3) الانتفاضة واغتيال برادايم الحماية الشعبية :
فوجىء الجميع بالانتفاضة رغم مزاعم التخطيط لها، وكانت رفضاً وطنياً للاستعمار الاستيطاني على المستويات السياسية والقومية والاقتصادية والثقافية. لذا، بدأت الطبقات الشعبية خاصة بالانسحاب إلى الداخل أو الذات وخاصة مقاطعة مواقع العمل في الكيان، ومقاطعة بضائعه لتتعمم في اشتباكات شعبية ضد قوات الاحتلال وتشكيل اللجان الشعبية للاشتباك مع العدو وإدارة الحياة اليومية للناس. كما بدأت بوادر التنمية بالحماية الشعبية[1] عبر تشكيل تعاونيات الأحياء لإنتاج الحاجات الغذائية الأساسية من المنتجات الزراعية المحلية اعتماداً على مفهوم القيمة الاستعمالية أكثر مما هي التبادلية وإرساء قانون قيمة وطني. ولم تكن هذه التجربة كما أُسميت ب الاقتصاد المنزلي بقدر ما هي الإنتاج التعاوني الأهلي بعيدا عن السوق بمفهومه التقليدي وخاصة سوق الكيان. فلم يقتصر الأمر على إنتاج المربيات والمخللات في المنازل بل تكونت شبكة زراعة- إنتاج زراعي-نقل إلى الأحياء-تصنيع المنتجات-وتوزيعها على السوق المحلي وأحياناً إلى سوق فلسطينيي 1948. هذه السلسلة اوسع من تسمية اقتصاد منزلي إلا ربما لانعدام مصطلح محلي ل Household بل قد ترقى لتسمية نمط إنتاج بمعنى أنها محاولات إرساء نمط إنتاج في التصنيع البسيط وشكل إنتاج في العلاقات الزراعية خاصة حيث بدأت العودة إلى لألرض ضمن شكل جديد من العلاقات. عاد الكثير من قوة العمل الريفية إلى استغلال الأرض واقيمت معامل محلية لتصنيع بعض الأساسيات محفوزة بوجود سوق انحصاري لها بعيدا عن منافسة بضائع العدو. كما اقيمت تعاونيات إنتاجية واستهلاكية صغيرة.
وهكذا، تكون على الأرض مشروع تنموي شعبي لم يعتمد التمويل الأجنبي، ولا إيديولوجيا السوق الراسمالي وبدأ فك الارتباط مع اقتصاد العدو. ولكن عدة عوامل لعبت دوراً في تصفية هذه التجربة بدءاً بفرض ضرائب على هذه المشاريع، واعتقال الكثير من النشطاء فيها. كما لم تحظ هذه المبادرة باي اهتمام من منظمة التحرير التي كان من المفترض أن توفر تسهيلات تمويلية للمشاريع الزراعية والصناعية كي تتمكن هذه القاعدة الأولية من الإنتاج لكفاية الطلب المحلي. فإذا ما وضعنا بالاعتبار الفهم الاقتصادي اللبرالي للمنظمة واعتمادها على الريع، فهي ستشعر بخطورة هذا البرادايم عليها.
تجدر الإشارة أن التمويل الأجنبي تزايد بوضوح مع اشتعال الانتفاضة لينقل الكثيرن/ات من العمل التعاوني
والنضالي اليومي إلى منظمات الأنجزة حيث الاعتماد على التمويل (كَ ريع) والجلوس في المكاتب وإصدار النشرات عن الجندر وحقوق الإنسان والدمقرطة…الخ أي سحب الكثير من النشطاء سياسياً ويسارياً إلى العمل الوظيفي بأجور عالية جداً مدفوعة من الخارج. كان بوسع التنمية بالحماية الشعبية أن تواصل مسيرة الاعتماد على الذات حتى بغياب الرؤية والسياسة التنموية لمنظمة التحرير لولا وجود ودور العدو. وربما كان الخلل الأخطر هو عجز القوى السياسية عن مواصلة حمل هذا البرادايم الشعبي مأخوذة بالتموُّل من الخارج سواء من التنظيمات الفلسطينية أو منظمات الأنجزة. وما نقصده هنا أن هذا البرادايم الشعبي يحتاج بإلحاح إلى حركة شعبية اشتراكية بلا مواربة. وقد يكون من الطريف أن القوى اليسارية استأنفت يساريتها على مستوى الانخراط في مؤسسات الأنجزة والنشر عن التنمية بدل العمل على إقامة مشاريع إنتاجية أو حتى تعاونيات استهلاكية. هناك تعاونيات الآن ولكنها محكومة بتمويل من مؤسسات الأنجزة وهذا خلق تهجيناً للتعاون من جهة، وجعل استمرار التعاونيات مرتبطاً بتواصل التمويل. ولا شك أن وجود تقليد التموُّل كأحد موروثات منظمة التحرير قد لعب دوراً في انخراط القوى السياسية في الاعتماد على الريع بدل التفكير بالإنتاج، وهكذا كان.
