استلاب التموُّل واغتراب أدبيات “التنمية” (الجزء الثالث)، عادل سمارة.

5)    كتابات يُفترض أنها في التنمية

 

ليس هذا مسحاً لكل ما كُتب غثَّاً أو سميناً في الاقتصاد، لكن معظم الكتابات التي سنعالجها كل واحدة في عُجالة تشترك في الأمور التالية:

  • تنتقد سياسة د. سلام فياض النيولبرالية
  • لا تقدم بديلا جذرياً وربما لا تقدم ابداً
  • لا ترفض اتفاق مدريد-أوسلو، فالاكتفاء بالنقد يبقى معارضة داخلية لا مبدئية.
  • تتعاطى مع مفهوم التنمية باستخفاف وغموض يُجرده من معناه.
  • تنتقد المانحين/الممولين دون أن تطالب باستراتيجية رفض التمويل، وربما لأن معظمهم يعيش ” ك خبير” من هذا المصدر سواء هو فلسطيني أو أجنبي.
  • تنتقد الاحتلال ويتحدث البعض منها عن مقاومة غامضة او سلمية دون بلورة برادايم تنموي مقاوم.
  • باختصار، هم يشرحون ويكررون شرح الحالة إلى حد الملل.

هذا ناهيك عن مشتركات واختلافات أخرى فيما بينها.

ينتقد كثيرون السياسة النيولبرالية ل د. سلام فياض رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال في الحكم الذاتي دون دحض لمسألة سلطة تحت الاحتلال من جهة أو نقد لحصول انتخابات تحت الاحتلال مما يعزز زعمنا بأن هؤلاء إنما هم دُعاة العودة إلى اللبرالية من جهة ومتفقون مع الخطاب السياسي والاقتصادي اللبرالي الغربي من جهة ثانية حتى وإن عارضوه بلغة ساخنة، اي هم مع نيولربالية محسنة!. وهنا لا بد من كلمة في حق النيولربالية.

تزامن توليد النيولربالية مع تفشي مابعد الحداثة، بل سلسلة المابعديات في ثقافة وسياسة وادب المركز الراسمالي، وقد نجمعهما معاً لنقول مع حقبة العولمة، والمثير للشك والريبة أن النيولبرالية في تجسيدها للسوق تلتقي مع المحافظية الجديدة في الولايات المتحدة ومع الدين السياسي في الوطن العربي حيث توثين السوق، وكلتيهما تلتقيان وتستفيدان من تنظيرات ما بعد الحداثة التي تخدم السوق كعميل سري من مدخل تذرير المجتمعات والطبقات، تفريدها، وطعن السرديات الكبرى ليقف كل فرد في مواجهة شمولية السوق. وبهذا تلتقي المابعديات مع الماقبليات، الغيبيات وليس هناك افضل من هذا المناخ للسوق، اي لراس المال. هنا يحصل الاعتراض على السلطة، وعلى السياسة والثقافة ولكن ليس على الملكية الخاصة ولا على سيطرة السوق ولا على الفقر. وفي الوطن العربي خاصة وحتى في الأرض المحتلة، لا تُناقش قضايا الفساد والتطبيع والاعتراف بالكيان والتنمية الحقة والوحدة العربية والإشتراكية، بل قضايا كيف تضاجع المرأة من قُبلٍ أم من دُبر، وهل تنتظرها حتى تأتيها اللذة أم لا، وهل يجوز تهنئة النصارى بأعيادهم، ووجوب هدم الكنائس…الخ عرباً أو غير عرب، إنهم يقومون باستدعاء أو تجديد إيديولوجيا السوق اليد الخفية التي صاغها آدم سميث زاعماً أن السوق تحركها يداً خفية فتصوبها وتتعافى، ولم يفهم هؤلاء بعد أن هذه اليد الخفية إنما تلعب في معدة واقفية الفقراء. وعليه، لا حاجة لقراءة السوق بل الاستسلام لها وخلق تنظيرات تنسب الفقر والنجاح والفشل إلى السماء[1]، مسكينة هذه السماء كم يُرمى عليها من خطل! لقد امسكت النيولبرالية بخناق دولة الرفاه وديمقراطيتها وحقوق العمال في عملية ثلاثية من “صَغِّروا هذا Downsize This” (هذا عنوان كتاب لأمريكي نسيت اسمه). يتحدث الكتاب عن تقليص عدد العمال للحفاظ على معدل اعلى للربح، بينما نرى أن هناك ثلاثة تقزيمات: عدد العمال، حجم السلطة ومبدأ الديمقراطية. وهذا يعني تكيف الدولة مع متطلبات الطبقة البرجوازية لتصبح الدولة في خدمة الشركات الكبرى. ولا حاجة طبعاً للتوضيح اكثر أن تصغير حجم الدولة واستلاب دورها هو سرقة لموقف الأنارخية من الدولة بإلغائها فوراً ومن الماركسية بإلغاء الدولة في المرحلة الشيوعية، ولكن بالنسبة للنيولبرالية والمابعد حداثة، كان الأمر الاستفادة من الأنارخية والماركسية للاحتفاظ بدولة مدجنة وبالسوق والاستغلال. إن العرب والفلسطينيين الذين يحتفون بموت الإيديولوجيا والسرديات الكبرى إنما يتوكؤون على هذا للانفلات الفردي الذي يرفض الوعي والثقافة ويكتفي بساندويشات من الكلام ليبرر لنفسه التبعية وحتى الخيانة الوطنية والقومية والطبقية.

