أحمد حسين: إلى د. عادل سمارة: المصطلح 2.

أحمد حسين: إلى د. عادل سمارة: المصطلح 2.

أخي عادل: لو ظننت أن لدى ما أقوله لك لبدوت وكأنني أخاطب نفسي. كنت أفتش عن قمر الذات القومية في منطقة المحاق وأنا أعرف أنني لن أجد شيئا. كان علي أن أتجاهل لأعيش. رأيت الكثيرين يدركون ذلك ويفعلونه. ولكن كلا منا كان يتجاهل مأساته الفلسطينية والقومية على طريقته. بعضهم استشهد منتحرا ووفى دينه بالرفض وحده ومات منتصرا بالوفاء. وبعضهم لم يستطع إتقان التجاهل فمات قهرا في سريره. والبعض اختار أن يحرث في البحر ويتجاهل أنه يتجاهل. فعاشوا الحب والمعاناة والرفض، واختاروا حضورهم الكامل على تجربة المصير المريرة، يخترعون الأمل لنفي الآخر، ويقتحمون جدران الواقع الصلدة بعناد الأطفال، ليحرموه لذة الإنتصار. والأكثرون استدخلوا “قدر الهزيمة ” بسلاسة الإيمان. فقد أخبرهم الفقهاء بحتميتها، وسردوا لهم فصولها مسبقا وكأنها عمل مسرحي. ترى هل كانت كذلك حقا؟ أصرّ على ذلك !

نحن يا أخي لبس لنا مصطلح واضح في علم الإجتماع. نحن انتماء هامشي إلى وجود الآخر. مفارقة مذهلة للهوية تشبه في عبثيتها نقل الماء في جرة مثقوبه. لا نستطيع تغيير الجرة المثقوبة لأن المؤلف يرفض ذلك. كل المسرحية مبنية على العبث الذي توفره المفارقة. لا يمكن فصل الثقب عن الجرة أو الجرة عن الثقب ليتحقق العبث لذي قصده المؤلف، وهو استمرار المسرحية بمشهدها الوحيد حتى انفصال التاريخ واستمرار العبث.

ولكن من هو المؤلف؟ لقد اكتشفه الكثيرون ولكنهم لم يستطيعوا سد الثقب ولا إيصال الماء، وأظنني واحدا منهم. ولكنني أواصل حمل جرتي المثقوبة وعدم إيصال الماء. أتدري لماذا؟ لأنه خطر ببالي شيء. ماذا لو انخفضت الحرارة في الصحراء فجأة إلى درجة الإنجماد وتجمد الماء في الجرة؟ ستنكسر الجرة ويبقى الماء وينتهي العبث.

هذا حلم سببه سوريا وإيران. كلا هما يرفض المسرحية والمؤلف. إذا انتصرت سوريا انتصارا كاملا على المسلحين، ورفضت أية تسوية بتدخل أي طرف دولي داعم لها، واعتبرت الإخوان مجرد خونة تاريخيين شعوبيين، ورفضت اعتبارهم مسلمين أو عربا أو سوريين بأي شكل من الأشكال، خرجنا من ورطة العبث، وقدمنا للعالم مرة أخرى عروس الحضارات العربية بكبرياء المعلم. وإذا حدث أقل من هذا، فستبقى الجرة مثقوبة، ويجلس غيرنا في مقاعد انتظار المعجزة.

المقال اللاحق يمثل لك وجهة نظري الشخصية، ولكنه صورة عن التزامنا المشترك الذي لم يتغير أبدا.

 

