نص محاضرة قُدمت في جامعة بيت لحم بدعوة من د. بلال سلامة عن دائرة علم الاجتماع وذلك يوم 28 آذار 2012[1]، وسوف تنشر على أربعة أجزاء.
ترتكز هذه المحاضرة على عدة محاور: جذور التموُّل واللبرالية في منظمة التحرير كناقلة أم لهذا الوباء، والتمول والنيولبرالية، سياسات الكيان الاقتصادية، اقتصاديات الانتفاضة، مزاعم التنمية لدى سلطة الحكم الذاتي ، وامتداد كل هذا في كتابات عن “التنمية” من اقتصاديين وغير اقتصاديين/ات عن الأرض المحتلة 1967 ينقدون نيولبرالية السلطة، وأخيراً برادايم التنمية بالحماية الشعبية.
أداة التحليل هنا هي الاقتصاد السياسي مع تأكيد انطلاقه من قاعدة التحليل المادي التاريخي وهذا يقوم عملياً وشرطاً وبالضرورة على النقد المشتبك. ومن ضمن هذا النقد المشتبك لا بد من التحذير من محاولات ثقافوية اغتبطت لما يسمى الربيع العربي اللاحزبي واللارؤيوي فأخذت تجأر بأن أدوات التحليل الماركسية عفى عليها الزمن، فإذا الأدوات واللغة البديلة هي خطاب هيلاري كلينتون، والدين السياسي وأخيراً حلول الفقية محل المفكر وحتى محل السياسي وتكثيف ذلك في الوهابية السعودية وذلك الشيء اللامفهوم، اقصد قَطَرْ! هذا الانتقام اللبرالي والفوكوي والإمبريالي من الماركسية، والهروب اليسروي منها يعيد إلى الأذهان ذلك الهروب الجماعي من الماركسية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. هذا الهروب الذي أخذ في طريقه دولا وأحزاباً وصداقات حتى فردية وعلاقات اسرية. وقد يكون لمأزق أو أزمة النيولبرالية اليوم على صعيد عالمي دافع ندم لدى كثير ممن هربوا فقط لأن هناك مناخ هزيمة فإذا بهم يُواجهون بأزمة الصنم الذي احتموا به، أي الرأسمالية بمجموعها وليس في لحظتها النيولبرالية المعولمة.
أحاول هنا تثبيت موقف أخلاقي وعلمي يرفض تحول المثقف إلى مقرىء أو موظف، أو محطة تصليح لحافلات السلطة، فمسؤولية المفكرين، بغض النظر عن اتجاهاتهم، يجب ان لا تنحط إلى المستويات الهابطة لواجبات الموظفين. فالمفكر أمام السلطة دوما وخارجها ابداً، يكتب ويحلل حقائق الحياة دون الاضطرارإلى مراعاة دبلوماسية الأنظمة، والمة الحية هي التي تسمح بهذا للمفكر بدل أن تقتله. وهذا يكشف عن عيب خطير في الحالة الفلسطينية ممثلاً في غياب النقد الفكري المعمق من جهة وطغيان الصراخ والثرثرة السياسية الجماعية من جهة ثانية.
من اللافت أن مسألة التنمية قد تعرضت لافتئات ليس في عدم ممارستها وحسب من قبل منظمة التحرير وسلطة الحكم الذاتي بل تعرضت كذلك لتكون مطية لكل من أراد أن يكتب (انظر أدناه عن الأدبيات). كثيرون/ات كتبوا تحت هذا العنوان بمعرفة وبدون معرفة، بتخصص وبدون تخصص وأخذوا الموضوع حيث أرادوا! مما أحدث فوضى في هذا العلم وجعله مبتذلاً سواء في السياسات والتطبيق أو في التحليل، وحين تُحوَّل قضية هامة إلى وضعية الابتذال تُسلب من ذاكرة ووعي الشعب وبالتالي يُستلب وعي الشعب، فتغدو القضية الهامة مجرد عنوان صغير لا قيمة له، وهذه أفضل الطرق لقتل المحطات الهامة في حياة الشعوب[2]. ففي غياب النقد والمعرفة يمكن لكل امرىء ان يكتب في كل مجال وأن يعطيه التصنيف البحثي الذي يريد. وهنا يقف ضد النقد والعلم عامل خطر هو الأموال السوداء المسمومة من المانحين ومنظمات الأنجزة التي تُنفق لأنها خُصصت كي تنفق وحسب بمعزل عن قيمة ما تُنفق عليه وهذا خرق على الأقل لأبسط قوانين الاقتصاد بمعنى أن ينتج عن المدخلات مُخرجات أفضل بينما مخرجات هذه الأموال …وسخة.