على أن الاتفاق أو الإجماع ضد سياسات فياض لا يعني أنه الشيطان الوحيد ولا الأول، إلا إذا أخذنا فترة حكومته مقطوعة عن سياقَيْ المنظمة منذ عام 1967 وسلطة أوسلو منذ عام 1994 وهذا الأخذ أو الاجتزاء ليس ممكناً.

إن قيام كاتب او مثقف بفصل فترة فياض أو فترة السلطة عن فترة منظمة التحرير يقوم في حقيقة الأمر بمحاولة لترقيع فترة من هذه الفترات على حساب أخرى رغم أنهن مسيرة واحدة لا يقوم بفصلها سوى مثقف يمالىء السلطة أو هو جزء منها وفي أحسن أحواله ليبرالي يحن إلى اللبرالية. والأمر نفسه عن حال من ينبري لإسداء النصح للسلطة حين مأزقها. أما المثقف الرجراج فينتقل من موقف قبول التسوية إلى موقف المطالبة بحل السلطة دون ان يقدم تفسيرا لما كان عليه ولا لما صار إليه. ولا شك أن هذه الاختلاطات ما كان لها لتكون لولا غياب النقد في الحياة الفكرية الثقافية الفلسطينية وحضور اللغو السياسي.

تمثيلاً على ملاحظاتنا اعلاه ورد في أوراق لكثيرين منهم رجا خالدي وصبحي سمور (النيولبرالية بصفتها تحرراً: الدولة الفلسطينية وإعادة تكوين الحركة الوطنية في مجلة الدراسات الفلسطينية خريف 2011) وهي دراسة بقدر ما تنقد النيولبرالية لا تخرج عن كونها تدعو للعودة إلى اللبرالية- وهذا محال- ناهيك عن أنها لم تتحدث عن إعادة تكوين الحركة الوطنية على الأقل كما يقول عنوانها.