4) مدريد أوسلو :سلام راس المال
أدت الانتفاضة إلى اندهاش وقلق الجميع وإلى بدء السباق عليها وضدها بين الطبقات الشعبية (غير المبلورة) وبين اقطاب سلام راس المال[2]:
- الكيان
- قيادة المنظمة
- الغرب الرأسمالي والأنجزة
أما النتيجة فكانت ضرورة وقف الانتفاضة كل لأسبابه. فقيادة المنظمة والتي كانت في مازقها التونسي بعد الخروج من بيروت رأت في الانتفاضة بديلا شعبياً لقيادتها البيروقراطية. كان يمكن لقيادة المنظمة ان تنخرط في الانتفاضة لو لم تغادر بيروت والكفاح المسلح. حينها كان سيحصل تكامل النضال الوطني، اي كفاح مسلح من الخارج ونضال اجتماعي اقتصادي تنموي ثقافي ومسلح من الداخل. أما والحال كما كان عليه، فلم يكن أمام قيادة المنظمة سوى مساومة الكيان كي تتمكن من دخول الأرض المحتلة ولجم التجربة الشعبية، وهو ما تأكد في قيام القيادة بمحاولة استثمار الانتفاضة سياسيا بزعم الحصول على دولة. وهو زعم أو مناورة لأن تلك القيادة لا شك كانت تعلم أنها لن تحصل على دولة[3] وأن ليست لديها تلك العزيمة، وهكذا كان.
وكما اشرنا أعلاه عجَّل الغرب الراسمالي بدفع الكثير من منظمات الأنجزة كي تختطف الحراك الشعبي باتجاه تعليبه في منظمات تزعم التنمية والمجتمع المدني واكمل ذلك لاحقاً بالتعهد بتمويل سلطة الحكم الذاتي نفسها، اي تمت عملية احتواء الانتفاضة بالمال إبعاداً لها عن السياسة الجذرية والنضال وتسهيلاً للاعتراف بالكيان وتشغيلاً بالثرثرة عن دولة ومفاوضات…الخ.
وبدوره استثمر الكيان تلهف قيادة المنظمة للتسوية كي تحفظ لنفسها موقعها القيادي وتعهد الغرب الراسمالي بتمويل مشروع اوسلو فكانت مفاوضات مدريد واتفاق أوسلو ولاحقا بروتوكول باريس وكانت النتيجة إنهاء الانتفاضة كبرادايم تنموي اجتماعي وطني لاختصاره في مكسب سياسي كانت نتيجته حكما ذاتياً مديداً سياسياً وسلام راس المال اقتصاديا/اجتماعياً. وهكذا تقاطع تقليد تمول المنظمة سابقا والتمويل الأجنبي الغربي لكي يُثبتا شعار الكيان في السلام الاقتصادي والذي نسميه بناء على القاعدة السياسية لهذا السلام ب سلام راس المال وهو الذي قام على برادايم النيولبرالية التي نجاهد للتخلص من شركها، وهيهات ذلك بالذخيرة الحالية!
وبمجيىء سلطة الحكم الذاتي تم تطبيق سلام راس المال بأن أعلن التطبيع وبخاصة جانبه الاقتصادي، وفك مقاطعة منتجات العدو واعتماد اقتصاد الباب المفتوح وخاصة تجاه منتجات العدو الذي بدوره فرض حماية لاقتصاده على المنتجات الزراعية الفلسطينية المنافسة، واعتمدت وصفات المصرف الدولي.واختتمت بإنهاء الانتفاضة.
من هذه اللحظة بدأ الفرز حيث ذهبت اكثرية المثقفين (بمن فيهم الاقتصاديين إلى التسوية) فانخرط في برادايم الاقتصاد اللبرالي التابع معظم الاقتصاديين المحليين ونظرائهم الفلسطينيين في الخارج وهو البرادايم القائم على تبني السوق المفتوح والذي هو إيديولوجيا وتضخيم دور القطاع الخاص ومحاباته سواء بالمساعدات أو تقليص الضرائب، وغض الطرف عن الاختراق الاقتصادي الصهيوني عبر التعاقد من الباطن والذي ولَّد بدوره تسهيل وتشريع الاستثمار في اقتصاد الكيان وإقامة مجلس “الأعمال الإسرائيلي الفلسطيني” .