لقد نُشرت كتابات كثيرة تتقد أداء سلطة الحكم الذاتي وخاصة من منظمات الأنجزة ومراكز البحوث والأبحاث والإنماء ومن اقتصاديين/ات ومن بعيدين بفراسخ عن الاقتصاد والتنمية…الخ والكثير منها استراح بأنه بنقد السوق والنيولبرالية والتمويل…الخ بات مطمئناً بأنه أنجز شيئاً دون ان يخال بأنه يرصف عناويون إيديولوجية لا أكثر. فالكثير من المراكز والأشخاص لم يقدموا لا تحليلاً ذي مستوى أو بال ولا برادايم اقتصادي أو تنموي لكي يندرج هؤلاء حقيقة مع البرادايم المعياري القائم اي السوق والنيولبرالية! وليجسدوا حنيناً إلى اللبرالية في حقبة لا يوجد ما يؤشر على إمكانية عودة حتى اقتصادات المركز إليها بسهولة على ضوء الأزمة المالية الاقتصادية الجارية. فقبل ايام كان أوباما يطالب بزيادة الضرائب على الأغنياء، فهل تُزاد هنا حيث يعمُّ حنيناً كحنين النِيْب[3] إلى اللبرالية.
بعض هذه الكتابات كما يبدو جرى إعدادها ونشرها على عجل لأن مراكز الأبحاث ومنظمات الأنجزة مجبرة على صرف الفائض المالي طبقاً لتعهدها لدى المانح، ويكون هذا بالطبع من نصيب “الباحثين/ات” “الأسرع” في الكتابة! ففي النتيجة منحة مالية وإسم “مؤلف/ة”، وهذه مخرجات أقل من التوقعات.
فيما يخص المُخرجات ونقد المستوى السياسي أخص هنا معظم منشورات وورشات مركز دراسات التنمية في جامعة بير زيت (أنظر لاحقاً) وكتابات آخرين سواء في الخارج أو من مركز ماس…الخ أقصد هناك كتابات لاقتصاديين لم تغب عنهم تقنية صنعة الكتابة ولا علم الاقتصاد البرجوازي المبتذل. كما أن كتاباتهم لا تنقصها المعرفة. وليست مشكلتهم وحسب في عدم الجرأة التقدمية على اعتماد وتبني أو إنتاج برادايم معين ينقد ما هو قائماً، بل في كونهم كانوا مع الرؤية الاقتصادية المختلة لمنظمة التحرير وخدموا بالقبول النظام الاقتصادي لسلطة الحكم الذاتي وتحمسوا لها والبعض كان وزيراً في هذه السلطة أو مستشارا لهذه السلطة يُدعى كخبير أجنبي (هنا بمعنى الأجرة العالية)، أي هم يمينيون بالبنية الفكرية ومرجعيتهم هي الراسمالية. واللافت أن بعضهم تحول في السنوات القليلة الأخيرة إلى ناقد لسياسة حكومة تسيير الأعمال (د. سلام فياض) كما لو لم يكن قط ضمن المثقفين العضويين للمؤسسسة نفسها. والحقيقة أن هؤلاء هم جزء من المثقفين الفلسطينيين الذين فكروا ونظَّروا وخططوا وتوظفوا مع سلطة اتفاقات مدريد-أوسلو وحينما بانت عورتها بما لا يسمح بالدفاع عنها انقضوا عليها نقداً كما لو كانوا هم ضد التسوية منذ عام 1948! كم هي هائلة وعجيبة هذه الفهلوة! لكنها تصبح ممكنة نظراً للبطريركية الثقافية التي تتجلى في تعميم المزاعم بأننا اسرة واحدة وأن نقد الكبار “اي السلطة أو اصحاب الشهادات أو الأمناء العامين-أمناء الغفلة أو شيوخ الدين السياسي-فقهاء لا علماء” أمر معيب، وأن على الفقير أن يتزلف للغني، وأن النقد حقد وتطاول. وهذا يقود في النهاية إلى غياب النقد ومن ثم فوضى الفتاوى. وإذا وضعنا هذا على معيار مناخات الكتابة نرى الكارثة مجسدة أمامنا والفضية الوطنية مُسجَّلة تحت نعل الكارثة، اي فيضا هائلا من الكتابات “بفضل” النيت والفيس بوك وأل سكايب مما يُربك االقارىء فيضيع كالقضية.