لا يشكل إعادة تكوين الحركة الوطنية إجابة على السؤال الاقتصادي فما بالك بالتنموي! بل إن ما يمكن أن يساهم به الاقتصادي هو في مجال الاقتصاد أكثر منه في الحركة الوطنية. وفي النتيجة لا يقدم الباحثان حلا أو مخرجا او بديلا لا لهذا ولا ذاك، فقد كتبا: ” أما البديل، أي سياسة تنموية غير تقليدية (eterodox) من ضروب السياسة الاقتصادية التي همشها الخطاب النيوكلاسيكي السائد الذي يهمين عليه المسار الاقتصادي ، ومارسات مؤسسة بريتون وودز، فليس موضوع هذه المقالة. لكن يبدو أن الملكية العامة، والخدمات العامة والاستثمار العام، والرعاية الاجتماعية العامة، هي مفتاح ابتكارات السياسة في المرحلة المقبلة، وتجري حاليا إعادة ضبط الحكمة التقليدية، ليس فقط استجابة لطبيعة “السلع العامة public goods التي تتصف بها الحوكمة الاقتصادية، بل اعترافا بحقيقةأن تنوع تجارب التنمية يستدعي مجموعة متنوعة من استجابات السياسة العامة ومن الأشكال المؤسساتية ايضا. علاوة على ذلك فإن عقوداً من العلاقات الاقتصادية الفلسطينية-الإسرائيلية أظهرت أن اي استراتيجيا تنمية اقتصادية فلسطينية لن يكون في إمكانها أن تكون فاعلة إلا إذا جرى تفكيك سياسة الاحتلال الإسرائيلي القائمة على الاحتواء غير المتناظر، وذلك من خلال إنهاء الاحتلال وتحقيق السيادة والحقوق الوطنية. وبما أن هذا ليس وشيكاً، وبما أن الخطاب العام النيوليبرالي راسخ، فإنه يبدو من المنطقي الاستنتاج أن سردية السلطة الوطنية الفلسطينية لبناء الدولة “هي اللعبة الوحيدة في البلد” كما يصفها توني بلير””(ص 85). ماذا نفهم من كل هذا؟ لاشيء محدداً، بل نصيحة بالانتقائية، وتوقف عند انسداد الأفق السياسي ممثلا في سلطة الحكم الذاتي، ولاحقا النصح بمقاومة اقتصادية! كيف، بأية أدوات، أية طبقة؟ هل هي الطبقات الشعبية أم راس المال الكمبرادوري الذي أقام مجلس أعمال مشترك مع الكيان؟ ليس اسهل على اليميني من خطاب عام وجماعي وفي النهاية ضبابية لا تقود سوى إلى إعادة الندم على تجربة فاشلة. لكن وصول الكاتبين إلى المقاومة الاقتصادية و “الحقوق الوطنية” دون توضيح أنها تشمل الوطن باسره أي كل فلسطين، وهو موقف افضل من العدم، لكنه، وخاصة خالدي، لا ينقد ما كان قد استقر هو عليه تحديدا 2007!

لافت أن خالدي كان لسنوات قليلة خلت مروجاً لسياسات سلطة الحكم الذاتي بل وصل به التفاؤل إلى الدعوة لاتحاد اقتصادي بين الاقتصاد الصهيوني واقتصاد فلسطينيي 1948 واقتصادَيْ الضفة الغربية وقطاع غزة[2]. ولا يعلم المرء كيف كان يمكن تركيب هذا الاتحاد بين مجتمعين متعاديين تماماً وما هو النموذج الذي أُغري الكاتب بتقليده؟ ربما رأى أن تجربة الاتحاد الأوروبي ممكنة التطبيق في هذه الحالة بمعنى اتحاد اقتصادي بين أنظمة سياسية غير متحدة. وغني عن القول أن الاتحاد الأوروبي يعاني هذه المشكلة على الأقل على مستوى العملة. وبعيداً عن الموقف السياسي القومي في حالتنا، فما هو الاتحاد الذي يُمكن إقامته بين بنية اقتصادية متقدمة واقتصاد مبعثر في الضفة والقطاع، وكل الجغرافيا مغتصبة من الكيان؟ هل هو شيئا سوى تشريع التبعية والاحتلال وتأبيد التخلف والأهم الإقرار النهائي بأن المحتل 1948 هو أرضا للكيان الصهيوني الإشكنازي؟ بوسعنا الزعم أن هذا التفكير هو امتداد طبيعي لمشروع التسوية وتحديداً للسلام الاقتصادي الذي طرحه رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو، بل جوهريا جميع الصهاينة.

