(الجزء الثاني)
الطاهر المعز
مساعدة فرنسا للحركة الصهيونية، خلال مرحلة التأسيس:
لعبت السلطات الفرنسية (تاريخيا) دورا أساسيا في تنظيم ودعم هجرة اليهود إلى فلسطين، التي كانت تتمّ من مرفأ مرسيليا، باعتراف “ديفيد بن غوريون”، بقوله في أيار 1945 “من المهم جداً أن نضم فرنسا إلى صف الصهيونية، إن كان على صعيد السلطة أو الرأي العام…”، وكان آنئذ رئيس المنظمة اليهودية والمسؤول عن منظمة «ياشوف» لهجرة وتوطين اليهود في فلسطين، وكان “مارك غاربلوم” زعيم الحركة الصهيونية في فرنسا، مقرّباً من شخصيات أساسية، مثل الرئيس السابق لمجلس النواب ومجلس الوزراء، “ليون بلوم” (وهو مناضل صهيوني كبير)، ومدير مكتبه المحامي أندريه بلوميل…
ترأس “أندريه بلوميل” منظمة “الإتحاد الصهيوني الفرنسي”، التي تأسست سنة 1947، وهو اشتراكي من أتباع ليون بلوم كما أنه قانوني شهير، ولعبت تلك المنظمة دوراً بالغ الأهمية في عمليات الهجرة غير الشرعية عَبْر الموانئ الفرنسية إلى فلسطين. كما قدَّمت مساعدات مالية هائلة للهاغاناه بمقدار يزيد عن 2 مليون فرنك وللاستيطان الصهيوني في فلسـطين، وخصوصاً بعـد صدور قرار التقسيم، وفي عام 1950، كان هناك 63248 مساهم فرنسي في تمويل الإستيطان وفي اختيار ممثليهم في المؤتمر الصهيوني الثالث والعشرين. وتشكلت لجان تبرع عديدة لإسرائيل في فرنسا تحت اسم «مساعدة إسرائيل»، و«النداء الموحَّد» وغير ذلك.
واستغلت الحركة الصهيونية اندلاع حرب تحرير الجزائر عام 1954 (ومساعدة مصر لها) ونزوح عدد من يهود الجزائر إلى فرنسا، وأرسلت عددا هاما منهم، من ذوي التخصصات الدقيقة والأكاديمية إلى فلسطين المحتلة (عن عبد الوهاب المسيري “تاريخ اليهود واليهودية”)
أما «المنظمة الفرنسية لفلسطين العبرية» (تأسست عام 1946) فكان هدفها استمالة الرأي العام الفرنسي وتعاطفه مع الأهداف الصهيونية، وتمكنت من استمالة عدد كبير من المفكرين منهم: جان بول سارتر ، سيمون دو بوفوار، ريمون آرون وبيار مندس فرانس، مما سهل عمل المنظمات اليهودية، وسمحت الحكومة الفرنسية بالهجرة الجماعية المنظمة لليهود إلى فلسطين (قبل قرار التقسيم) انطلاقا من أراضيها، وجمع الأموال وشراء الأسلحة ونقلها عبر الأراضي الفرنسية إلى فلسطين، وتدريب الشبّان اليهود على استعمال الأسلحة في مخيّمات ومعسكرات أمّنتها لهم السلطات الفرنسية… واشترت منظمة “الهاغانا” من أمريكا باخرة، نقلت إلى فلسطين، من مرفأ مرسيليا يوم 12/06/1946، حوالي 175 شاحنة مهاجرين جاؤوا من كل أنحاء أوروبا إلى فرنسا، بتأشيرات كولمبية مزيفة، وغضّت السلطات الفرنسية، ووزير الداخلية إدوارد دبرو، النظر عن صحة التأشيرات، واستمرت الهجرة “السرية” إلى فلسطين، انطلاقا من فرنسا، إلى حين إعلان إنشاء دولة “إسرائيل” يوم 14 أيار 1948…
واستقبلت فرنسا (سنة 1948) زعيم حزب العمل (وأول رئيس وزراء إسرائيلي) “ديفد بن غوريون” وغيره من أعضاء عصابات الـ “هاغاناه”، الذراع العسكرية للحركة الصهيونية، وساعدتهم على إرسال كميات كبيرة من السلاح إلى فلسطين… وبعد قيام دولة “إسرائيل” وفي سنة 1955، أشرف الخبراء الفرنسيون (في عهد الحكومة “الإشتراكية”) على إقامة مفاعل ديمونة في صحراء النقب… ثم فترت العلاقات (نسبيا)، بداية من 1958، إلى أن تولى فرانسوا ميتران رئاسة فرنسا سنة 1981، كما اتسمت العلاقات الفرنسية الإسرائيلية في عهد الرئيس ساركوزي بالتأييد المطلق لدولة الإحتلال، إضافة إلى التصريحات الصحفية المتكررة لساركوزي والمؤيدة لإسرائيل، واعتبار أمن إسرائيل خطا أحمر واعتبار قيام دولة إسرائيل معجزة وأنه الحدث الأهم في القرن العشرين (مستعملا عبارات وخطاب “المحافظين الجدد” والمسيحيين الصهاينة)… وأحاط نفسه بمجموعة كبيرة من الوزراء والمستشارين الصهاينة في ميادين مختلفة (منها السياسة الخارجية وشؤون الهجرة)، وسخر إمكانات الدولة (أي المال العام) لحماية “إسرائيل” و مساعدتها و إرسال المعونات العسكرية لها … وأرسلت فرنسا (وألمانيا أيضا) بوارج عسكرية لتشديد الخناق على قطاع غزة بذريعة “منع تهريب الأسلحة لحماس”…
اتسمت سياسة “الجمهورية الرابعة” (1946 – 1958)، التي شاركت فيها التيارات المقاومة للإحتلال النازي (الديغوليون والإشتراكيون والشيوعيون) بتواجد شخصيات صهيونية معروفة مثل “ليون بلوم” (رئيس حكومة سابق، ورد ذكره عدة مرات في هذه الدراسة)، ومساندة قوية للحركة الصهيونية، وكان لرئيس قسم شراء السلاح في الحركة الصهيونية ثم في دولة الإحتلال، مكتب علني في وزارة الحرب الفرنسية (من سنة 1946 أي قبل الإعلان عن دولة الإحتلال، إلى سنة 1958)، ملاصق لمكتب رئيس ديوان الوزير، إضافة إلى مكتب آخر في سفارة الكيان الصهيوني، بعد 1948.