المصطلح 2

الصهيومريكية تمسك العالم من خناقه الآن. وهو غير قادر على الدفاع عن نفسه، ولن يكون قادرا على ذلك، ما دامت الشعوب، وخاصة افتراضيي الثقافة في المقدمة، أكثر انتباها لمقولات مصطلح الغريزة الذي يقدمه الإعلام الصهيومريكي، من إصغائها لهمسات الوعي المطارد. ولمقولات الديموقراطية،أي الإستبداد المنظم، من مقولة الحرية، ومصطلحها في العدالة الإجتماعية كضرورة وجود إنساني. الرابط اللاواعي بين هذه الشعوب اليوم، هو التردد والحيرة أمام انقلاب نخبة القوة العالمية الإمبريالية، على التاريخ وخاصيات البشر الإجتماعيين التطورية، وأمام الخوف من ممارسة وعي التجربة العلمي، لأنه غير مضمون العواقب، أمام مشاهد القوة العصية على التصور، على أرض الواقع. لذلك فالقضية لم تعد قضية مصداقية أو وعي. إنها قضية لمحاولة النجاة في طوفان الفوضى البناءة، الذي يقول صراحة،أن الأستبداد المنظم هو الحل الطبيعي الأمثل لظاهرة المجتمع وصراعاتها المدمرة. العدالة ليست جزءا من طبيعة الوجود، والرهان المنطقي هو على توجيه طاقات الصراع وليس حسمها، لأنها محسومة سلفا بالقانون الطبيعي على أساس البقاء للأفضل. وأقصى ما يمكن محاولته عمليا للخروج من دموية وعنف الصراع، هو نظام عالمي يعترف بحتمية سيادة النخب وتراتبها. وبلغة الواقع الممكن عمليا: استبدال وعي المساواة المستحيل ومصطلحاته العبثية، لدى البشر بالتسليم ديموقراطيا باستبداد النخبة، الذي يستطيع فيه الفرد أن يحقق من الحرية بقدر ما تحققه له ملكاته النخبوية الفردية، ومدخراته من القوة. الحرية = القوة، والتراتب النخبوي = العدالة الطبيعية. أي أن قانون العلاقة الوجودية هي العبودية التي يتشكل فيها المصير العادل، لأن كل مستعبد ( بفتح الباء ) لديه الفرصة أن يصبح مستعبدا بكسر الباء بمدى قوته ونخبويته. هذه النخبة التي تملك القدرة على فرض “الحل” هي الصهيومريكية. هكذا تكلم زرادشت !

والمشروع الصهيومريكي لن يقف عند حد. إنه قرار مصيري معبأ وجدانيا وملحميا على مستوى وجود الذات ووجود الآخر العالمي. لا تستهينوا بهذا الكلام ! هناك أكثر من دليل قدمته الصهيومريكية على جنون العظمة الذي يستهين بأي مستحيل. ألمجنون فقط هو الذي يستبيح كل شيء بأي شيء. وقد أثبتت النخبة الصهيومريكية أنها محافظة (غيبية) وجديدة ( متجاوزة لوعي التاريخ ) ووقفت خارج بشريتها النسبية، أو نسبيتها البشرية، تقلد المطلق وتعتبره نوعا من القوة والتحلل والإقدام والمعرفة، وقررت أن تعيد ترتيب الوجود. ويبدو أن تلك النخبة العبقرية قد قطعت شوطا لا شك فيه في السيطرة على وعي العصر بواسطة التنويم التكنولوجي للبشر المغتصبين. فما زال معظم الناس يعاملون الظاهرة الصهيومريكية على أنها مجرد حلقة في سلسلة الطغيان المعتاد تاريخيا. معظمهم لم يدرك بعد أنه أمام طغيان نوعي يطالب البشر باستمراء العبودية له. والدليل على هذا، أن كل ما ما تضمنه السلوك الصهيومريكي من استهانة بموروث الحضارة البشرية، وعبثه بالعقل والوجدان الإنساني، وكل الدماء التي أسالها ويسيلها مجانا، والدمار الجذري الذي ألحقه ببعض الدول بما في ذلك إزالتها عمليا من الوجود، وبشاعة آلياته ودوافعه المستعملة، لم يكن كافيا لإقناع وعي الشعوب والدول، أن محاربة الصهيومريكية أقل خطرا عليهم بكثير من الإستسلام لمشروعها. وحتى على فرض أن هذا الوعي كان قائما في حدود معينة، إلا أنه لم يكن مؤهلا حسب ظروفه الموضوعية، للتحول إلى حراك تعبوي شعبي، يحقق ظهوره كمصطلح نقيض، له أدواته وأهدافه. أصبح اقتراح الفوضى البناءة اقتراحا أشد جاذبية من المواجهة مع أصحابه. إذ لن يكون هناك ظواهر طبقية متجذرة تفرض هيمنتها التراثية عليهم، بل سيتم تسييل المجتمع لإعطاء الفرصة للنخب وليس للطبقات. أي فتح ابواب الصعود أمام النخب الفقيرة بنفس المدى. وقوبلت هذه الثرثرة، تحت طائلة الخوف واليأس والبلبلة، بهلوسة موازية من جانب الكثيرين، حول أحلام الفهلوة، وفرص اليانصيب النخبوي التي أصبحت متاحة للجميع، وشكلت تعويضا ملائما عن أي حلم وعيوي قديم ومجهول النتائج مثل العدالة والمساواة وتوزيع الثروة.

