قال ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني في الحرب العالمية الثانية: “إن الأكذوبة تقوم بدورة كاملة حول العالم قبل أن تنتهي الحقيقة من ارتداء سروالها” لكننا نجد أن الأكذوبة في عصر الانترنت تدور دورات ودورات قبل أن تبدأ الحقيقة بارتداء سروالها!!
لقد ارتبط مفهوم الإعلام بتقديم الحقائق منذ نشأته بينما ارتبطت الدعاية بالأكاذيب والتضليل. وهي مفاهيم قديمة استخدمت منذ الحرب الباردة لكن يبدو أن هنالك خلطاً عجيباً بينها في هذه الأيام.
فما أشد قرب مقولة تشرشل مما يحصل على أرض الواقع في أيامنا هذه؛ إذ بتنا نشاهد وقائع افتراضية من صنع الإعلام بعيدة عن الواقع. الأمر الذي دعا إلى وجود إعلام مضاد للإعلام المشبوه ذي الصفة العدائية والهجومية الذي يعتمد من أجل بناء واقعه الافتراضي على الأفلام المفبركة والموظفة في إطار خدمة هدف ما؛ لإنضاج مواقف، واتخاذ قرارات بوصفه جزءاً من صفحات الحرب النفسية بغية تحقيق الانهيار الإدراكي للخصم، وكسر إرادة الصراع في توقيت محدد لإحداث تشويه ما، أو خلق واقع مغلوط.
ويحتاج هذا الأمر إلى إمكانات مادية هائلة، ومنظومة واسعة للحرب النفسية. فثمة عناصر نائمة تنشط عند الحاجة مهمتها لي عنق الحقائق، وتضليل الرأي العام.
إنها الحرب المعاصرة إذن. تستند إلى منظومة إعلامية ضخمة، وتوجه البوصلة الفكرية والسياسية للرأي العام من أجل قبول صناعة الإعلام. لقد أصبحت الاستراتيجية الإعلامية علماً وفناً، وأضحت مطرقة الحروب غير الشرعية تدق مع تعاظم عمليات التضليل المولودة في المؤسسات الإعلامية ذوات الاختصاص. تصاغ أفلامها على أنها حروب دفاع مع تغييب تام للجانب الآخر من الصورة، وإن أحضروه حضر ليبدو هزيلاً. إنه دور الإعلام في خفض الروح المعنوية للخصم، وإفقاده الثقة في قدراته، وبث الاحتراب في صفوفه.
لقد أوجدت الهيمنة الغربية إعلاماً ناطقاً باللغة العربية، أو اللهجات المحلية للبلد المستهدف بهدف غزو العقول، وخاضت حرباً نفسية جوهرها تدمير معنويات الخصم، وإضعاف الدعم المحلي والدولي للمجهود العسكري والسياسي والإعلامي لذلك البلد عبر حزمة من وسائل التشويش والتضليل والتلاعب النفسي من أبرزها الجزيرة والعربية والبي بي سي. ناهيك عن وظيفة شبكة الانترنت في ترويج الدعايات السوداء.
تتحكم هذه الوسائل الإعلامية الجبارة بالصور المبثوثة، وتنتج، وتبث أفلاماً، وتزود الوكالات بصفحات تتحكم بأخبارها، كما تزود المحطات الإذاعية والتلفزيونية بها. وتعد محطة السي إن إن الأمريكية المصدر الأساس للأخبار المصورة في العالم. أما المحطات الأكثر خطورة في بلادنا والتي يشاهدها المواطن العربي فهي الجزيرة والعربية والبي بي سي. يقول الصحفي الفرنسي كلود بوليو على موقع فالميه: “إن الحرب التي تشنها الإمبريالية هي حرب أفكار تعتمد على تعبئة وتجييش شعبي لإسقاط أنظمة، وقلب مفاهيم، وزعزعة حكومات. وهي حرب مستمرة على المستوى الدولي.”
المشكلة إذن تكمن في أن المواطن العادي يكوّن نظرته مما تقدمه له هذه الوسائل الإعلامية التي يفترض بها أن تتعامل بموضوعية ونزاهة. لكنها تغطي الأحداث وفق أهداف سياسية مرسومة سلفاً في ظل النفوذ والسطوة الإعلامية الصهيونية، وتشيع القضايا المفبركة أمام الرأي العام دون مساءلة قانونية، أو رقيب مهني، وتقنع الناس أنها ما تقدمه هو الحقيقة التي لا حقيقة سواها.. ولم يظهر إعلام مضاد يظهر بطلان دعاوى هذا التضليل الإعلامي.
وفي واقعنا الحالي نجد هجمات تشويه منظمة، وحرب إشاعات، وتصريحات، ومعلومات مزيفة الغاية منها صرف أنظار الرأي العام، واستهداف محاور الصراع ورموزه.
ألا يمكن أن نرى أن ما يقدمه هذا الإعلام المشبوه إرهاب فكري يهدف لهدم الشخصية، وتحطيم المعنويات؟ أليس في نشر الدعاية والإيهام بحصولها وهي واقع افتراضي فقط، واستخدام أساليب ملتوية لتحقيق الهدف إرهاب فكري؟ أليس الإرهاب الفكري أخطر أنواع الإرهاب؟ أليس في طريقة الاستفزاز والرد المتشنج وشهود العيان والفيديوهات مجهولة المصدر استخفاف بعقل الملتقي؟
ومن أخطر نتائج هذا التضليل أنه يخلق واقعاً مزيفاً ومغلوطاً لكنه مقنع أحياناً. إنها الحرب العسكرية الأكثر تدميراً للخصم، والنشاط التخريبي السيكولوجي، وحرب الكلام والمفاهيم. إنها تخلق وقائع ممسرحة، وتغرق وسائل الإعلام بأكثر الأخبار تناقضاً فيضيع المتلقي في بحر الإشارات والعلامات والمؤشرات.
ومن الجدير ذكره أن الإعلام الوطني في سورية قد قفز قفزة نوعية في ظل هذه الأحداث الراهنة، وتمكن من خلق إعلام مضاد، فلجأ إلى أسلوب تكريس الحقائق، واعتمد صيغاً مرجعية داعمة لها دورها في كشف المكونات التي يستخدمها الإعلام الآخر لقلب الواقع الافتراضي. فلكل أنموذج إعلامي أنموذج يوازيه ويضارعه.
أخيراً: على الإعلام الوطني أن يكتشف الحقائق قبل أن تتحول إلى واقع، ويعريها، وأن يدحض الحجة بالحجة، وأن يوجد مشاهداً محترفاً قادراً على مشاركة الإعلامي في صنع الفكرة. وبجهود النخبة الخيرة في الوطن يتمكن إعلاميونا من خلق إعلام مضاد يحارب إعلام الهيمنة ولا عجب في ذلك إذا تذكرنا أن الإرادة الصلبة هي التي تصنع المستحيل.