معارضات بذيئة.. ورقيعة.. في خدمة عدو كاذب ووضيع،

 غالب العلي

 

منذ أكثر من سنة ونصف السنة وأنا أراقب ظهور وبروز المعارضات العربية الجديدة، لغة وأزياء وألواناً وساحات. ومع أنني كنت ألمحُ بعض ظواهر هكذا معارضات منذ سنين خلال متابعاتي لأصوات من هنا وهناك على شاشات الفضائيات وصفحات الصحف، وكنتُ ألمس ما وراءها، إلا أنني لم أتوقع انفجارها الفاقع هذا وتحولها إلى أصوات بذيئة ورقيعة تغطي معظم وسائط الإعلام العربية، ولم أتوقع أن تبلغ الصفاقة بأصحاب هكذا معارضات حد تكرار مطالب وتصورات وأكاذيب التحالف الغربي/الصهيوني ورؤيته للأحداث تكرارا ببغاويا على الأسماع بلا كلل ولا ملل، ولم أتوقع أيضاً أن تصل الوقاحة بهذه الجوقة حد انتحال الأسماء والفتاوى والشعارات الإسلامية وزجها في أتون معركة ذئاب الغرب ووضعها تحت تصرفها وعند الطلب علانية. هي لم تبلغ في هذا حتى مبلغ ذكاء الخلند الجائل تحت الأرض، العارف أن خروجه إلى ضوء الشمس يكشف عمى بصره وبصيرته، ولذا يظل جوالا في دهاليزه.

صحيح أن تجربة الحرب الأمريكية على أفغانستان، في ثمانينات القرن الماضي، صنعت لنا وروجت العجب العجاب؛ الرئيس الأمريكي “مؤمن” و “مجاهد” في سبيل الله !، وقدمت لنا صورة إسلام أمريكي، يلتحي ويبسمل ويحوقل ويردد آيات قرآنية، ويهتف “الله أكبر”، صنعته “قاعدة” بيانات بيد مجمع مخابرات غربي ووظفته في حربها ضد الاتحاد السوفييتي. ولكن ما جاء بعد انتهاء ما سميت الحرب الباردة لم يوقف مهمة هذا الإسلام الأمريكي كما أشاعت الصحافة الغربية، وهي في معظمها قنوات لأجهزة المخابرات، وتبعتها في ذلك الصحافة العربية وفضائياتها، بل توزعت “قاعدة” البيانات تلك، وهي سجل بأسماء المجندين، على عدد كبير من التسميات، فهي “جند الله” في باكستان، وهي “فتح الاسلام” في شمال لبنان، و” جند الشام” في جنوبه، وهي “جبهة النصرة” التي لا يعرف أحد هل هي في وديان الجزيرة العربية أم في أحراش تركيا. هذه التسميات، على تعددها، أعطيت مهمة وحيدة لا تحيد عنها، هي متابعة الحرب الأمريكية، أي المهمة التي وصفتها وثيقة وزير دفاع “جورج بوش الابن “، “ديك تشيني” آنذاك، في العام 1992 بالكلمات التالية: ” عدم السماح ببروز قوة عظمى منافسة سواء في أوروبا الغربية أو آسيا أو في أي من أراضي الاتحاد السوفييتي السابق “. وخططت هذه الوثيقة لهيمنة قوة عسكرية وحيدة، أمريكية بالطبع، “يجب أن يحافظ قادتها على آليات تردع حتى طموح المنافسين المحتملين للعب دور إقليمي أو دولي “. ورأينا بالملموس مهمة “قاعدة” البيانات هذه، وتفرعاتها، في الحرب على روسيا في الشيشان، وحرب تفكيك وتحطيم يوغسلافيا، وتدمير ليبيا أخيراً. وهذه ليست سوى أبرز المسارح، أما المسارح الأخرى، فكانت متنوعة وبالغة السرية، في إيران والعراق ولبنان واليمن والصومال ومالي والنيجر، وهاهي تبرز في هذه الأيام بوضوح ما بعده وضوح في الحرب الأمريكية على سورية.

مهمة هؤلاء، الذين يبدو من خفة وسرعة انتشارهم وكأنهم كائنات غير مرئية أو من قبائل عفاريت الخرائب المهجورة في قصص ألف ليلة وليلة، هي التنقل والتسلل مع تنقل وتسلل طائرات الشبح الأمريكية حيثما وجدت مكامن الطاقة والثروات، وحيثما كانت هناك ضرورة جغرافية/سياسية لتفتيت دول خارج مدار سطوة التحالف الغربي، وتمديد خطوط نقل النفط والغاز إلى صناعات وأسواق رأسمالية بشعة تلتهم البشر والحجر.