ما الذي جد وتغير حتى انتقل من تفكير السلام الاقتصادي مع الاستعمار الاستيطاني إلى المطالبة بمقاومة اقتصادية، وإن كانت لا سياسية ولا مسلحة…الخ موقفه هذا مشابه لموقف ابراهيم الدقاق الذي دعا عام 1989 إلى دولة “برّْ الشام” تضم سوريا ولبنان والأردن والضفة والقطاع والكيان الصهيوني، وموقف سري نسيبة الذي اعلنه عام 1985بأن يطلب الفلسطينيون من الكيان الصهيوني منحهم الجنسية الإسرائيلية –وهو مطلب ما زال متمسكاً به-!

أما في عام 2012 فقد ارتفع السقف السياسي ل خالدي حيث قال: ” ربما تخلت السلطة الفلسطينية عن تحديها للاحتلال مقابل وهم بحرية اقتصادية ووعد، ولكن سواء الآن أم في المستقبل، فإن التحرير الوطني لفلسطين هو معركة لا بد أن تُخاض” (مقالبة أجرتها Charlote silver نشر Electronic Intifada) . كما اضاف في نفس المقابلة: ” أنا أعتقد أن كلا من الأسباب الاقتصادية والسياسية التي يعتمدها النظام السياسي الحالي غير مستدامة. والشعب الفلسطيني سوف يتماشى مع برادايم تحسين شروط المعيشة ولكن فقط إلى الحد الذي يحول دون استبداله بالتحرر الوطني “. وقبل عامين وفي مؤتمر لمنظمة مواطن للأنجزة سخر خالدي من الكفاح المسلح! فما طبيعة التحرير الوطني الذي يدعو له اليوم! يظل هذا مبهماً هذا علاوة على أن التحرر الوطني وهو الأساس لا يغني عن وجوب النضال من أجل برادايم تنموي تحت الاحتلال وضد الاحتلال، وما نسميه الحياة مقاومة سياسيا وسلاحاً والتنمية بالحماية الشعبية اقتصاديا اجتماعياً.

ويندرج في نفس التوجه عمر برغوثي في مقالته “المقاومة كشرط أساسي للتنمية في السياق الاستعماري: حملة المقاطعة نموذجاً “، علماً بأن حملة المقاطعة تركز على المقاطعة الأكاديمية للكيان وهو أمر جيد لكنه لا يستقيم مع إغفال اشكال المقاومة الأخرى بل ينتهي ضمن خطاب الحقوق الذي تقبل به الأمم المتحدة واللبرالية الغربية بعمومها. (www.BDSmovement.net.

وبنفس التوجه كانت ورقة آدم هنية(التنمية كنضال ومقاومة: تحدي واقع القوة في فلسطين. قسم الدراسات التنموية، جامعة لندن). حيث يهاجم جيداً النيولبرالية ولكنه ينتهي إلى اعتماد التمكين وخطاب الحقوق وصياغة القوانين و”احترام دور المرأة” التي يقتبسها عن جميل هلال[3]…الخ. فأين المقاومة من هذه النصائح اللبرالية وخاصة الانحصار في إحترام المرأة دون الارتقاء إلى المطالبة بتحررها وحقها ودورها في تحرير نفسها!

 ورغم أن مقالة نييثا ناجرجان[4] ترفع مسالة المقاومة باتجاه رفض التطبيع، واعتماد السياسة وحتى بعض الجوانب الطبقية، إلا أنها كالآخرين لم تقدم نموذجاً تنموياً متكاملاً، وترتد للأخذ بالنصائح اللبرالية لكل من (ساري حنفي وليندا طبر وجميل هلال) وكل هذا يظل ضمن دائرة اعتماد سلطة الحكم الذاتي للقيام بالإصلاحات التي ينشدون!