ولكن للنخبوية جدلها أيضا على الصعيد الدولى. وقد استسلمت أوروبا للتبعية النخبوية في معادلة المشروع الصهبومريكي، ولكن كل محاولات التقرب الروسية والصينية للإلتحاق النخبوي بالمشروع قوبلت بالرفض القاطع. كانا بلدين قيد التصفية كقوى اقتصادية منافسة في السوق العالمية، وليس قيد التتويج كشركاء نخبويين تابعين. كان على روسيا أن تصل أولا درجة من الضعف والتجزئة تبيح معاملتها كدولة مشاعية منتهكة مثل العالم الهجري، أما دولة يأجوج ومأجوج، فهي خطر وجودي ديموغرافي وحضاري يجب أن يبقى تحت مظلة الحل النهائي. ولكن عقل الرقى السينمائية الصهيومريكي، لم يستطع استيعاب أن تجربة روسيا الحضارية، بموروثها التحرري المعاصر، وملاحمها النضالية في الدفاع عن هويتها ووطنها، يجعلها عصية على مثل هذا الكهنوت المكون من السخف الخالص وجنون العظمة. وأن الصين كإحدى حضارات العالم الرئيسية، بأوقيانوسها البشري الهائل، وإنتاجيتهم العظيمة، أصبحت دولة عصية على التبعية لأي كان. صحيح أن الشباب الروسي قد فقد السيطرة على نفسه في مرحلة ما، فاعتقد أن الرفاه والجنس والهامبوغر ألذ من الحرية، والوفرة الموعودة ألذ من الإكتفاء، إلا أنه سرعان ما فهم اللعبة وأنهم الشباب هم الشريحة المستهدفة أولا، وأن روسيا هي المستهدفة بالخراب أخيرا. ولعل هذا الشباب هو الذي كان وراء نهضة التحرر القومي في روسيا ( ما زال زيغانوف يحرم النهضة القومية على العرب)، والتي أتت ببوتين وميدفيدف إلى قيادة التحرر الروسي وربما العالمي، بعد أن نجحا في تجاوز العزلة المفروضة على الدور الروسي ( ولكن وعي زيغانوف ما زال عاجزا عن تقبل اللحاق بدوره الموضوعي في مرحلة مواجهة الشر العالمي ).