والطريف أن نقد هؤلاء لحكومة فياض كما لو أن المال المسموم أتى معها وليس مع بدايات منظمة التحرير، أو كأن مصادر التمويل (أنظمة الغرب الراسمالي والعرب والأنجزة والمؤسسات المالية الدولية) هي بريئة وأن هذا المال يتحول إلى سموم فقط لحظة دخوله الأرض المحتلة كإخراج الزفر طويلا من الثلاجة . وكل هذه انتقادات تحصر نفسها بقصد ضمن المنظومة القائمة دون بديل يتجاوزها. ومن جانب آخر، فهذه الكتابات، أو معظمها على الأقل، وهي تتحدث عن ما يسمونها فلسطين (اي الضفة والقطاع) وعن الكيان وعن المستوى العالمي ممثلاً في اللبرالية والنيولبرالية والسوق لا تذكر البعد العربي قطعياً، وذلك في تساوق مع شروط التسوية أو خطابها الخفي بل وشبه المعلن وخاصة حصر الصراع كأنه بين الفلسطينيين والكيان[4]!
وهكذا، فإن الخطاب الاقتصادي اللبرالي المحلي (خطاب السلطة وخطاب كثرة من الباحثين)، قد قيد نفسه أو رهنها في شعار “الحياة مفاوضات” وهو الذي ننقضه بأن الحياة مقاومة وجهها التنموي هو التنمية بالحماية الشعبية.
يؤكد التناقض والصراع على الصعيد العالمي وصولا إلى القومي والمحلي أن الصراع هو بين الاشتراكية والرأسمالية بدءاً وتخصيصاً في مستواه الفكري وليس انحصاراً فيه. وعليه، فإن حل المعضلات الاجتماعية الاقتصادية في العالم محكومة باحد هذين المتصارعين. صحيح أن كثيرين حاولوا، ربما بنوايا حسنة أن يخلقوا مزيجاً من النقيضين، ولكن ما ثبت بالتجربة الإنسانية العيانية أن دوائين متناقضين لمرض واحد نتيجته قاتلة. هكذا كان نتيجة الشيوعية الأوروبية والبريسترويكا، ولا نقول أن هدف الخلط كان تحول طبقي و خيانة.
أقصد بهذا أن اقول بأن أي برادايم غير اشتراكي المنحى هو راسمالي، واي حديث بدون برادايم معين عن واقع معين هو في النهاية قبول بالقائم. وهذا ما يضع مختلف الطروحات والكتابات على المحك، اين تقف وماذا تريد ولصالح من هي؟
النمو والتحديث والتنمية: هناك جدل يشوبه خلط متواصل بين النمو والتنمية وبين التنمية والتطوير. وربما يعود هذا في جزء كبير منه إلى الفارق في المعاني في اللغة الإنجليزية مقارنة بالعربية. فالتطورdevelopment والتطوير developing يحملان تقريباً نفس معنى التنمية Development. وهذا الخلط اللغوي يقف كثيرا أو يتسبب في الخلط في المعنى والمضمون والدور مما يخلق صعوبات كثيرة في فهم التنمية وعلى حسابها.
فالتنمية لا يمكن أن تختصر في النمو ولا في التطور أو التطوير،وليس ذلك فقط لأن النمو والتطور والتطوير تتم بفعل السلطة/الدولة وحسب بل لأن الحامل الاجتماعي لها مختلف عن الحامل الاجتماعي للتنمية، وهذا الحامل الاجتماعي الطبقي هو الذي يميز التنمية وهو شرطها.
يُراوح من كتبوا عن التنمية بحصرها إما في دور القطاع الخاص أو الدولة (بول باران مستندا إلى لينين). ولكنني أزعم أن التنمية وخاصة بمفهوم التنمية بالحماية الشعبية هي ابعد حتى من فك الارتباط والتي لا يكفي القطاع الخاص ولا الدولة كي تكون ناقلة لها، بل الطبقات الشعبية التي تخلق وتوجه الحزب الشيوعي الذي يقوم بتنفيذ التنمية لا على اساس دولاني وإنما على اساس المبادرة والحماية الشعبية وإشراف الطبقات الشعبية على الحزب لا خضوعها لقيادته.
لعل ما يجب توضيحه كذلك هو الفارق بين التحديث Modernization وبين التنمية، بما أن التحديث هو الوجه الاقتصادي وخاصة الصناعي للحداثة. والتحديث هو “الإبداع” الذي طرحته الولايات المتحدة منذ اربعينات القرن العشرين، اي تقريباً بالتوازي مع ظهور أطروحات التنمية. ففي هذا السياق يتضح ان التطور متعلق بالتحديث وليس التنمية ومن هنا كانت اطروحة والت روستو.
