء حق العودة؟

يهاجم كيالي أحمد جبريل لنه لم يهرب إلى تونس بل بقي في لبنان وشعب لبنان بقي في لبنان وبدعم سوريا هزموا الكيان مرتين عام 2000 و 2006. لكن السيد كيالي لا يعترف بان الكيان قد انهزم. هل لا يهون عليك ذلك ككثير من الفلسطينيين؟ هنا شكرا للتدخل السوري.

نعم منظمة الصاعقة والقيادة العامة ليست وازنة  كما تزعم لأنهما ليستا مع التسوية فالوزن اليوم للحياة مفاوضات والعيش على ريع الاعتراف بالكيان، فمن اين لمن لا يعترف وزناً!. ليست الصاعقة والقيادة العامة وازنتين لأنهما لا تلعبان  سياسة. ولكن من الذي حرر معظم الأسرى؟ اليست منظمة القيادة العامة؟ هل سمعت عن عملية الطائرة الشراعية قبل الانتفاضة الأولى بايام هل عملها مثفو اوسلو والتطبيع؟ لا لا ربما قامت بها هيلاري كلينتون التي تحبون.

لو أنك كتبت مقالتك قبل خطاب سيد المقاومة الأخير لقلنا الرجل قتله النسيان. ألم تسمعه ماذا قال عن تسليح حماس في غزة بأنه من سوريا؟ ولكن آسف فأنت لا شك كنت تتمنى انهيار غزة 2008-9 مثل كثيرين هنا قالوها لي وجها لوجه. هل جرؤ أحد من حماس ان ينفي قول السيد؟ ولكن هل سيفعلوها الإخوان طالما مشعل بين قطر والمرزوقي ومرسي! سيكون صعباً لأن الناس ترى!

حتى اليوم يقول كيالي ثورة شعبية في سوريا رغم الإرهاب الذي تعترف بحصوله كل الدنيا.

ليس الأمر فقط ان نحفظ سوريا بل ان نذكر خيرها وشرها.

ويختم بالقول:

“وربما أن أهم استنتاج فلسطيني من الثورة السورية مفاده أن قضية الحرية لا تتجزأ، وأن الحرية هي القضية المركزية للمواطنين العرب، وأن الأوطان الحرة تكون كذلك حقَاً بمواطنيها الأحرار؛ فلقد انتهى عهد التلاعب بالقضية الفلسطينية، وتوظيفها في استخدامات سلطوية”.

وهكذا يبدا كيالي ب “الثورة السورية” وينهي بها. هذا ليس استنتاج كل فلسطيني بل استنتاج كيالي فالذي لا يتجزأ قبل الحرية هو الوطن، هل حصلنا على الحرية من تجزئة أوسلو-ستان؟ ثم تجزئة (أ) و(ب) و (ج ) وقد نصل نهاية الأبجدية طالما المثقفون مثل كيالي. وهل حصلت الأمة العربية على الحرية من تجزئة سايكس-بيكو؟ بدون وطن حر لا حرية. ولا حرية مع ثوار الناتو كذلك. ثم من الذي يتلاعب بالقضية ؟ سوريا؟ ربما ولكن ماذا عن تلاعب فلسطينيين بالقضية؟ ماذا عن تلاعب خليج النفط بالقضية؟ أما والقضية ملعب فسيلعب بها حتى بُغاث اللاعبين.

* * *

فلسطينيو سورية والثورة السورية

 ماجد كيالي

بعد قيام إسرائيل (١٩٤٨)، بوسائل القوّة، واستيلائها على ٧٧ بالمئة من أرض فلسطين، تمّ تهجير حوالي ٨٥٠ ألفاً من الفلسطينيين من أراضيهم وممتلكاتهم، وتشريدهم في البلدان المجاورة (إضافة إلى الضفة والقطاع)، وقد وفد إلى سورية منهم، حوالي ٩٠ ألفاً، مانسبته ٢ بالمئة من مجموع السوريين.

وقد تعاملت السلطات السورية مع هؤلاء اللاجئين، منذ البداية، بمساواتهم في الحقوق مع السوريين (ماعدا السياسية منها). وهكذا لم يمنحوا المواطنة، كما في الأردن، ولم يجر التمييز ضدّهم، كما حصل لأقرانهم في لبنان.

وفي العموم فقد عاش الفلسطينيون اللاجئون في سورية في وسط اجتماعي طبيعي، ومستقر، دون أي شعور بضيم أو بتمييز، بل إن المجتمع السوري استطاع استيعابهم، من كل النواحي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لاسيما أن العمل في مراتب الدولة كان متاحاً لهم، فضلاً عن تمتعهم بحقّ العمل والتملك والتنقّل والسكن والتعلم، وحتى أن النشاط السياسي كان متاحاً لهم في الكيانات السياسية الوطنية والقومية والأممية التي نشطت في سورية، منذ قدومهم إليها.

