عبداللطيف مهنا
يشتد الجدل في مصر وسواها حول أول زيارةٍ خارجيةٍ للرئيس المصري في عهدها الجديد إلى الصين، وازداد حول حضوره لساعات مؤتمر دول عدم الإنحياز في طهران، حيث سلَّم رئاسة الحركة إلى إيران لدورةٍ جديدةٍ للأعوام الثلاثة القادمة. كل القوى السياسية التي تضجُّ بها الخارطة المصرية راهناً أدلت بدلوها حول الزيارتين، وبالطبع، كلٍ من موقعه وما ينسجم مع نظرته وبما يتناسب مع توظيفاته السياسية للحدث، سلباً أو إيجاباً، وبالتالي دخلت المسألة تلقائياً بازار المزيايدات المنعقد على أشده فيما بينها. لكنما هناك شبه إتفاق بينها على رؤيةٍ واحدةٍ للأمر ومن زاويةٍ واحدةٍ، وهي، أن الزيارة لبيكين وحضور قمة طهران قد تنبئان ببوادر سياسة خارجية مصرية مختلفة بقدر قد يكثر الجدل حول مداه، وبالتالي، ما قد يؤمل من إنتهاجٍ لسياسةٍ مصرية إقليميةٍ مختلفةٍ، في سياق المسعى المفترض، وشبه المجمع عليه وطنياً، لدورٍ يليق بمصر إقليمياً ودولياً تمت إضاعته واستعادة مكانةً فقدتها بعيد تغريبة كامب ديفد الكارثية، ليس على مصر وحدها وإنما على أمةٍ بكاملها، وفداحة ما لحق بهذا الدور وتلك المكانة على يد نظامها التابع خلال العقود الأربعة العجاف الماضية.
قد لا يتسع المجال هنا لتعداد مسلسل الكوارث التي الحقته إتفاقية “كامب ديفد” ونظامها بمصر، والتي يمكن إختصارها، بكل ما ندلعت ثورة 25 يناير أصلاً لكنسه والإنعتاق من أوزاره، وما تسببته قومياً من مذبحةٍ للإرادة السياسية العربية طيلة هذه العقود التي تعيش الأمة ولا زالت ذيولها وتداعياتها، ذلك لفقدان الدور الريادي لمصر ومكانتها التاريخية المؤثرة والمهمة في قيادة مسارات الأمة ورسم مصائرها. لقد حوَّلت دولة بحجم مصر إلى مجرد تابعٍ وحليفٍ للقوى المعادية لها ولأمتها، وانحدرت بدورها إلى شبه سمسار أوساعي بريد لتمريرسياسات تلك القوى في المنطقة، لا سيما مايتعلق منها بمخططات تصفية القضية المركزية للأمة العربية في فلسطين، والشواهد معروفة ولا حصر لها. أما على الصعيد الخارجي فأقل ما يمكن قوله إنها قد إنتهت بمصر إلى دولةٍ فاشلةٍ تتحكم في سياساتها فزَّاعة قطع المساعدات الأميركية المسلَّط سيفه على رأسها، وبالتالي عرضة للإبتزازات الصهيونية والأميركية.
زيارة بيكين، أو ما يؤمل لدى الكثيرين منها، تشي بمسعى مصري للتخفف من وطئة الإرتهان الإقتصادي للغرب المتصهين والمعادي، ومحاولة الإنفلات من الإبتزازات الناجمة عن هذا الإرتهان، وربما كان في حجم الوفد المصري المرافق للرئيس وعديد رجال الأعمال والإختصاصيين فيه ما يوحي بهذا. أما المشاركة في مؤتمر عدم الإنحياز في طهران فتغري بإدراجها في سياق محاولات خلق توازن في السياسة الخارجية المصرية تفتح أمام مصر، العائدة وفق المؤمل والمفترض لدورها المفقود، باب المبادرات الأقليمية والحراك المؤثر في منطقتها والعالم، والخلاص من سياسة إتسمت بالقطيعة، ولمجرد الإستجابة لإملاءات السياسة الأميركية، مع دولة إقليمية كبيرة لا خلاف بين من إتفق معها او إختلف على وزنها الفاعل والمتصاعد التأثيرفي المنطقة مثل إيران، وأقله، إن ما يجمعها بمصر هو أكثر مما يفرِّقها. كما علينا أن لا ننسى أن مصر كانت من الدول المؤسسة لحركة عدم الإنحياز، وكان الزعيم الراحل جمال عبدالناصر من قادتها ورجالاتها التاريخيين الى جانب كبار من مثل أحمد سوكارنو وجواهرلال نهرو والماريشال جوزيف بروز تيتو، وهي الحركة التي ذبلت وأضمحلَّ حضورها وتأثيرها في الساحة الدولية بعد غياب هذه الرموز الكبيرة، ثم بزوال نظام ثنائية القطبية الكوني بانهيار الإتحاد السوفيتي وتغوّل أحاديته الأميركية بعد هذا الانهيار… بيد أن المواقف التي أطلقها الرئيس مرسي في كلمته أمام المؤتمرين في طهران بخصوص الأزمة السورية، لم تنسف فحسب مبادرته المعروفة بالرباعية التي أطلقها في جدة حيالها، وإنما كانت كافية لأن تحول، ومن أسف، بين مصر ودورها المؤمل المفترض في التوسُّط المرحَّب به لحل الأزمة والمساهمة المطلوبة منها لحقن دماء الأشقاء السوريين وإيصالهم الى كلمةٍ سوريةٍ سواء تنهي هذه الأزمة وتدرء الأخطار والأطماع المحدقة التي تتهدد سورية دولةً ووطناً… الأمر الذي تلقفته أميركا وغربها بالمديح والترحاب !
في مصر لا زال هناك تيار لا يستهان به من المُستغربين ومعهم المفتقرين للحس التاريخي والرؤية الإستراتيجية اللذين يتوهَّمون دوراً ومكانة لمصر في أمتها ومنطقتها دون مغادرتها لخيمة الهيمنة والتبعية الأميركية أو القطيعة معها، وبالتالي لا بأس عند هؤلاء في أن توسِّع الزيارتان هامش المناورة المصرية دون الذهاب الى ما يمس “كامب ديفد”، أو يغيِّر في منطلقات السياسة الخارجية المصرية التي رسَّختها عقود “كامب ديفد” ألأربعة. ومهما كانت الأهداف من وراء الزيارتين لبيكين وطهران فهما تصبان في الصالح المصري وخطوة إيجابية يجب أن يكون لها ما بعدها، وإلا، فإن توسيع هامش المناورة مهما إتسع لا يعني الإنفكاك من ربقة الهيمنة، كما لا عودة لدور دون مد الجسور الإستراتيجية مع القوى الفاعلة في المنطقة، ولا استعادة للمكانة القومية والإقليمية دون الإنفكاك من موبقات كامب ديفد والتخلص من أوزار تركتها الثقيلة.