“الجمهورية الخامسة” والكيان الصهيوني:
شهدت عودة “شارل ديغول” إلى الحكم وتأسيسه الجمهورية الخامسة يوم 04/10/1958، تغييرا طفيفا، وإن بقي التعاون قائماً بين فرنسا والصهاينة، فديغول نفسه كان متحمساً لـ”إسرائيل”، وقدم لها الدعم العسكري خاصة فيما يتعلق بسلاح الجو، وتزامن ذلك مع تراجع النفوذ الفرنسي في الوطن العربي، إذ فقدت فرنسا مواقعها سنة 1958، وأصبحت أمريكا تنافسها حتى في لبنان ، وتراجع نفوذها الثقافي، وهو أحد أهم أدواتها لبسط نفوذها السياسي، وساعدت حرب الجزائر، والعدوان الثلاثي (حرب السويس 1956) على تردي صورة فرنسا وانحسارها الثقافي في مصر وسوريا، فسعى ديغول إلى إعطاء انطباع عن “فرنسا جديدة”، واضطرته جبهة التحرير الوطني في الجزائر إلى البحث عن مخرج (خصوصا بعد المحاولة الإنقلابية للعسكريين الفرنسيين المتطرفين في الجزائر سنة 1958)، وبدأت مفاوضات طويلة بين الحكومة الثورية المؤقتة في الجزائر والحكومة الفرنسية أسفرت عن اتفاقيات “إيفيان” (آذار 1962)، ثم استقلال الجزائر في 5 تموز 1962، وقبلها انتقلت معظم المستعمرات الإفريقية من الإستعمار المباشر إلى الإستعمار الجديد، بين سنتي 1960 و 1962… وبقيت فرنسا مهيمنة اقتصاديا وعسكريا وثقافيا على كافة مستعمراتها تقريبا، ونصبت عملاء لها في الحكم، بعد أن ارتكبت مجازر رهيبة ضد مناهضي الإستعمار في الجزائر والسنغال (1945) وفي مدغشقر (1947)، والكامرون (1960)، وشاركت في اغتيال “باتريس لوممبا” وتقسيم الكونغو، إضافة إلى مجازر أخرى في سوريا وفيتنام…
على الصعيد الفرنسي الداخلي، ركز ديغول (إعلاميا) على أولوية المصالح الوطنية، والابتعاد عن صراع القطبين الأمريكي والسوفياتي والبحث عن موقع وسطي يمكن فرنسا من الحفاظ على مصالحها، وربما اكتساح مواقع جديدة… وهذا ما اصطلح على تسميته ب”السياسة العربية” لفرنسا، القائمة على تبجيل وتحقيق مصالحها الوطنية، والإيهام بالنأي شيئا ما عن بعض الحلفاء التقليديين مثل “إسرائيل” وأمريكا، وبذلك تمكنت فرنسا من كسب الرأي العام العربي ومثقفيه، خصوصا بعد عدوان 5 حزيران 1967، وواصل خلفه “جورج بومبيدو” نفس السياسة تقريبا (كان بومبيدو رئيس الحكومة، وأصبح رئيسا للجمهوية بعد استقالة شارل ديغول سنة 1969)… ورغم الضجيج الإعلامي فإن ديغول وبومبيدو قد حافظا على علاقات قوية مع “إسرائيل”، أما المثقفون والصحفيون، المناصرون في معظمهم للكيان الصهيوني فلم يتغيروا بين سنتي 1956 و1967، ووقف مثقفون من العيار الثقيل إلى جانب الكيان الصهيوني وعلى رأسهم “سيمون دي بوفوار” التي تعتبرها الحركات النسوية العربية قدوة لها، و”جان بول سارتر”، الذي ساند جبهة التحرير الوطني في الجزائر، لكنه دافع بشراسة عن الكيان الصهيوني و”ريمون آرون” وجان دانيال… غير أن ممارسة الفصائل الفلسطينية للكفاح المسلح وانتهاج سياسة إعلامية نشطة، وصعود اليسار الماوي والماركسي عموما، بدأ يكشف واقع الشعب الفلسطيني ، ويبين لجزء من الرأي العام فضائع الإحتلال، ويخلق تيارا مناهضا للإحتلال الصهيوني ومساندا للقضية الفلسطينية، وتميز عقدا الستينات والسبعينات ببروز حركات الإحتجاج في أوروبا وأمريكا واليابان، ضد الحرب في فيتنام، وضد بعض أساليب النظام الرأسمالي، وضد الإستعمار وطالت موجة الإحتجاج حتى اليهود العرب في فلسطين المحتلة، لكنها لم تعمر طويلا … ومع ذلك ظلت الدعاية الصهيونية قوية، بسبب مكانة الكيان الصهيوني ووظيفته داخل النظام الرأسمالي العالمي والمنظومة الإستعمارية، وما ينجر عنها من سند مالي وإيديولوجي وإعلامي قوي…
بعض سمات السياسة الخارجية الفرنسية 1967-1980:
اتهمت إسرائيل الجنرال ديغول بمعاداة الساميّة لأنه صرّح في مؤتمر صحفيّ بعد حرب 1967 أنّ إسرائيل “دولة توسعيّة تسعى إلى مضاعفة عدد سكانها عن طريق هجرة اليهود إليها”، وطالب ب”جلاء القوات الإسرائيليّة عن الأراضي العربية المحتلة “، وقد أصر على رأيه هذا في مراسلاته مع بن غوريون، انطلاقا من رؤيته للعلاقات الدولية ومكانة فرنسا واستقلالية قرارها وبناء علاقات على أسس عقلانية تراعي مصالح فرنسا قبل أي شيء آخر، ويندرج انسحاب فرنسا من القيادة المندمجة للحلف الأطلسي (وليس الإنسحاب من الحلف كما يروج البعض) في هذا الإطار، إلى أن أصبح نيكولا ساركوزي رئيسا، فعاد بفرنسا إلى صفوف حلف شمال الأطلسي ودعَم سياسات جورج ولكر بوش العدوانية ضد شعوب العالم… لكن تصريحات الرئيس الفرنسي، الجنرال ديغول لم تتعدى طور التصريحات، إذ ساند الإعلام (الحكومي آنذاك) الإعتداء الصهيوني، وجمعت المنظمات الصهيونية 6,5 مليون دولارا لمساعدة الكيان الصهيوني، خلال شهر حزيران 1967، و”هربت” المخابرات الصهيونية البوارج العسكرية من ميناء “شربورغ” الفرنسي (ورد ذكره الحادثة في فقرة أخرى)، وكانت فرنسا حليفا رئيسيًّا لإسرائيل من ناحية التسليح، وساعدتها في بناء المفاعل النوويّ، والقنبلة النووية، وبعد سنة 1967، أصبحت الولايات المتحدة السند الرئيسي للكيان الصهيوني (وللرجعيات العربية في نفس الوقت) وكرر “جورج بومبيدو”، كلام ديغول حين تحدث أمام الكونغرس الأميركي يوم 25/2/1970، مؤكدًا أنّ إسرائيل هي المعتدية في حرب 1967 “لأنها كانت البادئة بحرب وقائيّة حقّقت لها نصرًا لا ينكر على الأرض، لكن لا يمكن أن يتأسس السلام باستعمال القوة واحتلال أراضي الغير” (وكأن هذا الكلام لا ينطبق على ما احتل سنة 1948 ) وبعد حرب تشرين الأول 1973، أعلن وزير الخارجية الفرنسيّ ميشيل جوبير “إن الدول العربية حاولت استعادة أراضيها التي احتلتها إسرائيل، وبالتالي فإن حربها مشروعة، ولا يمكن اعتبارها عدوانا…”، ورفع الحظر رسميا عن مبيعات السلاح الفرنسيّ لدول ما سمي الشرق الأوسط في عهد “فاليري جيسكار ديستان” سنة 1974، ضمن مساعيه لضمان التّزود بالنفط من الدول الخليجية، وسمح لمنظمة التحرير بفتح مكتب إعلاميّ رسمي في باريس بداية من 31 تشرين الأول 1974، بعد إقرار المنظمة مشروع الدويلة و”برنامج النقاط العشر” الذي يسلم باحتلال 1948… ووجه المرشح “فرانسوا ميتران” نقدا لاذعا لخصمه الرئيس “جيسكار ديستان” أثناء الحملة الإنتخابية سنة 1981، لأنه “ساند العرب ولم يقم بزيارة إسرائيل” (حسب رأي ميتران)، وتزامن فوز ميتران بالرئاسة مع وجود رونالد ريغان ومارغريت تاتشر في السلطة في أمريكا وبريطانيا، وكان الإتحاد السوفياتي يحتل أفغانستان، وكانت السياسة الخارجية الفرنسية في عهد ميتران والحزب الإشتراكي منحازة للحلف الأطلسي والصهاينة، ومساندة لشق ياسر عرفات في منظمة التحرير الفلسطينية، ضد خصومه في “جبهة الرفض”، وحتى داخل حركة فتح…
الحزب الإشتراكي الفرنسي والصهيونية:
تتمتع “الاشتراكية الفرنسية” بتأثير كبير داخل “الإشتراكية الدولية” وكرست هذا الدور المميز، لمساندة الكيان الصهيوني، وتميز تاريخ “الاشتراكية الفرنسية” بالإنتهازية والدفاع عن سياسة الاحتكارات الفرنسية والعالمية على السواء وعن المنظومة الاستعمارية في العالم، وأصدق مثال على ذلك سياسة حكومة “غي مولليه” الدموية في الجزائر، ومساندة أو قيادة الحملات الإستعمارية في عدة بقاع من العالم (افريقيا والوطن العربي)…
كان ليون بلوم أحد زعماء الاشتراكيين في فرنسا، ورئيس الحكومة (1936/1938) حليفا لحاييم وايزمان، أما الزعيم الاشتراكي غي مولليه فهو رئيس الحكومة التي خاضت حرب السويس إلى جانب إسرائيل وبريطانيا سنة 1956… وبعد عدوان 1967، عبّرت شخصيات فرنسيّة من زعماء الحزب الإشتراكي عن تعاطفها مع الكيان الصهيوني (غي مولليه، وغاستون ديفير، وفرانسوا ميتران، ومنديس فرانس…)، وساهم الحزب الإشتراكي الفرنسي في تكريس هيمنة الكيان الصهيوني على دول وشعوب المنطقة وتمكينه من وسائل التفوق والتقدم العلمي، لإعاقة ومنع تطور الدول العربية الاقتصادي والاجتماعي، وجعل “إسرائيل” قوة إقليمية وأداة هيمنة عسكرية وأمنية واقتصادية، وتتنزل مساعدة الكيان الصهيوني على بناء مفاعل “ديمونة” النووي في صحراء النقب، ودعم المنشآت الزراعية (الكيبوتس) والصناعية (الموشاف)، في إطار هذا التعاون الوثيق، بين الحزب الإشتراكي الفرنسي (والإشتراكية الدولية)، ودولة الإستعمار الإستيطاني الجاثمة على أرض فلسطين…