مع تبلور الدور الروسي في الإنحياز إلى نوع من السياسة المبدئية، يمكن القول أن الوعي المشرد بضغط آليات الكارثة الصهيومريكية، بدأ بالتململ بحذر. لم تنجرّ روسيا إلى سياستها الحالية من منطلق أيديولوجي، فالأيدبولوجيا أصلا ليست جزءا من جدل المرحلة المارقة، ولكن من منطلق استراتيجي مرحلي يعي أن مصلحة روسيا القومية هي في الإصطفاف إلى جانب شعوب العالم التي حولت الصهيومريكية بلادها إلى مشاعات، وحكامها إلى قردة، ودماءها إلى خامات سياسية، وعقلها إلى مادة إعلامية مبتذلة. كانت مقتنعة لأن استهدافها المباشر من جانب الصهيومريكية هي مسألة وقت، وهذا بالذات هو ما يجعل من روسيا والصين قيادة عالمية عفوية ومنطقية في هذه المرحلة، لأنها تخوض حربها القومية من ذات الساحة والموقع التاريخي للخطر الذي تتعرض له كل شعوب العالم. تدافع عن بلادها من ذات المنطلق الذي تدافع فيه عن سوريا الآن، وعن شعوب ودول العالم الأخرى التي أصبحت تكون معا بالإستهداف الصهيومريكي معسكرا واحدا للمصلحة. إن السياسة الإستراتيجية القومية لروسيا، لم تكن بحاجة للديبلوماسية للبحث عن حلفاء استراتيجيين بين دول وشعوب العالم، فقد كان هناك ساحة مبدئية ومنطقية موحدة بالموضوعية التلقائية لكل أعداء المشروع الصهيومريكي، هي ساحة الدفاع عن النفس. والبعد المبدئي لهذه السياسة المشتركة يتمثل في الإستدعاءات الموضوعية للتدخل الملح والمباشر على المستوى الشعبي. فالمهدد وطنيا وقوميا وحضاريا ليس النخب القيادية لتلك الشعوب، وإنما وجودية الشعب المعني ذاته. والقيادة الروسية والصينية في موقفها الآن لا تخوض مغامرة إمبراطورية، ولكنها في موقف الدفاع المسؤول مع شعبها عن المستقبل أمام خطر محقق يتهدد العالم الذي تشكلان نخبته المواحهة. هذ الهم الشعبي والتاريخي هو الذي يجمهعما بشعبيهما وبشعوب العالم الأخرى، وهو أقوى مرحليا من أية إيديولوجيا موحدة بالقطع. فأي فهم حقيقي لأبعاد المشروع الصهيومريكي، يفرض التصدي له على كل الشعوب والدول المهددة به بدون استثناء، كاستراتيجية عالمية موحدة للممانعة والردع. هذه الإستراتيجية يفترض أن تفرض نفسها الآن، على كل النخب، ليس السياسية فقط، وإنما على قواعد الوعي الثقافي والشعبي بتمامها، وتطالبها بالتصدى لقيادة شعوبها في المواجهة لضمان سلامة مصطلحات الوجود الأساسية للشعوب، أمام زحف الشر العالمي الذي يجرم ويحرم كل المصطلحات الحضارية والإنسانية ليس إيديولوجيا، وإنما استقواء هذيانيا لا يصمد في التجربة أو النظرية، يهدد كل شكل من أشكال الحرية والوعي. فهو لا يقدم نفسه ومشروعه الشري كوعي مقترح للعقل، وإنما كإحلال بالقوة لوعيه الخاص الذي يريد تهيئة كل الآخرين لتقبل استبداده النخبوي، وإقامة عصر العبودية الشامل على أساس الفوضى البناءة وديموقراطية الإستعباد. ولا حاجة للأيديولوجيا حينما يهاجم وحش دموي قرىة هادئة. فليس هنك مكان للسجال أو التداول. والخيار عندها نحيا معا أو لا نحيا. ومع أن الفيلم الأمريكي يأتي بالبطل النخبوي لينقذ القرية، وهو عادة أمريكي ذي قوة أسطورية سوبرمانية، إلا أن الشعب الذي يعتمد في حماية نفسه على البطل النخبوي الخارق هو شعب في حضيض الإستعباد.