أما ليلى فرسخ[5] فتبدأ بالاتكاء على جميل هلال وكالجميع الذين تجاهلوا كون منظمة التحرير هي الأم لسلطة الحكم الذاتي على الأقل في تلقي المال المسموم وفي قبول السلطة كمنحة، ، ولكنها تذهب لأبعد لتزعم: “إن عملية أوسلو قد قوضت المؤسسات الديمقراطية لمنظمة التحرير الفلسطينية وخلقت أجساماً جديدة المسماة السلطة الفلسطينية والمجلس التشريعي الفلسطيني التي ليس لديها التفويض ولا المنظور التمثيلي لمنظمة التحرير الفلسطينية”. لكن من قرأ أو عايش مسيرة منظمة التحرير الفلسطينية يفاجىء بما تزعمه فرسخ. فلم تكن هذه المنظمة ديمقراطية رغم كافة المزاعم[6]. يكفي التذكر أن المنظمة لم تتحول إلى جبهة وطنية واحدة أو موحدة. وحينما قررت قيادة فتح الذهاب إلى التسوية لم يتم اي استفتاء على ذلك. وربما الأمور بعكس مزاعم فرسخ وهلال، فإنه بمعيار الديمقراطية الغربية الشكلية فإن انتخابات الحكم الذاتي هي أكثر “ديمقراطية” من مسيرة منظمة التحرير.

إن هذه الهجمة اللبرالية على النيولبرالية هي اشتباك بين الأم وابنتها سينتهي بانتصار الإبنة الفتاة، شريرة نعم، ولكنها ستنتصر، تماماً كما انتصرت الولايات المتحدة على البلد الاستعماري الاستيطاني الأم بريطانيا. الأمر اللافت أن هؤلاء الكتاب/ات بمن فيهم ذوي النوايا الحسنة والمخلصة لم يتجاوزوا الخط المرسوم لسلام راس المال فانحصرت الاقتراحات وأنصاف الموديلات أو البرادايمز Paradims في نطاق الطلب من السلطة ان تقوم ب مقاومة اقتصادية دون تحديد (خالدي وسمور) أو سياسية…الخ. بل لم يتم الطلب من السلطة فك الارتباط مع الكيان De-Linking، بوضوح، فما بالك بالانسحاب إلى الداخل[7]. والطلب من السلطة أو نقدها يعني موقفاً طبقياً إلى جانب الطبقة البرجوازية الكمبرادورية بعيداً عم مصالح وضرورات الطبقات الشعبية.

6)    تلطي اليسار:

 

من جهته اصدر مركز بيسان للبحوث والإنماء عدة كتيبات حملت عناوين التنمية. ليس هذا مسحاً لما صدر عن هذا المركز وإنما مروراً على بعضها، ومنها كتاب وهم التنمية الذي ساهمت فيه مجموعة من المركز (آيلين كتاب، إياد الرياحي، فراس جابر، أميرة سلمي وحازم النملة). يتخذ الكتاب موقفاً نقدياً من السوق والنيولبرالية والتمويل الأجنبي (بعض كراريس المركز تسميها مساعدات!) لكن الكتاب لم تسعفه حسن النية ولا تكفي، لم يطرح لا خطاباً مختلفاً ولا برادايم مختلف. فمن حيث الخطاب أبقى على مصطلحات النيولبرالية والأمم المتحدة والمؤسسات المالية الدولية مثل: القطاع العام بدل الحكومي، والمساعدات بدل التمويل، وفلسطين بدل المناطق المحتلة 1967، والتنمية بدل التحديث أو الإنماء، والتنمية المستدامة والبرجوازية الوطنية بدل المحلية والتنمية كعملية تحررية كمصطلح من الأمم المتحدة؟ والاعتماد على الذات كإحدى شعارات الأمم المتحدة، اي ذات؟ السلطة، الطبقة لبرجوازية الكمبرادورية، الطبقات الشعبية؟ والحقيقة أن الإخفاق في نقد الخطاب وتجاوزه لن يساعد اساساً على اجتراء برادايم تنموي أو حتى اقتصادي. فالحديث عن “أزمة تنمية ص 10” أو “التدخلات التنموية ص 17” يفترض وجود ما لم يوجد، اي تنمية!