نظرية التحديث Modernization او الإنمائية Developmentalism هي الذراع الإيديولوجي للتوسع الأميركي خلال الخمسينات والستينات لنشر ما تسميه “التنمية” و “الديمقراطية” في العالم ( Berberoglu 1992:7 ) ان التحديث هي ما تتجلى مع النيولبرالية والسوق الحر وهي استمرار لها. وهي تتخفى وراء المساعدة الفنية، تطوير الكميونيتي، والحاجات الأساسية.
تعود أسس النيولبرالية إلى عام 1947 حيثُ وُضعت على يد ملتون فريدمان وفريدريك هايك وكارل بوبر (صاحب نظرية هندسة المجتمعات) وبالطبع أعطت أُكُلها المرّْ في ثمانيات القرن العشرين[5] حيث انطلقت من جامعة شيكاغو لتسحب في طريقها بقايا دولة الرفاه وتفرض عدم التضبيط De-regulation والخصخحصة وإعادة التصحيح الهيكلي…الخ، وهي التي انتهت إلى الأزمة الاقتصادية الجارية التي تترنح اليونان كإحدى ضحاياها والتي وضعت اليورو أمام احتمال التخلي عنه، وسمحت للصين بان تشتري عجز الولايات المتحدة لتلعب دور ضامن عدم تدهور اقتصاد الأخيرة كمن ينتظر على عدوه حتى يتهالك، وليس آخر التداعيات قيام الاتحاد الأوروبي باستدعاء الاستدانة من الصين التي تتريث هذه المرة كثيراً[6].
ضمن ما أصبح دارجاً في الكتابات عن التنمية مصطلحات تحمل معانٍ تتراوح بين عدم الدقة وبين التماهي مع الخطاب اللبرالي سياسياً المضاد لجوهر حق الشعب الفلسطيني. فإطلاق تسمية فلسطين على الضفة الغربية وغزة يحمل مضموناً سياسياً قبل ان يكون اقتصادياً مقصود به أن هذه هي فلسطين وحدها. طبعاً يستخدم البعض هذا المصطلح تيمنا بالحفاظ على اسم الوطن، ولكن اساس نحته مجدداً هو تثبيت مضمون اتفاق أوسلو، وهذا يعني اللبرالية والنيولربالية اقتصاديا ويعني هيمنة الخطاب المعولم السائد سياسياً واستراتيجياً. وهناك مصطلحات أخرى مثل القطاع العام الذي هو في الأرض المحتلة 1967 قطاع حكومي وفي أرقى أحواله دولاني. ولا يقل عنهما خطورة تسمية التمويل المسموم ب المساعدات مما يضفي على الإمبريالية وأدواتها في الاختراق اقصد الأنجزة، مسحة إنسانية، وما أبعد! (انظر لاحقاً)
1) تموُّل وتمويل منظمة التحرير:
من اللافت أن منظمة التحرير الفلسطينية وإن كان لعبد الناصر دورا قومياً في تأسيسها، فقد كان لقطريات الخليج دور اساسي في إغراقها/اغتيالها مالياً الأمر الذي دفع يمين منظمة التحرير إلى هدنة دائمة مع هذه القطريات. ألا نلاحظ هنا ان الثورة المضادة تترصد وتتابع الثورة رجلا على رجل. فليس من عجب أن قيادة المنظمة لم تختلف مع أية دولة خليجية[7]، رغم أن هذه الدول لا دور لها في حركة التحرر الوطني العربية فما بالك بالنضال المسلح ضد الكيان الصهيوني[8]. وليس نقاشنا هنا عن مبدأ العلاقات المالية سواء لأهداف اقتصادية أو سياسية، وسواء كانت مساعدات أو تمويل أو تموُّل. بل النقاش هو في المترتبات المسلكية والتقليد الذي أرسته هذه المسألة بمعنى أن الفلسطينيين وصلوا إلى التخزين في اللاوعي ومن ثم في الوعي ضرورة توفر ريع مالي لأنهم لا ينتجون وأنه أمر جميل أن يعيشوا على صدقات مسمومة من الآخرين، وأن ذلك حق لهم كبطاقة إغاثة الأونروا!. وتوفر هذا الريع دفعهم إلى إنشاء إدارات وإعلاماً ومؤسات طغت باكراً على الكفاح المسلح وقادت إلى شبه تلاشيه وحتى إلى إعلان انتهائه وحتى مهاجمته. بهذا المعنى فإن التمويل الخليجي تحديداً كان جزءاً من خطة الغرب الراسمالي لتصفية الكفاح المسلح وتحويل المنظمة إلى منظمة سياسية تفاوضية وهذا ما نراه بلا مواربة اليوم، فما أن يُعلن عن وقف المفاوضات حتى نجد أن ما حصل مفاوضات على المفاوضات.
