محمد الأسعد
العالمُ يتغير من حولنا؛ يصعد الشرقُ مرة أخرى، ويبدأ غروبُ الغرب، ليس لأن الرياحَ التاريخية تهبُّ من الشرق نحو الغرب دائما، كما قال المؤرخ الفرنسي “فردينان بروديل”، وأن من الحماقة معاكسة اتجاه الشمس كما فعلَ ذو الدرع الغربي فقط، بل لأن صعودَ الشرق أصبح الآن ملموساً وحتمياً، إلى درجة أن موظفاً صينياً رفيعَ المستوى لم يجد ما يطلبهُ من الأمريكيين سوى أن يجعلوا انحدارهم بطيئاً كما روى الأمريكي “زبغنيو بريزنسكي”، متحسراً، منذ وقت قريب جداً.
الحكيمُ الصيني والنفعي الأمريكي يتواجهان الآن، أي تتواجه فلسفة ترى في حركة التكوين تناوبا وتكاملا بين عنصري العتمة والضوء تستغرق وقتا حتى تصل إلى ذروتها، وفلسفة ترى كل شيء في الكون فرصاً تُنتهز وغنائم تُنتهب بأسرع وقت ممكن. وتنضم إلى حكمة الصيني فلسفة ما تدعى عادة “النفس الروسية” التي تمتلك طاقة روحية فذة وخارقة.
يذكرني هذا الوضع التاريخي، ولكن بشكل مقلوب، بما سبق الحرب العالمية الأولى من نذرٍ أشارت إلى صعودِ الغرب وانحدارِ الشرق، فالتحق بفيالق الغرب من التحق، من بلادنا بخاصة، ظناً منهم أن قدوم هذا الغرب فرصة صيد لهم، ففازوا فعلا بغنائم من نوع ما حين تعلقوا بأذيال “وايزمن” و”لورنس” و “سان جون فلبي” و “جرترود بل”، وعملوا عندهم طباخين وقصاصي أثر وسقاة وحطابين، كما فاز غيرهم في بعض أصقاع آسيا وشواطئ المحيط الهندي وعملوا راقصين وعبيدا في مسارحهم ومزارعهم ومناجمهم.
ومع أن هذه الصورة النمطية تلاشت من أدمغة شعوب عديدة، في الهند والصين وفيتنام وفي وسط آسيا، بعد حروب تحرير وطنية مشرفة، إلا أنها رسخت رسوخا عجيبا في أدمغة قصاصي الأثر الذين ظلت صور المضارب التي يزورها أمثال فلبي ولورنس ويحتسون القهوة فيها، راسخة في أذهانهم حتى مع قدوم الحمران الذين بنوا لهم مساكن وقاعات من الإسمنت والرخام وزينوها بالثريات المذهبة. ورسخت معها صورة الانكليزي الكلي القدرة، ثم الأمريكي فالصهيوني على التوالي حتى اليوم.
ولكن هذا اليوم لم يعد هو ذات الأمس الغابر، فالميزان الدولي لم يعد يميل لصالح الغرب إلا في الأذهان السجينة في صور ما قبل الحرب العالمية الأولى؛ صورة الغرب القادم الكلي القدرة الذي لم تكن الغنائم ممكنة إلا بالالتحاق بخدمته. وحتى حين بدا للوهلة الأولى، قبل عقدين، أن هذا الغرب وجد فرصته وبدأ يكرر غزوات القرن التاسع عشر، لم تكن هذه الفرصة إلا نبضة وحش تهشمت مخالبه في أكثر من ميدان عسكري واقتصادي وثقافي، فعاد إلى الانكفاء، وبدأ خبراؤه يتحدثون مشفقين عن نهاية العصر الأمريكي (رتشارد هاس 2006) وعن صورة عالم ما بعد أمريكا (بريزنسكي 2012).