وفي حين لا يبلور الفريق برادايم اقتصادي خاص يزكي طرفاً يسميه الحالة الفلسطينية: “…فإن الأخيرة هي التي تحمل الفرص الوحيدة لمشروع تنموي حقيقي في المجتمع الفلسطيني”(ص 29). كيف؟ لم يُكمل! وفي حين يركز الكتاب على أن فشل النمو ليس فقط بسبب فساد السلطة بل لعوامل خارجية كذلك (ص57)، لكنه افتقد لنقد البداية، وهي أن وجود السلطة كان بعوامل خارجية الأمر الذي حفر لها مسارها في النهاية. في خاتمة بحثه يتبنى الرياحي برادايم التنمية المستدامة (ص73) وهو غائم وفضفاض وبمضمون طبقي برجوازي وسلطوي ومن تمفصلات خطاب الأمم المتحدة! ومع أنه يشير بشكل جيد إلى مخاطر “تعاون” راس المال الخاص الفلسطيني والصهيوني” لكنه لم يدفع التحليل إلى مداه ليبين خطورة تعاون المبنى الاجتماعي للتراكم بين عدوين! ربما لأنه لم يلتقط جوهر ذلك وهو سير القطاعين الخاصين هذين ضمن مشروع الكيان للسلام الاقتصادي وهو جوهر اللبرالية ولاحقا النيولبرالية، وما أسميه سلام راس المال، هذا ناهيك عن أن السلام الاقتصادي بالنسبة للكيان هو الحل وحسب، وهو ما تجلى في تشكيل مجلس الأعمال الإسرائيلي الفلسطيني. وهذا يطرح السؤال عن تنمية مستدامة لمن؟ وتنمية انعتاقية لمن، وتنمية او اقتصاد الصمود لمن، بل وبمن؟ اي طبقياً. اليس مجلس الأعمال هذا مؤسسة طبقية؟.

في مقالته من نفس الكتاب يتنقل فراس جابر بين خليط من البرادايمات غير الواضحة، اقتصاد الصمود، التنمية المقاومة ، والتنمية تحت القيود…الخ دون تقديم تعريف لأي منها في ترابطه/اختلافه عن الآخر لا طبقيا ولا إنتاجيا (وتحديدا علاقات إنتاج) ص 81 مع عرض وصفي أكثر مما هو نقدي اقتراح بنية برادايمية مختلفة. هذا ناهيك عن استخدام مصطلح برجوازية وطنية الذي هو إيديولوجيا .

تتعامل اميرة سلمي باستخفاف علمي حيث ترى ان: ” الخطاب اللبرالي الجديد يسعى لعولمة راس المال وإدخال الراسمالية إلى أكثر مناطق العالم بعدا عن المركز الرأسمالي الغربي، ومثل الدور الذي أعطي لمنظمات الأمم المتحدة …تحت مسميات إدخال التنمية (التحديث) ص 118. وقد فاتها ان رأس المال معولم بولادته وأن الراسمالية تغطي العالم منذ قرون (ناقش هذا جوندر فرانك منذ منتصف سبعينات القرن العشرين)، كما لا يمكن للتنمية أن تقارب التحديث إلى هذا الحد. وهي شأنها شأن حنفي وطبر ينقدون المصرف الدولي (ص 133) دون التقاط خطيئته الأساس وهي اختطاف وامتطاء مصطلح التنمية اصلاً. كما توافق على نقد Cole لتبني النيولبرالية للتنافس “المثال” علماً بأن الاحتكار مسح هذه الطوبى ووصل لحظة أكل نفسه . هذا ناهيك عن ميلها لاعتماد وجود نوايا طيبة لدى الأنجزة ص 158. ورغم ان الأنجزة اداة للتطبيع لم تتعاطى الكاتبة مع دورها هذا قط كما لم تمس النهج التابع للسلطة بالنقد مع ان السلطة حاملة النيولبرالية على الأقل كما ينقدها آخرون هم على يمين أميرة نفسها!