قاد اعتماد المنظمة على الريع التمويلي إلى تعمق ظاهرة الاستهلاكية في بنية المنظمة لتتحول إلى شبه شركة كبيرة لم تقم على الإنتاج ولا حتى المتاجرة بل الريع بما هو لا يتأتى من عمل. وهذا ما لعب دوراً اساسياً في الخواء النظري اقتصادياً في اوساط منظمة التحرير التي بدورها أخذت تغدق الأموال على كوادرها مما حولها إلى بنية بيروقراطية تقوم على راسها راسمالية بيروقراطية ومن تحتها أجهزة واسعة من الثوريين الذين تحولوا إلى موظفين. وهذه هي البنية التي جُلبت مع اوسلو كجهاز سلطة جاهز. وغياب منظور اقتصادي يؤكد غياب منظور تنموي تجاه المناطق المحتلة 1967 قبيل اتفاقات أوسلو. وكل ما قدمته منظمة التحرير للأرض المحتلة كان الوعود إذا ما عادت فإنها ستجعل من هذه المناطق تايوان أو سنغافورة. وأي مثال! أي نموذج سياسات اقتصادية تقوم على تنمية بالتبعية في ظل الإمبريالية لتكون “فترينة” تنافس نموذج التنمية في الصين الشعبية، وهذا ناهيك عن غياب الديمقراطية لعدة عقود. والمهم، أن حتى هذا البرادايم غير مسموح به من المركز الذي خلق أوسلو لأن المسموح به تايوان واحدة هي الكيان الصهيوني. وقد كتبت عن هذا بسنوات قبل اوسلو. بهذا العقل اللبرالي أتت منظمة التحرير على شكل سلطة بعد توقيع اتفاق أوسلو.
2) سياسات الاحتلال في تخريب الاقتصاد
أي برادايم في التنمية أو التحديث يجب أن يتناقض مع سياسات الكيان الاقتصادية التي جوهرها الاستحلاب والتخريب دفعاً باتجاه الرحيل، وهي السياسات التي بدأت بإلحاق اقتصاد المناطق باقتصاده بدءاً بتقويض مواقع الإنتاج سواء بمصادرة وإغلاق أراضي وبناء المستوطنات وقطع علاقات الاستيراد والتصدير مع الخارج وفرض أوامر عسكرية وصلت 2000 أمر نصفها متعلق بالاقتصاد. هذا إلى جانب اتباع سياسة تشغيل قوة العمل الفلسطينية الفائضة في مواقعه الاقتصادية لحاجته لهذه العمالة ولإشغالها عن الانخراط في المقاومة المسلحة من جهة، وعدم إصدار رخص لإقامة مشاريع صناعية من جهة ثانية. بكلمة أخرى، أي برادايم اقتصادي وطني يجب أن يرفض التطبيع ويرتكز على المقاطعة بغض النظر عن حدود القدرة على تطبيق كليهما. فالمقاطعة تفترض التنمية بالضرورة وتشترطها.
في تطبيق هذه السياسات عمد الاحتلال إلى ربط مختلف الطبقات الاجتماعية باقتصاده بدءاً من التجار كي يزودوا السوق بالمواد الاستهلاكية والمعامل بالمواد الخام وقطع الغيار، وتشغيل قوة العمل الفائضة من الريف والمدينة…الخ وبهذا اضطرت مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية للارتباط باقتصاد الكيان حيث لا خياراً آخر[9].
إضافة إلى غمر الأسواق واستحلاب قوة العمل عمد الكيان إلى اختراق بنية الاقتصاد المحلي بسياسة التعاقد من الباطن[10] وهي الأشد خطورة حيث تكونت مواقع عمل يتشارك فيها راس المال الصهيوني مع المحلي والتي شملت تشارك في مبنى المشغل وماكيناته وربما ملكية قطعة الأرض وبالطبع التغلغل في السوق المحلي واستغلال العمال باجور أدنى من تشغيلهم في داخل الكيان. لقد أفرز حصر الاستيراد من الاحتلال إلى جانب التعاقد من الباطن شرائح طبقية كمبرادورية في مستويين:
- استيراد السلع وتسويقها
- وجذب راس المال الصهيوني وتمكينه من البنية الاقتصادية.