 *

الجديد في خضم هذه الموجة من تجنيد المرتزقة تحت بيارق منتحلة، هو تدريب وخلق معارضات عربية عجيبة، ذات أسماء ولغة تفوقت على كل ما خلقه التحالف الغربي من معارضات ملونة بكل ألوان الطيف في آسيا الوسطى وأوربا الشرقية، تمتاز بسمات جديرة بالانتباه.

فهي بذيئة بذاءة مجانية مدهشة، تنشر قاموس هجاء لقادة دول عربية وشخصياتها المدنية والعسكرية، يبدأ من دائرة الإنسان الشخصية ويمتد إلى دائرته الاجتماعية ويصل إلى دائرة أفكاره، في عملية موصوفة في دوائر قيادات الحروب النفسية، من رجال مخابرات بمواهب علماء نفس واجتماع وما إلى ذلك، على أنها أداة من أدوات الصراع الفكري، وسيلتها تشويه الدائرة الشخصية للقائد لينعكس هذا التشويه على الدائرة الاجتماعية، ومن ثم على دائرة أفكاره، ويرسخ صورة ما في أذهان الجمهور. والوصول إلى الأفكار هو الأكثر أهمية، لأن فكرة مثل فكرة المقاومة والممانعة، التي يجري العمل على تشويهها الآن بالإشاعة والأكاذيب واختراع أخبار غير معقولة لدى كل عاقل، هي التي ستجعل الجمهور يحبط وتنهار مداركه وينسى أن هناك ذئابا تتربص به، الذئاب الغربية وكلبها المسعور الصهيونية، بل وقد تصل به الحال إلى الاقتناع أن هذه الذئاب مجرد خراف مسالمة تذرف دمعا على وطنه ومواطنيه، وأن قائده شيطان بثياب قديس.

البذاءة التي تنطلق من على الشاشات وتتصدر صفحات الصحف، ليست مجرد “فشة خلق” كما قد يحسب بعض الناس؛ إنها نهج مرسوم يجيء بعد تدريب وتلقين تجيدهما مراكز البث؛ واجهاتُ أجهزة مخابرات مثل “معهد كارنيجي” الأمريكي ومؤسسة تدعى “الوقف من أجل تعزيز الديمقراطية” وغيرها من مراكز وظيفتها تلقين الببغاوات التي تظهر على الفضائيات كيف تؤدي أدوارها. وقد لاحظنا مرارا كيف تنطق الببغاوات المسماة “شخصيات معارضة “، على اختلاف أمكنتها، بالمعزوفة ذاتها، وكيف أن أكذوبة أو رغبة يطلقها ذئب غربي برتبة وزير أو رئيس وزارة أو رئيس دولة سرعان ما ترددها ألسنة هذه الببغاوات.

ولأن حالة الضعف الفكري تكاد تكون عامة في المجتمعات العربية، فإن تأثير الهجاء البذيء يكاد يكون واسعاً، وتأثير الإشاعة يكاد يكون سارياً، إلى درجة تشكيك الإنسان بحسه السليم، بل وقد يغالط الإنسان حتى لمسته وما تراه عيناه أحياناً.

ترى كم عربي يعرف معنى الوصفة السحرية الشهيرة التي طبقت في أفغانستان: ” الدين بازٍ من صادهُ قنصَ به “؟ وكان الأمريكي “زبغنيو بريزنسكي” أكثر الناس وعيا بقيمتها واستخدمها بنجاح منقطع النظير؟ وكم عربي لمس نتائج تطبيق هذه الوصفة في أكثر من مكان، في الجزيرة العربية وفي تونس ومصر وليبيا.. وحتى في فلسطين؟ حين يمسك الصياد صقرا، والدين هنا هو بمثابة الصقر، ويدجنه ويدربه، يستطيع أن يصطاد به ما يشاء؛ قد يصطاد به مملكة أو قصراً في جبال سويسرا، أو رصيداً مالياً في مصرف. وفي هذه الأيام يتكاثر الصيادون، ونراهم على شاشات الفضائيات بل وعلى كراسي الحكم.

*

السمة الأخرى من سمات هكذا معارضات عربية بامتياز، أنها تعيش بالفعل العوالم الافتراضية، سواء تلك التي تصنعها لها وسائط الإعلام والإشاعات والتلفيق، أو تلك التي تخترعها هي ذاتها، وصولا إلى تصديق نفسها وتصديق ما يتراءى لها من أشباح على شاشة وعي ضحل. والضحالة سمة مميزة لأمثال هذه المعارضات، وهي التي تسمح بسيطرة العوالم الافتراضية على عقولها، وتعمل على بسطها وتعميمها. شاهدتُ وسمعت عددا من المعارضين يجادله أحدهم جدالا منطقيا، فوجدته يسير مع المجادل من مقدمة أولى إلى ثانية ثم يتوقف ويتنكر للنتيجة المترتبة على المقدمات. وذكرني هذا بحالة مريض نفسي كان مؤمنا إيمانا لا رجعة عنه أنه إنسان ميت. فسأله طبيبه بعد جهود مضنية ” هل ينزف الميت دماً؟” فأجاب المريض ” لا.. بالطبع.. هل يعقل ان ينزف الميت دماً؟” حسناً، قال الطبيب، ثم أخذ ذراعه بين يديه ووخزه بإبرة، فسال دمه، فقال الطبيب وقد امتلك برهانا لا يدحض ” إذاً.. أنت لست ميتاً كما تعتقد “. وهنا حك المريض رأسه، وقال ” ها..أنا كنتُ على خطأ.. الميتُ ينزف دماً “!

