عبداللطيف مهنا
ما أن اندلعت ثورة 25 يناير في مصر، حتى استيقظت في الوطن العربي الكبير أمال دفينة بعودة مصره مرةً أخرى أليه بعد تغريبة “كامب ديفد” التي طالت، لأنه، وبعودتها فحسب، تتحقق للأمة العودة لعروبتها، وعودة سابق عهدٍ كانت تمتلك فيه إرادتها السياسية وبامتلاكها لها كانت تواجه جبهة أعدائها. ولم يجمع أغلب المصريين بعد الثورة على أمرٍ بقدر اجماعهم، وعلى اختلاف مواقفهم ومواقعهم ومشاربهم السياسية، على وجوب أستعادة دور مصر الغائب ومكانتها القيادية الضائعة في وطنها العربي الكبير وقارتها الأفريقية والمنطقة، وهو الأمر الذي قال مصريو 25 يناير فيه الكثير، محملين النظام البائد الذي ثاروا عليه مسؤلية تراجع هذا الدور وغياب هذه المكانة وهما الهدفان المنشودان الآن واللذان آن آوان استعادتهما. وفي حومة إنتعاش الآمال على ضفاف هذا التحول الثوري الموعود داعب وجدان المصريين والعرب حلم دفين بأن تصل ثورة يناير ما انقطع من ثورة يوليو وما خبا منها خلال عهدي التراجع والانحدار الساداتي والمباركي، بل كان هناك من رأى بحق أن الأولى إنما هى استمرارية للثانية. لقد سمعنا مثل هذا يتردد في الذكرى الستين لثورة 23 يوليو التي أحياها المصريون ومعهم العرب قبل أيام.
بيد ان هناك ما هو شبه الغائب، أو المسكوت عنه، أو حتى شبه المحذور، وهو مقاربة الأسباب، أو قل السبب الرئيس،الذي الحق بمصر الدور الريادي والمكانة القيادية في أمتها كل ما لحق بهما من أذىٍ، وكان المسبب الرئيس للمذبحة التي لحقت بالإرادة السياسية العربية بشكلٍ عام طيلة العقود الانحدارية التي تلت،ونعني، إتفاقية “كامب ديفد”، التي حيدت مصر وأخرجتها من معادلة الصراع العربي الصهيوني وحوَّلتها من دولةٍ رائدةٍ وقائدةٍ في أمتها ومنطقتها، بل على صعيدٍ كونيٍ، إذا ما ستحضرنا سالف تأثيرها افريقياً وموقعها في منظومة دول عدم الإنحياز دولياً، حوَّلتها إلى دولة تابعة الحقت بركب الدائرين في الفلك الأميركي، ما يعني تخندقها الموضوعي في الجبهة المعادية لها ولأمتها، وبالتالي تنفيذ ما يمليه هؤلاء الأعداء عليها.
قد يقول قائل إنه لمن الظلم الفادح أن تطالب مصر مابعد الثورة بما لاطاقة لهاعليه، ويلفت النظر إلى كون مصر في ظروفها الصعبة المعروفة تظل لها أولوياتها الملحَّة، وفي مقدمتها حماية الثورة، وصون أهدافها، والتي تمر بمخاضاتها العسيرة وتتناهشها قوى الثورة المضادة، كما أنها تظل العرضةً لتآمر الغرب عليها وعدم تسليمه بخروجها من بيت طاعته، أو قبوله بعودتها لتسنم مكانتها الطبيعية والقيام بمهمتها الطليعية المرتجاة في الدفاع عن قضايا أمتها، لاسيما وأن النظام المفترض أنه الآفل لا زال قائماً ولم يسقط منه إلا رأسه، ولا زال عسكره متمسكون بالسلطة ويتشبثون بالوصاية على الثورة ويحاولون تقنينها وقصقصة أجنحتها ما ستطاعوا، ثم تأتي الأوزار الإقتصادية المستفحلة وبالغة السوء والمورثة من خطايا العهد البائد، وحاجة مصر لتلمس البديل للمعونة الأميركية التي تكبلها، حيث الكونغرس يصر على أن يذكّرها صباح مساء بانتظار قرار قطعها إذا ما مُسَّت إتفاقية “كامب ديفد”، أو أتت مصر بما قد يغضب مدللته المصونة إسرائيل.
إن في هذا القول لصحة، لكنه لا يبرر هذه المبالغة في تجنب مجرد النقاش في مسألة مصيرية بالنسبة لمصر بخاصةٍ وللأمة بعامةً، بل وعلى مثل هذا القدر المصيري البالغ من الخطورة، ومهما كانت صحته فلاتكفي لفهم مثل هذا الشبه التوافق الضمني بين مختلف قوى الحراك السياسي المصري، حتى في أوج الحملات الإنتتخابية، على هذا المسكوت عليه، وكأنما هو تابو أومن المحرمات التي يحذر تناولها. ومن المفارقة، أنه وفي ظل هذا الإجماع على وجوب إستعادة الدور المفقود والمكانة المهدوره، وحيث تحتفل مصر والأمة العربية بالذكرى الستين لثورة 23 يوليو الخالدة، أن تأتي وزيرة الخارجية الأميركية، وكان قد سبقها وسوف يلحقها توارد مختلف الرسل الأمريكان، وجميعهم لايحمل معه إلاهماً واحداً هو الخشية على مصير تلك الإتفاقية، وأن تتوجه السيدة الأميركية مباشرةً من القاهرة الى فلسطين المحتلة حاملةً معها التطمينات المطلوبة، وفق ما اعلنه الطرفان الأميركي والإسرائيلي وصمت ولم ينفه المصري!
هذا فيما يتعلق بمعاهدة “كامب ديفد”، لكن ما لا يمكن فهمه أو يصعب تبريره، أن تظل غزة الصامدة محاصرةً، وأن لايفك الحصار العربي المضاف الى الحصار الإبادي الإسرائيلي الغربي المضروب عليها والمُكمِّل له، رغم مرور كل هذا الوقت على إندلاع ثورة يناير وما حملته للأمة من بشائر تحوِّل وإرهاصات تغيير وما يعلِّقه المصريون والعرب عليها.
إن مصر لكبيرة وقوية وغنية بإمكانياتها وإبداعاتها وبأمتها، ومن السهل عليها إستعادة دورها ومكانتها قومياً وأفريقياً ودولياً، وامتلاك قرارها والإنفكاك من ربقة ما يكبَّلونها به، لكنما هناك سبيل واحد ماثم سواه لذلك، أطال الزمان أم قصر، وما من خيار لها وللعرب سواه لا تاريخياً ولا جغرافياً ولا وجودياً، وهو تحمُّل مسؤلياتها القومية وأخذ مكانها الطبيعي والطليعي في صدارة أمتها… وهنا ليست البوصلة سوى فلسطين…