تميز زعماء الحزب الإشتراكي بنظرتهم الفوقية المتعالية تجاه الطبقة العاملة (والعمال المهاجرون جزء منها) وضد الشعوب التي ترزح تحت نير الإستعمار، تتوافق مع تفشي العنصرية المتفاقمة في أوروبا ضد “الأجانب” أو أبناء الأجانب، وتتفق مع ماهية وطبيعة الحزب الاستعمارية، ومشاركته في تحقيق أهداف الإستعمار، ومساندته للكيان الصهيوني ولمشروع “حزب العمل” الصهيوني، الرامي إلى الهيمنة على المشرق العربي، أو ما يسمونه “الشرق الأوسط”… وعرف عن الاشتراكية الدولية في أوروبا (والحزب الإشتراكي الفرنسي، أحد أهم أقطابها) اصطفافها الطبقي، تاريخيا وراء البرجوازية الحاكمة، زمن الحروب والحملات الإستعمارية، كما تميزت بخيانة الطبقة العاملة الأوروبية والعالمية ولعبت دور السمسار والوكيل لتسويق مصالح الاحتكارات الأوروبية والعالمية ضد مصالح الطبقة العاملة الأوروبية ومصالح الشعوب المستعمرة والمضطهدة… ووصفها زعماء اشتراكيون مثل لينين وروزا لكسمبورغ بأنها أممية صفراء، قبل تأسيس الأممية الثالثة، مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى…
تخرج من صفوف الحزب الإشتراكي الفرنسي، في العقود الأخيرة، عدد هام من منظري العولمة الرأسمالية والمدافعين عن العلاقات غير المتكافئة بين الدول الفقيرة المهيمن عليها والدول الإمبريالية المهيمنة، وعن خصخصة المرافق العمومية، وإلغاء الدعم الحكومي لأسعار المواد الغذائية والخدمات، منهم “باسكال لامي” (منظمة التجارة العالمية)، و”ميشال كامبدسوس”، و”دومنيك ستروس كان” (صندوق النقد الدولي)، وأصبحت قاعدة الحزب وأنصاره من المنتمين إلى الشرائح العليا من البرجوازية الصغيرة أو من كبار موظفي الدولة ومن المحامين والأطباء والباحثين والمدرسين وأصحاب الدخل المتوسط أو المرتفع الخ، وانخفض عدد العمال وصغار الموظفين، وضاقت الفوارق مع اليمين في برامجه…
من الشخصيات اليهودية (المناصرة للصهيونية) التي تبوأت مناصب سياسية (باسم الحزب الإشتراكي)، رئيس وزراء حكومة “اليسار”، ليون بلوم (1936) ومنديس فرانس (1954) وغي مولليه إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956… إضافة إلى عدد هام من الوزراء منهم جول موك الذي يحمل الجنسية الاسرائيلية… أما وزير القضاء “إسحاق كريميو”، عضو الحكومة المؤقتة التي تشكلت بعد فشل نابليون الثالث (1870)، فقد كان رئيساً للتجمع اليهودي العالمي آنذاك، وأنشأ أول مدرسة زراعية يهودية فوق أرض فلسطين… ولم تخلو حكومة فرنسية واحدة من وزراء صهاينة عرفوا بولائهم للمشروع الصهيوني… وكانت “سيمون فيل” (تيار الوسط) قد تولت رئاسة أول برلمان أوروبي، وتقلدت عدة مناصب وزارية خلال 3 عقود، كان آخرها وزارة الشؤون الإجتماعية في حكومة “إدوارد بالادور” سنة 1993، واقترحها الصهاينة لتولي منصب رئاسة دولتهم، خلفاً لإسحاق نافون، لكن ذلك لم يتحقق…
ويعتبر الرئيس ميتران من أكثر السياسيين الفرنسيين المتحمسين لـ(إسرائيل)، ووصل به الأمر (لما كان رئيسا للجمهورية الفرنسية) أن ساند موقف ميناحيم بيغن، رئيس الحكومة الصهيونية (اليمينية) ضد وزير خارجيته “كلود شيسون”، خلال شهر شباط 1982، وأثناء مداخلته في مجلس الوزراء، انبرى الرئيس “فرانسوا ميتران” (الإشتراكي، اللائيكي) يدافع عن “العقد الذي يربط اليهود بربهم، في يهودا والسامرة” (أما الفلسطينيون فلا رب لهم؟)، ويبرر عدم تنازلهم عن أي شبر من أرض الضفة الغربية … ويقول البارون “دي روتشيلد”: “لقد فعل ميتران كل ما يجب لكسب أصوات الطائفة اليهودية، وبذل جهوداً تميزت بالذكاء وتستحق التقدير، وعرف بأنه صديق اليهود”، ويعتبر “جاك أتالي” (اقتصادي صهيوني ومستشار الرئاسة في عهد ميتران) أن وصول فرانسوا ميتران إلى الرئاسة حدث سعيد لليهود ولإسرائيل…
