العميد د. امين محمد حطيط
في مطلع الصيف الحالي ودون ان يكون هناك مبرر امني داخلي فاجأت دول الخليج النفطية اللبنانيين بتحذير رعاياها من السفر الى لبنان وطلبت ممن كان منهم فيه توخي الحذر في الانتقال وحثتهم على المغادرة السريعة منه. ولم تنفع زيارات المسؤوليين اللبنانيين الى عواصم تلك الدول في تغيير هذا القرار بل ازداد من اتخذه تمسكا به وتطويرا له للتضييق على لبنان وتوجيه رسالة بان عمل ما يحضر ضده.
وفي جولات للمسؤوليين الغربيين و خاصة الاميركيين على لبنان قادتهم اكثر من مرة الى تفقد حدوده مع سورية كانت تطلق في كل مرة تصريحات ودعوات لاقامة مناطق آمنة للارهاب المنطلق من لبنان الى سورية، والتي برع اللبنانيون من فريق 14 اذار وبوقاحة في تشجيعه وبرع بعض المسؤوليين اللبناني حتى وفي منصب وزير باللعب على الالفاط للتعمية عليه بعد ان امتلك الشجاعة وزير الدفاع و اكد وجوده.
وفي اعين المراقبيين والمتابعين كان الوضع في شمال لبنان ينزلق رويدا رويدا خارج سلطة الدولة، ولم تنفع قرارات من مجلس الوزراء لوضع حد لهذا التدهور خاصة وانها صدرت دونما اجماع سياسي لانقاذ المنطقة من جهة، ومن جهة ثانية لان القرارات بذاتها لم تكن متخذة وفقا للاوصول المتبعة في تحقيق امن فاعل في مواجهة الاخطار المتشكلة، وقد كنا نادينا يومها ومنذ اللحظة التي ظهرت فيها المخاطر تلك نادينا باعلان المنطقة شمالي خط عرسال – طرابلس منطقة عسكرية تطبق فيها احكام الطوارئ ويكون فيها الجيش اللبناني سيد الميدان ومسؤول عن الامن وتوضع فيها كل القوى الرسمية المسلحة المتحركة في المنطقة تحت امرته وبتصرفه العملاني ولكن لم يحصل كل هذا.
وتأسيساً على ذلك توصلنا واعمالا لقواعد المنطق والتحليل والتقدير العملاني و السياسي و الاستراتيجي الموضوعي الى نتيجة قاطعة بان هناك قرار خارجي يتخذ من لبنانيين ادوات ورخيصة من اجل تفجير الوضع اللبناني، وان من اتخذ القرار كان واثقا من النجاح في تنفيذه لانه كان يلمس طبيعة الاداة اللبنانية وتدني سعرها وقدرته على امتلاكها وتسييرها وفقاً لما يريد.
لقد كان القرار الغربي- الخليجي – التركي وبقيادة اميركية، واضحا باحداث تغيير ما في منطقة الشمال خاصة و لبنان عامة تكون نواته فتنة سنية – شيعية و تتدحرج الامور بعدها الى الحد الذي يريح الجهة المخططة ومن اجل ذلك كانت عملية خطف اللبنانيين ال 11 و الخدع و الالاعيب الاعلامية التي رافقتها و نفذتها فضائيات تخدم و تنتمي الى تلك الجبهة، ولاجل ذلك ايضاً كان قطع طريق الجنوب عند مدخل صيدا، و كان كيل الشتائم و موجات الاستفزاز ضد المقاومة و سلاحها و جمهورها الى ان كان خطف احد ابناء العشائر الشيعية مؤخرا في دمشق من قبل مسلحي جبهة العدوان على سورية.
و لما لم تنفع كل تلك السلوكيات في احداث الانفجار المطلوب لجأ دعاته الى نزاع سخيف مبتذل بين صبية و اطفال و لعبة بندقيتين من لعب العيد، تطلق منهما شرارة ” الحرب ” في طرالبس، فكانت نار سرعان ما اشتد لهبها و انطلق يحصد في المدينة القتلى و الجرحى و الدمار، و يطرح السؤال الكبير حول الاهداف المتوخاة من تلك النار و التي نراها الان كما يلي :
1) التغطية على اخفاقات العدوان على سوريا.ونحن نعلم ان الامال الغربية التي علقت على خطة ” بركان دمشق…زلزال سورية ” سقطت وتحطمت عند اقدام الجيش العربي السوري ووطنية الدمشقيين والحلبيين ووعيهم ولم يستطع الحشد الارهابي الذي تجاوز ال 30 الف مسلح و زج به في معركتي دمشق وحلب ان يسقط هاتين المدينتين بل كانت النتائج معاكسة تماما للاحلام، وجاءت بتنصيف يستجيب لتعريف هزيمة المهاجم بشكل دقيق، ولا يغير من هذا التوصيف استمرار القتال هنا وهناك فالمبادرة اليوم هي بيد القوات السورية اما المعتدون فانهم مطاردون ويسقطون بين قتيل او موقوف او فار من الملاحقة وقلة منهم من تصمد وتستمر في القتال من غير امل بتغيير الصورة الميدانيية لصالحها. و كان هذا المشهد من شأنه ان يحطم معنويات الجهة المعتدية على سورية مع ما يخشى منه من تراجع في القدرة على تحشيد الارهابيين لمواصلة القتال، ومن اجل ذلك كانت نار طرابلس لتحجب مؤقتا تلك الهزيمة ريثما يتمكن المعتدي من تدبر امرها.