رغم وضع التنمية بين قوسين الا ان حازم النملة لم يكم حاوماً فيدفع الأمر للنقد الحامض وهو مثل سلمي يتحاشى نقد مؤسسة او مانح بعينه؟ ص 180. فيما يخص الهيمنة أُخذ النملة باطروحة كوكس عن نقل الهيمنة إلى المستوى الدولي، وهو ما ضيَّع اسس أطروحة غرامشي كمؤسس والتي تؤكد وجود الهيمنة الثانية للطبقات الشعبية لمواجهة هيمنة البرجوازية/السلطة القائمة[8]. إن قرائته لأوسلو بوصفها مجرد انزياح هو مداراة للثورة المضادة فالانزياح يحتفظ، إذا حاولنا احترام المعنى، ببعض اصوله! ص 195. وإذا كان المشروع الوطني قد انزاح إلى خانة المفعول به، فإنه ارتد إلى “فعل” متعدي على الوجود الشعبي/الوطني الفلسطين والعربي. ورغم انطباعه ب فوكو فقد فلت من النملة وجوب نقد الدمقرطة تحت الاستعمار الاستيطاني؟ كأنه أُخذ بتجربة عزمي بشارة في نقد المستعمِر نصَّاً ومساومته عملياً.

وفي حين مس حنفي وطبر العلاقة بالكيان بنعومة برجوازية صغيرة ومهذبة ولم يرفعا النقد لمواجهة التطبيع ، إلا ان النملة مرَّر لهما ذلك؟ لا يتفق النملة مع نقدي للمثقف من حيث حصول استقطابه إيديولوجيا وسياسيا ويرى أن :”الحركة اعقد من ذلك” ص 203 ولكن دون ان يقل لنا كيف؟ قد أحيل النملة إلى فوكو الذي يختم الحياة بموت السياسة، وأقصدد هنا تحديداً ان السياسي هو الحدث الأعلى والأعقد. لاحقاً عالج صبيح مسألة السياسة بشكل واعٍ.

كراس آيات حمدان، المساعدات الخارجية وتشكيل الفضاء الفلسطيني نموذجاً على الاستخدام المنفلت للمصطلحات. فتسمية مساعدات تعني حسن النوايا والعمل الخيري، وهذه بعيدة عن أن تكون هدف ممول بمن فيه راس المال الخليجي. أما الفضاء وهو مفهوم متخيَّل فتُحله محل الطبيعة التي حتى الحيز اضيق منها. ثم تختصر الحيز الى مكان ص 11 وتخلط المكان بالجغرافيا وهي الأوسع! ما حصل لفلسطين ليس تشكيل الفضاء حتى بمفهوم إعطاء الفضاء معنى اجتماعياً وأدبياً لدى بعض المابعدحداثيين، ما حصل هنا هو سحق متواصل للحيز بمعنى الجغرافيا والمجتمع والمستقبل (السحق يفيد التعدية بينما التشكيل لا يحمل نفس المعنى كما لا يُظهر أن التشكيل بعامل خارجي عدواني) او الجغرافيا والتاريخ بما هو جدلية الزمان والمكان لدى ماركس أولاً. فالأدق من الحيز هو الطبيعة التي تشمل كل شيء والإنسان هو الذي يعطي للطبيعة معنى كمكان بما هو اي الإنسان هو الزمان معبرا عن حضوره بنمط الإنتاج. ما حصل هو سحق للحيز الفلسطيني تكراراً.

أما في بنية الكراس فتفلت يدها بحرية كوصف التسوية ب “السلام” وإعلاء نصوص الأمم المتحدة إلى “أممية”، و “الحيز المكاني الفلسطيني” اي رفع المكان إلى الحيز!، و “التنمية الراسمالية” وما العلاقة بين الراسمالية والتنمية؟ و “الاغتراب منتج إمبريالي” بينما الاغتراب منتج راسمالي اصلاً ناهيك عن اتساعه لما قبلها، و “محاولة ربط الاقتصاد الفلسطيني باقتصاد السوق” وهو مرتبط منذ العثمانية، و ” فشل سياسة الممولين لتحقيق التنمية” وهل لديهم هذا الهدف؟ في ورشة لمناقشة هذا الكراس قدم المشاركون عديدا من الملاحظات، رفضتها الباحثة جميعها!