سبق وصول الحزب الإشتراكي إلى سدة الحكم سنة 1981، حراك عمالي هام في قطاعات المناجم والحديد والصلب وقطاع صناعة السيارات… وحال وصوله إلى السلطة صفى الحزب الإشتراكي قطاعات المناجم والصلب، ونعت رئيس الحكومة “بيار موروا” العمال العرب المضربين في شركة “سيتروان” (قبل إدماجها في شركة بيجو) ب”الأصوليين المسلمين”، وكان العمال العرب في أسفل السلم وكان المشرفون على العمل (رؤساء الفرق) ينتسبون إلى “نقابة” فاشية، تمولها المؤسسة بهدف منع أي حراك أو احتجاج عمالي، وقامت الحكومة “الإشتراكية” بتشويه نضال العمال والتنديد بهم، متحالفة “موضوعيا” مع أرباب العمل ومع النقابات الصفراء الفاشية…
أما أبناء المهاجرين (وهم مواطنون فرنسيون) فكانوا (ولا زالوا) يعانون من العنصرية التي تمارسها أجهزة الدولة في عدة ميادين (التعليم، التشغيل، السكن، الشرطة، جهاز القضاء…) وقاموا بمسيرة سلمية تحت إسم “مسيرة المساواة”، ضمت آلاف الشبان والمتضامنين معهم، جابت فرنسا من الجنوب إلى الشمال، واستقبلهم الرئيس “فرانسوا ميتران” في قصر الإيليزيه، ونهر من كانوا يلتحفون بكوفية فلسطينية، وأمرهم بنزع هذه “الخرقة، رمز الإرهاب”… وعوض الإستجابة لمطالبهم، وإنصافهم كمواطنين فرنسيين كاملي الحقوق، التف على حركتهم (بمساعدة خبير الإتصالات، “جاك سيغالا” الذي أشرف إعلاميا على حملته الإنتخابية) وأنشأ منظمة “أس أو أس راسيزم”، وهي منظمة “مناهضة للعنصرية”، يشرف عليها عتاة الصهاينة في الحزب الإشتراكي، مثل “جوليان دراي” (وأخوه زعيم أحد فصائل الستوطنين الأكثر تطرفا في فلسطين المحتلة)، وتتمتع بدعم مالي وإعلامي هائل، والتفت على تحركات الشباب العرب قبل إقصائهم من قيادتها، ثم أصبحت جزءا من اللوبي الصهيوني في فرنسا وتخصصت في محاربة كل ما هو عربي أو مساند للقضية الفلسطينية واتهام من ينقد الكيان الصهيوني ب”معاداة السامية”، ومقاضاة عدد لا يحصى منهم ومن الداعين إلى مقاطعته، وشكلت حلفا مع “اتحاد الطلبة اليهود” و “اتحاد رجال الأعمال اليهود” و”الرابطة الدولية لمكافحة اللاسامية”، و”غرفة التجارة الفرنسية الإسرائيلية”، وجمعيات الصداقة مع الصهاينة الخ… وتمكنت في بداياتها من ضم عدد هام من مناضلي “المجتمع المدني” ومنظمات اليسار” (خصوصا من تيار الأممية الرابعة، التروتسكي)، ساعدها في ذلك الإمكانيات المادية الهائلة والسياسة الإعلامية المدروسة التي يشرف عليها محترفون من الدرجة الأولى عالميا، أشرفوا سابقا على الحملات لفائدة الشق اليميني في نقابة “تضامن” البولندية والحملات المطالبة بخروج “المنشقين” السوفيات من الإتحاد السوفياتي نحو فلسطين المحتلة، مثل تشارنسكي الذي أصبح وزير داخلية في حكومة الكيان الصهيوني… وكانت SOS racisme تروج في بداياتها إلى رفض الإقصاء وقبول الآخر ثم أصبحت بوقا لدولة “إسرائيل” وللإيديولوجيا الصهيونية، بدعوى “قبول الآخر المختلف، وعدم إقصائه”، واتهمت كل من نقد ممارسات إسرائيل بمعاداة السامية…
كانت العاصمة الفرنسية باريس ولا زالت تمثل معقلا لليهود الأثرياء وللحركة الصهيونية، ويقطن نصف أفراد الطائفة اليهودية منطقة باريس وضواحيها، مما شكل تربة خصبة للدعاية الصهيونية، وتظم كافة أحياء باريس مدارس يهودية خاصة وجمعيات عديدة ومحلات عبادة الخ ومنذ فوز الحزب الإشتراكي بالإنتخابات البلدية في العاصمة الفرنسية، ضاعفت مدينة باريس من تمويل الجمعيات اليهودية (دعامة الدعاية الصهيونية) والمدارس الخاصة ودور العبادة الخ ومولت نفقات حراستها ومراقبتها، ويشارك رئيس بلدية باريس (وعدد من رفاقه في مدن أخرى) في الإحتفالات الدينية اليهودية (مثلما يفعل ساركوزي)… كل ذلك في فرنسا “اللائيكية”، ومقابل سخاء بلدية باريس لصالح الجمعيات الصهيونية المغلفة بالدين، خفضت من دعم مراكز إيواء المسنين وفاقدي المأوى، ومراكز الصحة الأساسية والوقاية، ودور الحضانة والمطاعم المدرسية والمكتبات ودور الثقافة والشباب والترفيه الخ، بحجة “ضرورة ترشيد الموارد المالية” !!!