صحيح أن انحطاط الغرب ولد كفكرة في ذهن الألماني “أوزفالد شبنغلر” مبكراً في أوائل القرن العشرين، ولأسباب فلسفية وروحية قامت على مقارنة حضارات متنوعة ولفترات تاريخية طويلة، إلا أن هذا الانحطاط في جوهره عنصرٌ ملازمٌ للنظام الرأسمالي المتوحش رغم تقلباته بين دورات التدهور والانتعاش؛ إنه نظام يتركز جوهره في شن الحروب، ذلك الجزء التكاملي من هذا النظام. وتفسير هذا ليس صعباً؛ تحت قانون حافز الربح الحديدي، سيكون هذا النظام مدفوعا دائما بشهوة معتمة إلى البحث عن الموارد الطبيعية والأسواق وراء حدود دوله، وإلى التنافس على الهيمنة على هذه الموارد والأسواق.
هذا الإلحاح هو الذي يقف الآن وراء مقامرات الغرب في سبيل الموارد والأسواق التي يغطيها بذرائع كاريكاتيرية مضحكة مثل “الديمقراطية” و “حقوق الإنسان” و”اضطهاد النساء” .. وما إلى ذلك من ذرائع، لا يأخذ بها ويروّجها إلا كلّ صحافي أبله أو سمسار محتال أو منتجع كلأ وماء يتلبس لبوس رجل دين أو ثقافة أو أدب.
في هذا العالم الذي يتغير الآن، وفي ضوء حرب دول الغرب على الوطن السوري، وعلى جبهة المقاومة العريضة بالأحرى، هنالك علامات دالة تشهد على انقلاب الميزان الدولي، وظهور صور جديدة تعاكس الصور النمطية المعششة في أذهان كلاب الصيد وحدها، وخاصة تلك التي ورثت صور الحرب العالمية الأولى ولا زالت تعيش في وهم أنها صور خالدة، وتتصرف وكأن الغرب الغارق في عجزه وأوهام ماضيه الاستعماري قادمٌ لا محالة، فتتعلق بأذيال جواسيسه وسفرائه كما فعلت في الماضي، وتركض أمامه وراء طرائده.
الأولى، أن روسيا الاتحادية، وبتعبير مندوبها في الأمم المتحدة ، فيتالي تشوركين، ترى ان الهجوم القائم هو على موقع سوريا الجيو/سياسي، وليس من الدقة في شيء القول انه بسبب أمور داخلية، مع ما يحمله هذا التفسير من تحذير من التمادي في اللعب على شاطئ البحر الأبيض المتوسط.
الثانية، أن الصين التي تتحرك في المحيط الهادئ وعلى شاطئ المتوسط، تؤمن، ووفق فلسفة ترابط الظواهر الكونية، أن ما يحدث في هذا المكان من الشرق يمس أمنها القومي مساساً مباشرا. أي أن رفيف أجنحة فراشة فوق هضاب التبت يمكن ان يثير عاصفة في الكاريبي والعكس صحيح.
الثالثة، أن جبهة المقاومة العريضة لم تتماسك استراتيجيا من دون سبب جوهري؛ إن ترابط مصائر سكان الشرق قانون طبيعي يتجاوز الأزمان والمذاهب والأعراق.
وتحضرني هنا صورة الرد الشرقي على هجمات “الفرنجة” التي يسميها الغرب تضليلا “الحروب الصليبية”. في ذلك الرد تجمعت أصابع اليد الواحدة (الجغرافية/السياسية)، تجمع العربي والكردي والفارسي والتركي والأرمني وضربوا بقبضة واحدة. تماما كما وصف خزافٌ ياباني يوماً أحوال اليابان في مواجهة الغزو المغولي لبلاده؛ نحن متفرقون كما أصابع اليد، ولكن حين يواجهنا خطر خارجي تتماسك الأصابع وتكوّن قبضة واحدة.
صحيح كانت هناك كلاب صيد، مثلما يوجد الآن ، تصورت إنها ستغنم شيئا من طرائد الفرنجة، فشاركت في حروبهم، تارة باغتيال قادة مقاومة، وتارة بالهجوم على المدن، وتارة بتسميم الآبار، إلا أن الرؤية الأبعد، رؤية الغابة كلها، لا الأشجار والأغصان، ورؤية الطريق التاريخي الذي يقود إلى الغابة، هي التي يمتاز بها رجال الدول لا كلاب الصيد، تلك المخلوقات التي هي الآن أسيرة صورها النمطية، صور تتحكم بسلوكها وعوائها عبر شاشاتها الفضائية ومنتدياتها وصفحات صحفها.