ضمن الأفق الاقتصادي للسلطة ورغم ضرورة قطاع عام لفترات “ما بعد الاستعمار- التي لم تدخلها هذه السلطة حقيقة” فإنها لم تُنشىء قطاعاً عاماً جريا منها على سياسة السوق المفتوح بل خصخصت ما كان يُفترض انه نواة لقطاع عام، ولم تخصص جزءاً يُذكر من ميزانيتها للتطوير. وبناء على التمويل بالريع فقد أنشأت قطاعاً حكومياً تكون من أجهزة عديدة علنية وسرية أمنية ومدنية ضمن ما لا يقل عن 170 ألف موظف تُدفع رواتبهم من أموال الدول الراسمالية الغربية وتوابعها العربية وهو أمر يستمر في إثارة الشكوك إلى أن نعلم أن هذه الأموال كانت ريعاً نقدياً مقابل مواقف سياسية جوهرها تمرير والحفاظ على اتفاق أوسلو بما يعنيه من الحفاظ على الكيان الصهيوني .
ومسألة تضخيم الأجهزة هي تهمة تلقيها كل حكومة على الأخرى. وآخرها حكومة د. فياض التي قيل أنها سوف تقلص الوظائف وتعتمد الشفافية، لكن شيئاً ملموساً لم يحصل. وقد يكون السبب الأساس ان هذا التوظيف لم يعتمد لا حجم الحاجة المحلية ولا الكفاءات بل التوظيف السياسي سواء للحزب الحاكم الذي حقق لنفسه العمالة الكاملة وترك البلد نسبياً للبطالة الكاملة وهذا ما حال دون القدرة على تقليص في الوظائف تاركاً مجال التقشف لفرض الضرائب.
ونظراً لعدم تركيز السلطة على قطاعات الإنتاج واعتمادها على التمويل الأجنبي كسيولة صافية كان لا بد لها من تشجيع الاستيراد كي تتمكن من تحصيل ضرائب تغطي متطلبات الأجهزة مما شكل دائرة اقتصادية جهنمية تقوم على: توظيف موسع وفائض عن الحاجة وتوفير راوتبه من الممولين وتشجيع الاستيراد لتحصيل ضرائب، أي فرض ضرائب على المال القادم من الخارج عبر الاستيراد، وإهمال قطاعات الإنتاج، وإطلاق يد تسريب الأموال إلى الخارج ناهيك عن الفساد. ماذا نسمي تلقي المال المسوم وتوظيف أكبر عدد ممكن من قوة العمل وتشجيع الواردات لتحصيل الضرائب سوى مشيخة بلا نفط لديها شيء اسمه “برلمان” لا يُسأل في شيء ولا يعترض طالما رواتبه وامتيازاته متوفرة!
كان د. فياض قد أعلن ان عام 2011 هو عام الدولة المستقلة، ليكون ذلك لو حصل ثالث إعلان استقلال ل “دولة” بمعنى ان السابقات كانت بروفات! وخلال ذلك العام أعلن الصندوق والبنك الدوليين أن النمو في مناطق السلطة وصل 8-9.5 بالمئة، وذلك في خروج على رزانتهما المعهودة “تقنياً” على الأقل. وبدخولنا عام 2012 لم نصل الدولة ودخلنا أو أدخلنا د. فياض في اشتباك أشبه ب “طوشة” عمومية. توقف الحديث عن الدولة واستكمال مؤسساتها كاستبدال لعبة جديدة للطفل بدل قديمة وبدأ الكيان بالحديث أن الفلسطينيين غير جاهزين مؤسساتياً لحمل الدولة، وشن فياض حملة على منتقدي التمول من الخارج، والقى في وجه الجميع مخططاً ضريبياً جديداً مفاده: طالما لا تريدون المال الأجنبي، فلا مخرج سوى ان تدفعوا ضرائب أعلى[4]. ولكن الاقتصاديين ذوي العلاقة ببنية السلطة يؤكدون أن الضرائب مهما زيدت لن تقدم أكثر من 6 بالمئة من الميزانية وبالتالي فالمسألة لا تستحق الاشتباك مع الناس. لكن هذه السلطة لجأت إلى التقشيط الناعم الذي يستفرد بالمواطن الفرد مما يجعل تأليف موقف جماعي امراً صعباً كفرض رسوم عالية على النقل وتسجيل الأملاك، ورسوم الكفالات…الخ هذا تكتيك النيولربالية بالاستفرد الفردي وفي النهاية استفراد بالجميع ولكن بالتقسيط. وبالتالي تحافظ حكومة تسيير الأعمال على تبعيتها للمال الأجنبي وتضع المواطن في مقلاة
ارتفاع الأسعار ودفع رسوم أعلى!