هذا يفسّر تعذّر نشوء «مسألة فلسطينية» في سورية، كما في بلدان أخرى، فالفلسطينيون فيها ليسوا مواطنين، ولا ينازعون على حقوق المواطنة، كما في الأردن، وهم يعيشون في بيئة مجتمعية متجانسة معهم، بدون أي توجّس، لا لأسباب طائفية/دينية، ولا لأسباب أمنية، كما في لبنان. وقد أسهم في ذلك واقع أن فلسطينيي سورية لم يشكّلوا كتلة سكانية وازنة (كما في الأردن ولبنان)، وأن النظام السوري امتلك على الدوام فائضاً من وسائل القوّة والسيطرة والتحكّم، ما جعل الفلسطينيين، وكياناتهم السياسية، أكثر حذراً، وتكيّفاً، مع سقف «الحريّات» المتاح، على خلاف الحال في الأردن ولبنان. ولا شكّ أن خلو سورية من الصراعات الطائفية/المذهبية، لعب دوره في هذا الشأن، إذ لم يعن تواجد كتلة من الفلسطينيين في سورية شيئاً في المعادلات السكانية أو السياسية في هذا البلد.

لكن حال الفلسطينيين مع نشوء حركتهم الوطنية، ومع صعود المقاومة المسلحة، تغيّر كثيراً، إذ بات لهم كياناتهم السياسية، ودورهم في التفاعلات الإقليمية، كما بات لهم كيانهم المعنوي المعبّر عنهم، وهو منظمة التحرير، التي باتت بمثابة ممثلهم الشرعي والوحيد.

وبالمحصلّة فإن هذا التطوّر لعب دورا كبيراً في تعزيز إدراكات الفلسطينيين لمعنى كونهم شعباً واحداً، وأسهم في صوغ هويتهم الوطنية الجمعية، وإعلاء شعورهم الوطني المشترك. ومن جانب أخر، فإن هذا التطور لعب دورا مختلفاً، إزاء السلطة القائمة (حيث كانت)، وضمنه في سورية، إذ باتت جزءا من الطاقة الوطنية يعبّر عن نفسه في مواجهة السياسات السلطوية للنظام السوري، لاسيما مع وجود سياسة تدخّليّة وهيمنيّة سورية في الشأن الفلسطيني.

ولعله من المثير هنا ملاحظة التزامن بين ظهور الحركة الوطنية الفلسطينية، وبين التغير السياسي الحاصل في سورية مع استلام حزب البعث للسلطة (١٩٦٣)، كما من المثير ملاحظة التزامن بين صعود حافظ الأسد (الرئيس السابق لسورية) إلى سدّة الحكم (١٩٧٠)، مع خروج المقاومة الفلسطينية المسلحة من الأردن، وتمركزها في لبنان، حيث صارت بمثابة دولة داخل دولة.

هكذا تشكّلت، منذ مطلع السبعينيات، مفارقة مفادها أن بعض العوامل التي حالت دون نشوء «مسألة فلسطينية» في سورية، أدّت في المقابل إلى نشوء ما يمكن تسميته مجازاً بـ «المسألة السورية» في الحالة الفلسطينية، والتي تتمثّل بالتدخّل السوري «العميق» في الشأن الفلسطيني، على غرار التدخّل السوري «العميق» في الشأن اللبناني، حيث الطرف الأكبر والأقوى يهيمن على الطرف الأصغر والأضعف، محاولاً استيعابه بطريقة ناعمة أو خشنة، بالرضى أو بالإكراه.

ومعلوم أن سورية، وتحديداً منذ عهد رئيسها حافظ الأسد، حاولت أن تتبوأ مكانة إقليمية متميّزة، ما انعكس على وعيها لذاتها، وعلى سياساتها وأدوارها الإقليمية، كما على الكيانات المجاورة، في وقت كانت فيه القضية الفلسطينية بمثابة ورقة اللعب الرئيسة للّاعبين، من الفاعلين المحلّيين والإقليميين والدوليين، بحكم قيمتها السياسية بذاتها، وبحكم مداخلاتها مع ملفات وكيانات أخرى.

على ذلك، وبعد أن كانت الورقة الفلسطينية وضمنها المقاومة المسلحة، رابحة وضرورية، بالنسبة إلى النظام السوري، لحجب الأسئلة المتعلّقة بهزيمة حزيران (١٩٦٧)، ولاستخدامها في الصراع على النفوذ الإقليمي مع مصر الناصرية (وقتها)، بات الأمر مختلفاً في حقبة السبعينات، وبعد رحيل عبد الناصر، وانكفاء مصر على ذاتها (بعد حرب ١٩٧٣)، لجهة كيفية تكيفه معها، وتوظيفها.