2) تعطيل دور الجيش واخراجه من الشمال.بعد ان اثبت الجيش حتى الان هو المؤسسة الوطنية الجامعة التي تستعصي على الاحتواء والاستتباع، وبخلاف قوى الامن الداخلي فقد حاول الجيش ان ينفذ اكثر من مرة سياسة النأي بالنفس ويمنع الحركة المسلحة من سورية و اليها عبر لبنان، وان يمنع تهريب السلاح او اقامة المعسكرات والقواعد اللوجستية لدعم الارهابيين العاملين ضد سورية. ومن اجل ذلك كان الجيش عرضة للاستهداف والافتراء و التعدي من قبل “جماعات 14 اذار” الى الحد الذي وصل فيه االتجرؤ عليه الى نعته و قيادته باشبع النعوت والقي ثلاثة من ضباطه في السجن لا لشيء الا لانهم نفذوا الاوامر والتعليمات العسكرية. لكل ذلك فان المخطط يريد اليوم واحد من امرين : اما اخراج الجيش كليا من الشمال و”تحرير المنطقة من سلطة الدولة ” او منع الجيش من ممارسة اي دور عملاني فاعل في المنطقة وحصر وجوده بالشكل دون اي تأثير و لهذا نسمع هذا الكم من الاشاعات حوله
3) وحول دوره.
4) تحويل منطقة الشمال الى منطقة آمنة للارهاب من اجل “زعزعة الاستقرار في دمشق” ومنعها من الاستفادة من نجاحات حققتها القوات المسلحة الشرعية فيها .وهذا ليس بسر او اكتشاف فقد طالبت به اميركا صراحة و علانية، ودفعت السعودية وقطر طائل الاموال من اجل تحقيقه وقد نفذ منه جزء حتى الان في كل من مناطق عرسال ووادي خالد و عكار مقابل تل كلخ السورية و يعمل على استكمال الباقي الذي لا يكون الا بعد تعطيل دور الدولة و مؤسساتها الامنية و العسكرية في المنطقة، وهذا ما يتم الان عبر نار الشمال.
5) توفير مناخ مناسب لاجتثاث القوى اللبنانية المعارضة للعدوان على سورية. ففي العام 2008 و بحجة الانتقام مما جرى في بيروت في ايار اثر العدوان على المقاومة و سلاح الاشارة فيها، اقدم تيار مستقبل الحريري ومناصروه على تهجير العائلات الشيعية من طرابلس و بعد مضي 4 سنوات فان احدا منهم لم يرجع الى منزله حتى وان احدا من الجهات السياسية والحزبية او الاهلية لم يثر الموضوع حفاظا على ما اسمي ” السلم الاهلي” والعلاقات بين المذاهب، واليوم تتجه الفئة ذاتها ومعها السلفيون ومناصروهم ويضاف اليهم مليشيات الترك و الخليج، تتجه الى تكرار المشهد و لكن هذه المرة ضد مؤيدي المقاومة وسورية من السنة والمسيحيين وتنفيذ حملة اسميت “التطهير السياسي” والفكري والعقائدي وستؤدي فيما لو نجحت الى الغاء الصوت المعارض للارهاب في طرابلس.
6) الضغط الميداني على رئيس الحكومة نجيب ميقاتي للاستقالة.بعد ان عجز رغم استماته و تقديم كل شيء يستطيعه عجز عن استرضاء السعودية و الحصول على بركتها او حتى “نعمة مصافحة الملك و مجالسته “، فالقرار السعودي يبدو حازماً في تدمير الميقاتي و انهاءه سياسيا ليكون عبرة لمن يعتبر من السياسيين السنة في لبنان و ليفهمهم بان كل من يخرج عن القرار السعودي سينسف ويدمر ويصبح اثرا بعد عين، ولهذا فان احد اهداف النار الطرابلسية الان هو معاقبة الميقاتي والتخلص منه باحراق مقامه السياسي واسقاط حكومته في مهلة لا تتعدى نهاية هذا العام.
تلك هي الاهداف التي يعول عليها من اضرم النار في الشمال، فهل ستتحقق؟
طبعا من السابق لاوانه القطع بالنتائج المرتقبة رغم ما يبدو من ارتفاع نسبة احتمال ذلك، لكن من السهل القول بان السيطرة على النار واطفائها امر لن يكون ممكنا في وقت قصير.
:::::
جريدة البناء بتاريخ 2482012