ولكن السيد فياض ليس رجلاً سهلاً، فهو يعلم أن المجتمع في المصيدة. فالسلطة التي يرأس وزارتها ترزح تحت مديونية عالية بمعنيين: من حيث حجمها ومن حيث ضعف القدرة الإنتاجية للبلد كي تسدد ذلك العجز.[5]
هذا إضافة إلى ان لا خيارات أمام السلطة سوى استمرار الاعتماد على التمويل الأجنبي مما يضعه في مركز القوي أو المتحدي. لكن حقيقة الأمر أن فياض ومن قبله منذ عام 1993 هم الذين وضعوا الاقتصاد على سكة التبعية المحكمة والتي لا تقود إلا إلى المصيدة الحالية. وعليه يكون من الطرافة بمكان أن يدعو السيد فياض اقتصاديين ورجال أعمال للنقاش حول المخرج وهو يعرف النتيجة. وبالطبع، كان يجب ان لا يشارك في النقاش كل من لم يعمل في صنع قرار السلطة أو لم يوظف فيها لأن من أدخل البلد في المأزق هو الذي عليه تحمل العبء. ولكن شارك كثيرون طمعاً في منصب أو أُعطية معينة بما هم واثقون بأن اللقاء كان تجديداً لولاية فياض ليس اكثر! ليس بهذا تُحمى الأوطان وحقوق الناس!
قد تكون الصدف هي التي تزامن فيها إعلان فياض سياسته الضريبية التقشفية من جهة وصدور دراسة عيسى سميرات عن الاستثمارات الفلسطينية في الكيان. كانت نتيجة هذا التزامن أن طغى الحديث عن الضرائب على الاستثمار الخطير هذا، مما خدم في التحليل الأخير سلام راس المال حيث جرى نقاشاً ضئيلا عن هذه الاستثمارات ليُطوى الموضوع كما طوي غيره. لا بل إن أحد وزراء الاقتصاد السابقين ومن خلفية شيوعية[6] حاول في نقاش عن الأمر في لقاء لجمعية الاقتصاديين ورجال الأعمال حاول تبهيت الأمر من باب أن “المبلغ” ليس كبيراً! لا غرابة منه، فهو ممن يدافعون عن طهارة البنك الدولي. ترتب على إهمال كل من التعاقد من الباطن والاستثمار في الكيان التظليل بل التغطية على قنوات الاستثمار التي تبدأ من راسماليين في الخليج خليجيين[7] (وخاصة سعوديين وقطريين) وفلسطينيين دخولاً إلى الضفة الغربية وصولاً إلى اقتصاد الكيان. وهذا ما أكد أن مجلس الأعمال الإسرائيلي الفلسطيني وقنوات الاستثمار هذه هي آليات اقتصاية لدمج الكيان في الوطن العربي اندماجاً مهيمناً.
ليس من قبيل التجريح القول أن د. فياض من مدرسة الصندوق الدولي، وهي المدرسة التي نشرت الكثير من عناصرها في بلدان المحيط خلال حقبة العولمة وتبني السياسات النيولبرالية. مثيل له كيم داي جونج في كوريا الجنوبية وآخر في فيتنام…الخ. وبعيداً عن شرح مطول عن هذه المدرسة يكفي القول إن الصندوق والبنك لا يعتبران الكيان احتلالاً ولا دولة معادية بل يدرجانه طرفاً في تحقيق “تنمية” في مناطق الحكم الذاتي! وبعد أن زعموا أن النمو هو -9.58% في هذه المناطق عام 2011 ها هم يطالبون السلطة بتشديد سياسة التقشف! ألا يؤكد هذا ان د. فياض من نفس المدرسة؟ ففي تقرير لصندوق النقد الدولي: ” نشر في نهاية آذار لهذا العام كجزء من تحضير للجنة التنسيق لمؤتمر سنوي خطّأ السلطة الفلسطينية من حيث فشلها في تشديد تحصيل الضرائب (اقل من 40 بالمئة من السكان يلتزمون بدفع الضرائب) كما حث على تقليص الإنفاق وعلى إصلاح هيكلي وزيادة في ضريبة الدخل”.