معلوم أن سورية دأبت، منذ أواخر الستينات، وعبر طرق عدة، ومتوازية، على استيعاب الكيانات الفلسطينية، وتحديد قدراتها، والسيطرة على مساراتها أو توجهاتها السياسية. والأنكى أن سورية في سبيل ذلك قامت بإنشاء فصيل فلسطيني خاص بها، هو طلائع حرب التحرير الشعبية ـ قوات الصاعقة، وقامت بدعم فصيل أو أكثر (لا سيما الجبهة الشعبية – القيادة العامة). وعلى رغم أن قدرة الفصائل الفلسطينية («السورية») ظلّت محدودة، لضعف شعبيتها بين الفلسطينيين، وتدنّي دورها في مجال الصراع مع إسرائيل، إلا أنها لعبت أدواراً غير إيجابية في الحالة الفلسطينية، ما أثّر بدوره سلباً على إدراكات الفلسطينيين لسورية، وشكّل عامل قلقلة في العلاقات السياسية الثنائية الفلسطينية – السورية.

وفي كل الأحوال فإن هذه الاستطالات السورية في الحالة الفلسطينية لم تنجح، إذا ظلت الفصائل الممثلة لها معزولة، ولا تتمتع بأي ثقل وازن بين الفلسطينيين، بدليل أنها لم تستطع في غياب «فتح» وفصائل المنظمة (منذ ١٩٨٣)، توليد أية حالة نموذجية بديلة في مجتمع اللاجئين في سورية، ناهيك عن انعدام دورها في مجال الصراع مع إسرائيل.

بعد ذلك فقد شكّل ظهور حركة «حماس»، وصعودها اللافت في السياسة الفلسطينية، في العقد الماضي، نوعاً من التعويض للقيادة السورية، عن إخفاق الفصائل الدائرة في فلكها، إذ وجدت فيها ضالّتها لمناكفة القيادة الفلسطينية، على رغم احتساب «حماس» على منظومة «الإخوان المسلمين»!

الآن، ومع اندلاع الثورة الشعبية في سورية ( مطلع العام ٢٠١١) يبدو أن فلسطينيي سوريا باتوا في مواجهة وضع صعب، لاسيما مع اتخاذ الثورة طابعا مسلحاً، ومع استشراس النظام في عمليات القتل والتدمير لبعض المناطق المدينية، وضمنها مناطق مجاورة للمخيمات، كما حصل في اللاذقية ودرعا وحمص وحماه. وتنبثق هذه الصعوبة، أيضاً، من أن الفلسطينيين في هذه الظروف يعانون من الانقسام، ومن الافتقاد للإجماع السياسي، ومن تراجع مكانة اللاجئين في المعادلة السياسية الفلسطينية؛ زد على ذلك أن الكيانات الفلسطينية الموجودة في سورية محسوبة في غالبتها على النظام. وبديهي فإن كل تلك العوامل جعلت من الصعب على الفلسطينيين صوغ موقف سياسي، وأقله أخلاقي، يتضمن التعاطف مع الثورة السورية، ولو من دون أن يفترض ذلك حكماً المشاركة في أوجه نشاطاتها العملية.

فهذه القيادة الرسمية (وهي قيادة المنظمة والسلطة وفتح)، مثلاً، التي كانت اتّخذت موقفاً حذراً وبارداً من ثورات تونس ومصر واليمن وليبيا، تماهياً منها مع النظام الرسمي العربي، وبالنظر إلى التجارب المريرة السابقة، اتخذت الأمر ذاته بالنسبة إلى الثورة في سورية، على رغم العلاقة الفاترة بينها وبين النظام فيها، بسبب مناهضته لسياساتها، ودعمه معارضتها؛ وعلى رغم المزاج «الفتحاوي» المعروف بتبرّمه من النظام السوري.

أما فصائل «اليسار» فلم يكن موقفها أحسن حالاً، على رغم أنها تتحدّث بلغة مزدوجة، بمسايرتها النظام في اعتبار ما يجري مجرّد مؤامرة وتدخّلات خارجية حيناً، وبمسايرتها المطالب الشعبية المتعلّقة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية حيناً آخر؛ وعلى أي حال فإن هذه الفصائل لم تعد مؤثّرة في توجيه دفّة السياسات الفلسطينية، أو في مجال المجتمع.