هكذا يقفز المعارض عن النتيجة المنطقية حتى لو سلم بمقدماتها، إن أحسّ أنها تتعارض مع ما يعتقده في جو عالمه الافتراضي الوهمي. وأبلغ مثال على هذا صادفته مع “معارض” سوري، فبعد أن قدمت له أدلة على أن أنشطة ما تسمى معارضة تصب القمح في طاحونة الاستعمار الأمريكي ومشروعاته في تفتيت البلدان العربية، قال، كل هذا صحيح، ولكن المعارضة على حق !.

*

سمات هذه المعارضات كثيرة، إلا أن اللافت للنظر هو أنها تلبس لبوس الدين الاسلامي وتنتحل عناوين إسلامية، وترتكب جرائم بشعة نعرف أنها موجهة نحو هدف واحد لا يتغير؛ اختلاق ذريعة لهجوم ذئاب التحالف الغربي على سورية. فنحن نتذكر، ونحن نشاهد المجازر وترويع وتهجير السكان بإحراق القرى والمباني، ونسبتها إلى الجيش العربي السوري، بينما هي من خصائص معروفة لفرق الموت في العراق وقبله في السلفادور ونيكاراغوا ويوغوسلافيا، ما جاء في تقرير التوصيات التي رفعها معهد كارنيجي إلى حكومته منذ أوائل تسعينات القرن الماضي، عن ضرورة تغيير “طرائقنا”، فحث التقرير على” اعتماد مبدأ جديد في العلاقات الدولية؛ مبدأ التدخل الدولي الذي مبرره تدمير وإجلاء مجموعات بشرية في دولة من الدول” أو بعبارة أخرى” العدوان العسكري بذريعة التدخل الانساني “، وهي الذريعة نفسها التي تقنع بها تفكيك وتحطيم يوغوسلافيا وغزو ليبيا والاستيلاء عليها نفطاً وأرضاً. ولا يحتاج حامل هذه التوصية الأمريكي إلى غير إرسال مجندي فرق الموت من مجندي “قاعدة” البيانات إلى البلد المقصود، وارتكاب جرائم قتل وترويع وتهجير ليقول وزير خارجيته بعد ذلك” هناك ضرورة للتدخل الإنساني لأن ضميره لا يحتمل ذبح المدنيين “!! أليس هذا هو ما تروجه دوائر الغرب ووكلاؤها الآن؟

هنالك ما هو أشد وضوحا في هذا التقرير/التوصية، وهو ما نفذ حرفياً في أكثر من دولة هاجمتها قطعان الذئاب الغربية. يوصي التقرير “علينا أن نضع معياراً يستخدمه المسؤولون حين يقررون متى ندعم الجماعات الاثنية الإنفصالية الساعية إلى الاستقلال، وحين يدافعون عن استخدام القوة العسكرية لهذا الغرض”!!

ونص التقرير/التوصية أيضاً على ما يمكن أن يكون اقتراحاً بكيفية خلق الذرائع مواربة :” سيتطلب استخدام القوة العسكرية لخلق دولة جديدة سلوكاً من الدولة (التي ستهاجمها الذئاب) بالغ الفظاعة بحيث تفقد أي حق لها في حكم الأقلية المطالبة بتقرير المصير”. ونعرف بالطبع بمتابعة فظائع عملاء الناتو في كوسوفو كيف أصبحت “صربيا” دولة لاحق لها في حكم الأقلية الألبانية. وكيف أن هذا النهج متبع الآن حرفياً في سوريا تحت الذرائع نفسها وبالطرق نفسها، إقامة منطقة حظر جوي، منطقة آمنة حسب مصطلحاتهم، وضخ المزيد من مجندي “قاعدة” البيانات للمزيد من زعزعة استقرار سورية، ليأتي من ثم هجوم قطعان الذئاب. هذه هي أوهامهم بالطبع، ولكنها، في ما يتعلق بالمعارضات البذيئة، أشبه بأوهام خلند يتوهم أنه أصبح قادرا على الخروج إلى سطح الأرض، وعلى الرؤية، أو هي، في ما يتعلق بالغرب، أوهام ذئب هرم يتوهم أن كل ما يراه مجرد طرائد ستستسلم لأنيابه ما أن يقفز من وجاره.