وتوفر القيادة الدولية للتصدي لمشروع العبودية لا تكفي وحدها. القيادة والمشروع والعبودية والحرية كلها مصطلحات توفر الإجماع للقيادة، والإلتزام لمشروع الحرية أو الإستبداد، ولكن لا بد من تسمية مصطلح ميداني مركزي، يدحض ويقاوم ويعبيء ويشجب المشروع المتوحش، ليحقق الإلتزام المشترك ويجمع حوله كل أصحاب المصلحة، ويعيد المخدوعين إلى صوابهم. هذا الشرط متوفر استبنائيا لمشروع الإستعباد العالمي. له مصطلحه المركزي ومصطلحاته الفرعية وآلياته وادواته ومصادر قوته ونقاط ضعفه. له مصطلحه المركزي الذي يسميه الفوضى البناءة، أي الجريمة الإستبنائية، مستلهما الجنون النيتشوي. وله آلياته الإعلامية، وحيله السيكيولوجية، وتهييجاته الغريزية، وأدواته من العدميين الإجتماعيين في كل المجالات. له جيش كامل العدة والعدد يجمع في مواصفاته بين الوسيلة والهدف في بنية واحدة، هي وحدة القيمة والغاية. القيم هي الغرائز، والهدف هو الإستفادة من القوة الذاتية في ارتكاب عالم النخبة المستبدة. هكذا تكلم زرادشت ( أي نيتشة ). فهل هناك مندوحة موضوعية عن تحويل السياسة المبدئية لأسوياء العالم وشعوبه المهددة، إلى مشروع مواجهة ميدانية مع هذا المشروع الجهنمي؟ ليس هناك حاجة لاستبناء مصطلح مركزي جديد للمشروع، فالدفاع عن المصطلح القائم بحدود معينة حتى لدى أشباه البشرهو الهدف. هذا المصطلح يضم كل ما يجعل الإنسان إنسانا. يعني أن التجارب الحضارية رغم نقائصها الإستبدادية الكثيرة استطاعت أن تقترب بالإنسان إلى آفاق أكثر حرية ووعيا وتميزا وإحساسا بالأهمية. واقتربت به أيضا إلى آفاق أكثر سموا استطاع التحليق فيها والبحث عن مناخات إنسانية أكثر سعادة ووداعة وإحساسا بالآخر. وكل ما هو مطروح الآن في المواجهة، هو حفاظ الإنسان على مكتسباته هذه من خطر إعادة تهميج البشر. ولا يمكن حتى تصور أن مشروع نقض كهذا يحتاج إلى أكثر من بلورة مصطلحاته المذكورة، في لغة موحدة ومكافئة للخطر، توضع في التداول العالمي لثقافة مشروع التصدي. تؤكد على عنصر الجريمة والجنون في المشروع الصهيومريكي، وتطالب العقل والوعي بتطوير ثقافة عالمية مشتركة، من مصطلحات الشجب والإدانة لمشروع الإستبداد، ومن أدبيات التعبئة المعادية له. هذه هي ساحة الصراع الأولى مع المشروع الصهيومريكي، لأنه قبل كل شيء حرب على الوعي. هذه الحرب هي التي ستحسم الصراع، وتستقطب فضاءات وعي ومراكز قوة شعبية منظمة في كل مكان، تؤدي دورها في تنظيف بيئتها الوطنية، من مراكز وأوكار المشروع الهمجي. إن الضغط من أجل شوارع وحارات ومدن وقرى ودول أكثر نظافة، سياسيا وثقافيا، من عملاء ومجندي مشروع الصهيومريكية هو الذي سيلغي المشروع عمليا. الضغط الشعبي المنظم، هو فقط الذي سيستطيع فرض النظافة على الأنظمة السياسية، وفرض مصطلحات الوعي التاريخي على ساحة الثقافة والإلتزام الفردية والجماهيرية. أما إذا بقيت ظواهر العدمية والفردية التي فرخها فيروس الفوضى البناءة في أوصال الحياة الإجتماعية والثقافية، هي التي تحرك السلوك الفردي والجماعي، فلن تكون الصهيومريكية بحاجة إلى أكثر من مواصلة الضغط على الأزرار، لتصل إلى هدفها الأخير. وعلى سبيل المثال لو كانت الحالة الشعبية والثقافة الوعيوية في سوريا كما في هي مصر أو تونس أو ليبيا، لما استطاعت الصمود حتى الآن فى مواجهة “الربيع العربي ” ووحوشه الدولية والمحلية.

إذن ما الذي يمنع روسيا والصين ودول الممانعة المتحالفة معها من إطلاق مشروع الضرورة الخاص بها، كمشروع مواجهة يحتم الشمول، له حضوره الميداني على المستوى الإعلامي التعبوي المواجه والموحد ضمن إمكاناتها المتاحة؟ حاليا نلمح إن الموقف التناحري، قائم كمبدأ وحيد في العلاقة من جانب الطرف الصهيومريكي فقط، الذي اعتاد أن يقدم مصطلحه الإستقوائي للآخرين لا أن يناقشه معهم. وأن مشروع الطرف المقابل هو موقف سياسي مبدئي نقدي، موجه ديبلوماسيا إلى إشكاليات جزئية مع المشروع الصهيومريكي، ويسهم في إخفاء فداحته المصيرية على العالم. لا يمكن فكفكة أي وضع من الأوضاع بدون تفكيك مسبق لبنيته يحدد كيفيات المواجهة معه. إن أمام روسبا والصين مسؤولية قيادية وفرصة سانحة تاريخيتين، للإفصاح عن هوية موقفهما كمشروع مواجهة مع المشروع الصهيومريكي ليس على مستوى الرفض السياسي لأحادية الهيمنة. فهذا إشكال خلافي له بعد كمي فقط كصراع بين قوتين من نوع واحد. إحداهما تصر على امتلاك العالم، والثانية تريد اقتسام النفوذ معها. وهذا الزعم ليس صحيحا من ناحبة، والمتضرر الوحيد منه هو روسيا والصين وحدهما من ناحية ثانية، وبدون مبرر منطقي على الإطلاق. نقول، بدون مبرر، لأن تردد الدولتين في استغلال تميزهما النوعي المؤكد موضوعيا في المواجه