الحزب الاشتراكي الفرنسي والعرب:
تنبع مواقف الحزب الإشتراكي الفرنسي (وممارساته) في مجال السياسة الخارجية، بشكل عام، من جذوره الإستعمارية، ومعاداته للطبقة العاملة والشعوب المضطهدة (بفتح الهاء) والمستعمرة (بفتح الميم)، ومثلما استعمل الطبقة العاملة للوصول على ظهرها إلى دفة الحكم، ابتدع شعارات “التدخل الإنساني”، و”إنقاذ الشعوب”، للمساهمة في الحروب الإمبريالية والأطلسية في العراق ( 1991)، وفي يوغسلافيا (1992) وفي افريقيا (تشاد وافريقيا الوسطى والكونغو…) وفي لبنان (منذ 1982)
حكم الحزب “الإشتراكي” فرنسا من 1981 إلى 1995… وكان زعيمه فرانسوا ميتران الذي شغل منذ 1946 عدة مناصب حكومية، معروفا بوقوفه إلى جانب إسرائيل، وله علاقات شخصيّة بالزعماء التاريخيين لدولة الإحتلال الصهيوني، كشمعون بيريز وإسحاق رابين، وحتى بمناحيم بيغين، وعرف عنه دفاعه المستميت عن استعمار الجزائر، ووقع (كوزير للقضاء) أول حكم بالإعدام على مقاوم جزائري من جبهة التحرير، ومن أقواله المتداولة آنذاك “أن الحرب هي الشكل الوحيد للتفاوض مع الإرهابيين” (ويقصد بهم مناضلي جبهة التحرير الوطني في الجزائر)… وكانت الحكومة الفرنسية “الإشتراكية” التي شنت الحرب على مصر، ترى في العمل العسكريّ المشترك مع “إسرائيل” فرصة للسيطرة على قناة السويس، وفرصة للتخلص من نظام جمال عبد الناصر الذي قدم الدعم لجبهة التحرير الوطني في الجزائر، ومن نتائج هذه الحرب أن توطدت العلاقات الفرنسية مع الكيان الصهيوني وتوترت مع معظم الدول العربية، ودخل زعماء “اشتراكيون” فرنسيون في مواجهة صريحة مع “العرب”… ومنذ سنة 1965، أصبح “فرانسوا ميتران” الشخصية الرئيسية في الحزب الإشتراكي، ووطد علاقات حزبه مع “حزب العمل” الصهيوني الذي أسس زعماؤه دولة الإحتلال وقادوها منذ تأسيسها إلى سنة 1977 بدون انقطاع… وبدأ جناح “ميتران” في الحزب الإشتراكي “يتفهم” أيضا أطروحات ياسر عرفات (منذ لقائهما في القاهرة سنة 1974) حول “الحل السلمي” والدويلة، والتنازل عن حق العودة وعن حق تقرير المصير وعن فلسطين التاريخية والمحتل منذ 1948… وبدأ الحزب الإشتراكي يعترف ب”حق الشعب الفلسطيني في الوجود” بعد أن كان يعتبرهم “لاجئين عرب” (ياله من تطور !)… ولما وصل الحزب الإشتراكي إلى الحكم، سنة 1981، عين ميتران وزراء عقلانيين، يعتبرهم الرأي العام “متعاطفين مع القضايا العربيّة وقضايا العالم الثالث”، منهم ميشيل جوبير، وكلود شيسون، وميشيل روكار، وجون بيير شفينمان… وحرص الحزب الإشتراكي على تطوير العلاقات مع دول الخليج (التي بدأها جيسكار ديستان)، لضمان التزود بالطاقة، ولبيع الأسلحة والمنتوجات الفرنسية ( ورد الحديث عنها في فقرة أخرى)… وكان لميتران سبق تأسيس “منتدى المتوسط”، سنة 1988، وهو عبارة عن “مؤتمر لدول المغرب العربي ودول أوروبا الجنوبيّة، لبحث قضايا الأمن والتعاون الاقتصاديّ”، وهي الفكرة التي أعيد نقاشها خلال فترة حكم “جاك شيراك” (1995 – 2007)، ونفذها ساركوزي تحت اسم “الإتحاد من أجل المتوسط”، لكنها لم تعمر طويلا بسبب المساندة الفرنسية (والأوروبية) للعدوان الصهيوني على غزة أواخر 2008 وبداية 2009… وكانت السياسة الخارجية الفرنسية في عهد الإشتراكيين تهدف لإدماج “إسرائيل” في حوض البحر الأبيض المتوسط وفرض نوع من التطبيع القسري على العرب، شعوبا وحكومات، وطورت علاقاتها مع مصر بعد اتفاقيات “كامب دفيد” وتطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيوني، واصطفت فرنسا “الإشتراكية” وراء السياسة العدوانية الأمريكية ضد العراق وضد يوغسلافيا وأفغانستان، وتميزت فترة حكم الحزب الإشتراكي بشن حملات إعلامية عنيفة ضد بعض الأنظمة العربية، التي سجلتها أمريكا في خانة “الدول المارقة أو المساعدة للإرهاب” (في عهد رونالد ريغان) مثل ليبيا والعراق وسوريا، وضد إيران وضد المنظمات اللبنانية المقاومة للإحتلال الصهيوني في الجنوب، وضد الفصائل الفلسطينية المقاومة… وكان أول اجتماع دولي تحتضنه فرنسا “الإشتراكية” (بعد أشهر قليلة من انتخابات 10/05/1981) هو اجتماع “فرساي” للدول الرأسمالية الكبرى السبعة لمناقشة الأزمة الرأسمالية، وتحول بضغط من رونالد ريغن ومارغريت تاتشر إلى اجتماع لمكافحة الإرهاب (مثلما يحدث حاليا)، وكان محتوى البيان الختامي عبارة عن إعلان حرب على ما سمي إرهاب المجموعات والدول…