ولعلّ حركة «حماس» كانت الفصيل الأكثر تأثّراً، وتفاعلاً، إزاء ما يجري في سورية، ومع ذلك فقد اتّسمت سياساتها في البداية بالتردد، إذ هي مؤيّدة لثورات «الربيع العربي»، بخاصّةٍ مع رؤيتها الصعود الباهر للتيارات الإسلامية في تلك الثورات، إلا أنها في حيرة إزاء الثورة السورية، حيث شكلت سورية حاضناً وداعماً لها، ومعزّزاً لشرعيتها ولمكانتها (مع محور طهران ـ دمشق ـ حزب الله ـ حماس). وعلى العموم، فقد حسمت «حماس» أمرها، بعد حين، بإخراج قيادييها، وبنقل مقرات قيادتها، من دمشق إلى القاهرة وقطر، بطريقة هادئة، ومن دون طلاق معلن، في ما بدا انه بمثابة خروج، أيضاً، من المحور المذكور.

أما الفصائل الفلسطينية الموجودة حصراً في سورية فقد وجدت نفسها في مواجهة تحدٍ كبير إزاء احتمال تغيّر الأوضاع في هذا البلد، بواقع معارضتها قيادة المنظمة والسلطة، وبحكم أنها تدين بوجودها وبمكانتها وحتى بشرعيتها للنظام السوري، لا سيما أنها، ومنذ زمن، لم يعد يلحظ لها أي دور في مواجهة العدوّ، ولم تعد لها مكانة وازنة بين شعبها، ولا تشكّل نموذجاً يحتذى ولا على أي صعيد. وربما أن هذا الوضع نمّى عند بعض هذه الفصائل قناعة مفادها أن مصيرها بات وثيق الصلة بمصير النظام، ما يفسّر المواقف والسلوكيات المتوتّرة التي باتت تعتمدها، وضمن ذلك محاولاتها إقحام المخيمات في ما يجري، بطريقة أو بأخرى.

وعلى الصعيد المجتمعي، أي خارج البنى الفصائلية، فقد وجد الفلسطينيون – السوريون (أي اللاجئون) أنفسهم في وضع صعب، ومعقّد، وثقيل الوطأة. فليس ثمة إجماع وطني عند كياناتهم، كما ذكرنا، بشأن ما يجري في سورية، وهذه التجربة الأولى لهم في التعامل مع حالة اضطراب سياسي في البلد الذي يعيشون فيه منذ عقود، وهو وضع غير مألوف بالنسبة إليهم، بالقياس إلى أحوال نظرائهم في دول أخرى. وبالتأكيد، فإن التجارب المريرة للاجئين في دول مثل لبنان والعراق والأردن كانت تثقل على مخيّلتهم، وتعزّز المخاوف عندهم.

لكن مع كل ذلك، فإن هؤلاء اللاجئين، على رغم استقرارهم الوجودي في سورية، لم ينسوا أنهم عانوا ما عاناه السوريون من حرمان ومظالم وامتهان للحقوق والحريات. نعم فلقد كان الفلسطيني بمنزلة السوري، في كل شيء (تقريباً)، بما فيه كل تلك الأشياء أيضاً، بما تتضمّنه من آلام وآمال. ولعل كل ذلك، معطوفاً على التنازع بين الوطنية الفلسطينية من جهة والطبيعة السلطوية التدخلية للنظام، من جهة أخرى، لعب دوراً كبيراً في عطف الفلسطينيين على الثورة السورية، ومناصرتهم للمطالب العادلة للسوريين.

في كل الأحوال فإن هذا العطف الفلسطيني على الثورة السورية، من الناحيتين السياسية والأخلاقية، لم يصل إلى حد دخول المخيمات على خطّ الثورة السورية، ربّما بسبب خبرات الفلسطينيين من تجاربهم السابقة، أو بسبب معرفتهم لحدود مكانتهم، ومحدودية دورهم.

مع ذلك، ففي معمعان الثورة ثمة فلسطينيون استشهدوا واعتقلوا وعذّبوا واختطفوا، بحكم تجاورهم مع المناطق الساخنة، أو بحكم ميولهم وعواطفهم السياسية، وخياراتهم الشخصية كأفراد. فثمة أطباء ساهموا في علاج الجرحى، وبيوت في المخيمات آوت مشرّدين، وعائلات اقتسمت لقمة عيشها مع جيرانها، وثمة قلوب رجفت خوفاً على الأصدقاء، وعيون بكت السوريين كما لم تبكِ فلسطينيين.

وربما أن أهم استنتاج فلسطيني من الثورة السورية مفاده أن قضية الحرية لاتتجزأ، وأن الحرية هي القضية المركزية للمواطنين العرب، وأن الأوطان الحرة تكون كذلك حقَاً بمواطنيها الأحرار؛ فلقد انتهى عهد التلاعب بالقضية الفلسطينية، وتوظيفها في استخدامات سلطوية.

:::::

المصدر “شبكة رايا” للأخبار