وعلى سبيل التوضيح فإن التنصل المجاني المتبع دوليا من القيم، بمثل هذا التحلل والعنف الفكري، أصبح يثير الفزع لدي كثير من الثقافات الشعبوية في العالم. هذه الثقافات العزلاء والقلقة هي التي كانت بإنسانويتها الأصلانية العريقة، توفر بعض الطمأنينة الوهمية لإنسانها المكشوف لبراغماتية الجريمة الغربية الصهيومريكية. وروسيا والصين وغيرهما من دول التمسك الحضاري كالهند مثلا تعتبر وبحق، ملاذا من الناحية النظرية لكل هذه الشعوب في التهديد الهمجي المفزع المفروضعلى مستقبلها. فالدول المذكورة هي في ثقافة الذكرة القريبة واليعيدة للبشر، دول احتلت مواقع التراث البشري الأسمى في التجربة الحضارية. وفي الذاكرة الأبعد هي حضارة عظيمة لم تشارك في الحروب إلا دفاعا عن النفس. لم تغز العالم امبراطوريا مرة واحدة، مقابل السجل الغربي الذي بدأ بالإسكندر المقدوني مرورا بروما ونابليون وبريطانيا العظمى وانتهاء بالمشروع الصهيومريكي. ومقابل ذلك فإن روسيا خاصة استطاعت أن تدحر بطوليا كل من حاول الإعتداء على أرضها. لذلك هي مؤهلة ثقافيا ونخبويا وتاريخيا لقيادة المواجهة مع نموذج الجريمة المعربدة الحالي. فهل يعتبر نوعا من البراغماتية النافعة، خسارة روسيا لهذا التأييد السياسي غير المشروط من جانب أسوياء العالم وشعبوياته الخائفة، باعتبارها البديل التاريخي والموضوعي في وعيهم عن اقتراح العبودية؟ هل من البراغماتية التفريط بأي شيء مقابل لا شيء؟ وتقول وقائع التجربة والحدس الإستراتيجي أن على روسيا إن تكف عن منافقة الغرب والصهيونية ديبلوماسيا، لأن ذلك لن يفيدها أبدا في شيء، سوي إضاعة توقيتاتها الإسنراتيجية الحاسمة. واعتمادها على التعلق الرومانسي بالأقارب الأوروبيين المستحيلين، أثيت أنه إضاعة للوقت وللهدف معا. والفشل المقرف الذي وصلت إليه الحضارات الأوروبية كما نرى، يثبت أن العلاقة بين المعرفة والقوة لا تعتبر في بعض التجارب واقيا حضاريا من الهمجية، كما حصل في التجربة الأوروبية التي في النهاية المشروع الصهيومريكي.

نفي الآخر سياديا وحضاريا يشكل جوهر المشروع الصهيومريكي. وهو مشروع نوعي استباقي للإستئناف على الموت التطوري للإمبريالية. لكي يستعيد العجوز الإمبريالي شبابه السيادي يجب أن يستعيد شبابه الإقتصادي أيضا. وهو أمر مستحيل بالطريقة التقليدية لأن الجسم لا يجدد حيويته أو شروط تطوره إلى ما لا نهاية بدون معجزة خارقة كما تقول هلوسات المصير. لتجديد حيويات الجسد لا بد من استبنائه من جديد. يجب تدمير النظام التطوري للتاريخ من أساسه، إلغاء كل قسريات القانون الإجتماعي. يجب إحلال تاريخ قائم على الفوضى الإجتماعية، أي على العبودية الثابتة المدعمة بخيار الإستسلام. يجب إعادة تقسيم الثروة العالمية بين طبقة النخبة الوحيدة، وطبقة العبودية النسبية الوحيدة أيضا. يجب اختلاق خيار وعيوي قائم على فضائل الغريزة: الطعام والجنس والعمل ليصبح ذلك ممكنا. المسألة مسألة حياة أو موت، لذلك يجب استباحة كل مقومات الوجود الإنساني لتصبح الحياة ممكنة. لذلك فإن من يحلم بإجراء تعديلات على هذا المشروع سيحصل عليها بشرط وفاته فقط. أي أن على المشروع الآخر أن يكف أن يكف عن تفكيره السياسي ويبدأ بحشد أهالي القرية جميعا لمواجهة الوجش، إدراك حتمية الفشل هي التي قد تعيد للوحش شيئا من صوابه الغريزي، فيقرر التراجع. لأن إجماع أهل القرية على رفض مشروعه وعيويا، يعني أنه حتى الإنتصار عسكريا على دول المواجهة لن يفيده شيئا.