وتميزت السياسة الداخلية للحزب الإشتراكي الفرنسي بخصخصة القطاع العام (الإعلام، المصارف، الصناعات الثقيلة) وقضت على قطاعات المناجم والصلب، وخلقت ضرائب إضافية على الأجور والمعاشات، كما مكنت سياسة الحزب الإشتراكي فئة متوسطة من الإنتفاع من تسهيلات وقروض لتأسيس مكاتب استشارات أو مؤسسات خدمات أو تقنيات الإتصالات والإعلام أو المضاربة، وغيرها، واستثرت فئات متوسطة من الإستثمار في قطاعات غير منتجة… وعزز الحزب صفوفه بهذه الفئات التي مكنته من الفوز في الإنتخابات المحلية والإقليمية، وفاز ببلديات المدن الكبرى مثل باريس وليون وليل ونانت… التي اضطر العمال وصغار الموظفين والفقراء إلى مغادرتها، بسبب غلاء ايجار المسكن، والتوقف عن بناء مساكن عمالية وشعبية داخل المدن الكبرى، وتهجير الفقراء إلى الضواحي البعيدة…
وجهان للسياسة الفرنسية:
كانت فرنسا تستورد النفط الضروري لصناعتها سنة 1970، مناصفة بين بلدان المغرب العربيّ ودول المشرق، وبعد تأميم النفط الجزائري والليبي، أصبحت، بعد عقد ونيف، تستورد 75 بالمائة من السعودية والإمارات العربيّة وقطر والعراق، وتصدر إلى هذه الدول الثرية حوالي 60 بالمائة من إنتاجها الحربي، وبذلك ضمنت فرنسا التزود بالنفط الرخيص، مع بقاء الأموال في مصارفها، وامتصاص الفائض الخليجي، لتشغيل مصانعها الحربية (وغيرها) وإقناع المستثمرين الخليجيين بالمساهمة في المصارف والقطاعات غير الإستراتيجية وغير الحساسة… استمرت هذه السياسة منذ عهد الرئيس “فاليري جيسكار ديستان” (1974 – 1981) إلى اليوم، ومن المستبعد تغييرها، بما أن فرنسا (كدولة) هي المستفيد الأول من هذه السياسة، إضافة إلى تخلي الجامعة العربية والدول العربية وما تبقى من منظمة التحرير عن أي إشارة إلى “تحرير فلسطين” أو مقاطعة الكيان الصهيوني، بل شاركت دول عربية إلى جانب فرنسا في الإعتداء على دول عربية أخرى (العراق، ليبيا، لبنان، سوريا…)، ووطدت الحكومات العربية، وبالأخص الخليجية، علاقاتها مع دولة الإحتلال، وفتحت السعودية والكويت وقطر والإمارات والبحرين وغيرها أجواءها ومياهها وأراضيها إلى القواعد الأمريكية والفرنسية والأوروبية، وأصبح عدوها الرئيسي إيران (أما “إسرائيل” فهي صديقة) … وأصبحت الحكومات الفرنسية (والأوروبية) المتعاقبة تشترط توطيد العلاقات مع الكيان الصهيوني والتطبيع الثقافي والأكاديمي، وتغيير مناهج التعليم، ومحو أي إشارة إلى احتلال فلسطين أو تحريرها، قبل الموافقة على أي قرض أو “مساعدة” للدول العربية…
على الصعيد الداخلي، ومنذ تأسيس دولة الصهاينة، تعاملت الدولة الفرنسية مع الحركة الصهيونية، ثم مع دولة “إسرائيل” بعطف كبير، بسبب التقارب في الأهداف (الهيمنة والإستعمار)، وما أسماه بعض السياسيين والفلاسفة والمنظرين اليمينيين “الجدور اليهودية المسيحية” للحضارة الأوروبية (Les origines judéochrétiennes de la civilisation européenne) ، وسمحت الحكومة الفرنسية (وكذلك حكومات إيطاليا وبلجيكا وبريطانيا وهولندا وألمانيا…) لمخابراتها بالتعاون الوثيق مع المخابرات الصهيونية، لتصفية واغتيال المناضلين العرب والفلسطينيين، الذين يحاولون معارضة الدعاية الصهيونية…
اختطفت المخابرات الصهيونية، بالتعاون الوثيق مع المخابرات الفرنسية، سنة 1965 (في عهد الرئيس شارل ديغول)، المناضل الوطني المغربي “المهدي بن بركة”، المعارض للملك الحسن الثاني، والمعروف على الصعيد الداخلي والمغاربي كمناضل ضد الإستعمار، وعلى الصعيد العالمي كأحد أقطاب النضال ضد الإستعمار والإمبريالية وأحد أعمدة حركة عدم الإنحياز (عن كتاب شمويل سيغيف، “الرابط المغربي” (عن علاقات الكيان الصهيوني مع دولة المغرب)، الذي كتب مقدمته رئيس الموساد السابق “إفراييم هاليفي”، 2008)…