كراس لورا عدوان، زراعة في مواجهة الاقتلاع، كنت أتوقع منه مناقشة المسالة الزراعية خاصة نمط الإنتاج واشكال الإنتاج.

إن نقداً لوجوب الصرف في منظمات هو ما قام به صبيح صبيح، مقاتلو التنميةك بين خرافة التطبيق وعقائدية الخطاب والتصوير الصادر عن نفس المركز، حيث احتوى على نقد علمي متوازن ينقض مختلف المصطلحات الواردة في الكراسات الأخرى وخاصة المصطلح المعياري الغربي المطبق في الأرض المحتلة 1967 وكذلك الخطاب الإيديولوجي. ويؤكد صبيح على تهافت الزعم بأولوية المالي في العملية التنموية.

بينما يتكىء الكثيرون على تصويب بعض الممارسات في العملية الاقتصادية يرى صبيح ان المطلوب تغيير المنظومة كمنظور عام ودخولا في التفاصيل يرفض إعطاء المال أولوية في إنجاح السياسات الاقتصادية، ويفند فخ المهننة كملاذ لتغطية السياسات المختلة بنيويا وهدفا ناهيك عن أن المهننة هي تصفية للجان الشعبية وبين هذين يكمن الفارق بين التمويل والتنمية، كما ينقد محاولات إقصاء السياسة من قبل الأنجزة، بينما يقلل النملة من أهمية السياسة وهو التقليل الذي قاد إلى أنجزة الأحزاب السياسية! صبيح، ومن خارج منظمات الأنجزة، ينقد علاقة الممول بالمتلقي سواء نفاق وخبث الأول وفهلوة الثاني. نقد السوق الحر واقتصاد المشاريع الصغيرة

يركز صبيح نقده للفياضية التي تساوي وصفات البنك والصندوق الدوليين وينقد: ” الحكم الرشيد والكفاءة والعقلانية” لأنه يكتشف ورائها فسادا. ويختم بنقد خطاب المانحين ليعرض لنا حقيقة أن ما آلت إليه كل هذه التمويلات (مالا وخطاباً) أنها لم تهتم بحقيقة أن كل شيء تحت الاحتلال. وسؤالنا هو: وهل هدفها غير هذا؟

لقام صبيح بقتل مقاتلي التنمية، وهكذا لم يقع في صحراء التيه التنموي، ولكنه أوقفنا هناك دون طرح خطوطاً عامة لما بعد وابعد من القائم الذي نقده برصانة. ربما لأن كراساً لا يمكن أن يحوي كل شيء.

قد تكون مشكلة بيسان خارج الأفراد، واوسع منهم، اي في غياب منظور نظري فكري واضح في مسألة الاقتصاد والمجتمع، أو حتى ربما الطبيعة والمجتمع والفكر. وحين يغيب المنظور هذا، يصبح كل باحث متحرراً في ما يعالج وما يصل إليه. صحيح أن المركز نقدي ضد الاحتلال والسلطة وحتى السوق، ولكن كل هذا لا يستقيم بعيدا عن مسائل ثلاث:

  • خلفية فكرية نظرية ذات خطوط واضحة وليس مجرد نوايا يسارية، بل إن البعض من الباحثين ليس يسارياً اصلاً
  • وبرادايم اقتصادي تنموي بمضمون طبقي بالضرورة.
  • والتورط في نوايا يسارية وتموُّل مأنجز!

وربما كان وراء هذه الاختلالات الثلاثة “حرية” كل كاتب/ة كما يريد وهو الأمر الذي ربما، اقول ربما قاد إلى أن لا أحد كان يقرأ ويدقق مفاهيميا على الأقل ما يكتبه الآخر. إن حالة من هذا الطراز لا تُؤتي الثمار التي نحب أن ينتجها مركز يساري مثل بيسان.