قامت المخابرات الصهيونية (بمساعدة المخابرات الفرنسية) بعمليات تصفية جسدية واغتيال المناضلين الفلسطينيين والعرب الذين يقومون بنشاط إعلامي سلمي في فرنسا (وحدث نفس الشيء في إيطاليا وبريطانيا وقبرص وبلجيكا، ولبنان وتونس…)، وتزامنت بداية هذه الإغتيالات مع حملة قتل واغتيال عنصرية ضد العمال المهاجرين العرب، وطرد وإبعاد العمال المناضلين من أجل حقوقهم إلى بلدانهم الأصلية… وكانت الجزائر قد أعلنت تأميم النفط، وإنشاء صناعة ثقيلة، وتعريب التعليم…مما خلق توترا في العلاقات مع فرنسا، التي كانت مهيمنة اقتصاديا وثقافيا، وترجم هذا التوتر بحملات إعلامية عنصرية ضد العمال المهاجرين العرب في فرنسا وضد أنصار القضية الفلسطينية، تجسمت على أرض الواقع في الإغتيالات والتصفيات الجسدية التي بقيت بدون عقاب، ولم تنشر نتائج التحقيقات… أما عن الإعتداءات والإهانات والشتائم اليومية في الشارع والمحلات العمومية وفي أماكن العمل، فحدث ولا حرج… وخلق هذا الجو المشحون ردود فعل المتضررين ( بمساندة بعض فصائل اليسار الجذري) الذين نظموا احتجاجات وتظاهرات وفعاليات مساندة لضحايا القمع والإضطهاد، وللشعب الفلسطيني، وكان للمهاجرين والمثقفين العرب الفضل الكبير في التعريف يقضية فلسطين باعتبارها قضية كل عربي وكل تقدمي وكل مؤمن بالعدالة والحرية، وعندما بدأ الرأي العام يتعرف على حقائق غيبها التعتيم الإعلامي والنشاط الصهيوني والمساندة الرسمية له، انتقلت المخابرات الصهيونية (والفرنسية والأوروبية عموما) إلى مرحلة أخرى تميزت باغتيال عدد من المناضلين في باريس (بالتزامن مع اغتيال المثقفين الفلسطينيين في لبنان)، منهم (خلال عشرية واحدة):
محمود الهمشري فلسطيني، ممثل منظمة التحرير الفلسطيني في فرنسا، قتلته قنبلة ناسفة وضعت في منزله في باريس يوم 8/ 12/ 1972 لأنه تمكن من بناء علاقات طيبة مع مختلف الأوساط السياسية والثقافية الفرنسية
باسل الكبيسي عراقي، أُستاذ في جامعة كاليغاري بكندا (1969)، عرف بنشاطه مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، اغتالته عناصر جهاز الموساد في أحد شوارع باريس يوم 6/ 4/ 1973
محمود أبودية جزائري، كان يدير مسرحا في باريس، وعرف بدفاعه عن القضية الفلسطينية، وقربه من منظمة التحرير الفلسطينية، اغتيل في باريس يوم 28/ 6/ 1973
محمود صالح فلسطيني، من “يسار” منظمة فتح، مؤسس “المكتبة العربية” في باريس، كان يعتبر أحد قادة العمل الوطني السري في أوروبا. اغتيل في باريس يوم 2/ 2/ 1977
عز الدين القلق فلسطيني، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في باريس، اغتيل في مكتبه في باريس يوم 3/ 8/ 1978 (كان منفذ الإغتيال فلسطينيا)
الدكتور يحيى المشدّ مصري، عرف بمناصرته للقضايا العربية والفلسطينية، خبير طاقة ذرية، أسهم في تأسيس المفاعل النووي العراقي، وكان متخصصاً في بناء المفاعلات النووية، قُتل في غرفة الفندق الذي كان يقيم فيه، بعد مباحثات أجراها مع لجنة الطاقة الذرية الفرنسية في باريس يوم 14/ 6/ 1980 (تبنى الموساد اغتياله فيما بعد)
يوسف مبارك فلسطيني، أحد مناضلي حركة فتح، صاحب المكتبة العربية في باريس، اغتيل في باريس يوم 18/ 2/ 1980
فضل سعد عناني فلسطيني، نائب مدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في باريس اغتيل في باريس يوم 23/ 7/ 1982
كما اعتيل في روما: محمد طه فلسطيني، يوم 16/ 6/ 1980 ، وخالد نزال يوم 09/06/1986، ومنذر أبو غزالة يوم 21/10/1986، ووائل زعيتر يوم 17/ 10/ 1972 ، وماجد أبو شرار، كاتب ومناضل فلسطيني، كان يشارك في مؤتمر عالمي لدعم الشعب الفلسطيني في إيطاليا، وضع أعوان الموساد قنبلة تحت سريره في الفندق في روما يوم 9/ 10/ 1981
كما اغتيل عدد آخر من المناضلين والأدباء الفلسطينيين في بروكسل ولندن وفي قبرص… وفي الدول العربية، منها لبنان: غسان كنفاني وكمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار، ومحاولات اغتيال المفكر الفلسطيني أنيس صايغ (1931 ـ 2009)، مدير مركز الدراسات الفلسطينية، مرتين على الأقل، وفي تونس ( أبو جهاد وأبو إياد) إضافة إلى الغارات الجوية الصهيونية على ضاحية حمام الشط، الذي ذهب ضحيتها عدد هام من الفلسطينيين والتونسيين يوم 01/10/1985… الخ .