نحن نعجز حتى عن صناعة أوهامنا!

غالب العلي

 

الدولُ العربية التي قاومتْ غزواتِ الغرب الحديثة، وتلك التي استسلمتْ وتحولتْ إلى دولٍ تابعة لهذا الغرب، أخذتها أوهامٌ إستراتيجية فريدة من نوعها.

* فكلها على حدٍ سواء تفصلُ بين الاقتصاد والسياسة والقوة العسكرية كما يفصلُ أي صحافي عربي ثرثار، أو كاتب تعليق صفيق في فضائية.

* وكلها على حدٍ سواء تفصلُ بين التحالف الغربي وبين هراوته المسماة “دولة إسرائيل”.

 * وكلها، كما هو الأمرُ في الوقتِ الراهن، لا تستطيع رؤية أن العصاباتِ التي تنتحل الأسماءَ والشعاراتِ الإسلامية والليبرالية (قاعدة، وإخوان، وسلف، ونطائح ومترديات أحزاب يسارية وقومية.. وهلمجرا) ليست سوى مناخسَ مخرِّبة يحركها مجمعٌ مخابراتي غربي، أمريكي وألماني وبريطاني وفرنسي، وذيولٌ له سعودية وأردنية وباكستانية وتركية وصهيونية.

 * وكلها تجهلُ، أو يتجاهل جهابذة مستشاريها وعباقرتها، أن الصراعَ القائم الآن تحرّكهُ استراتيجية أمريكية جديدة تسعى منذ نهاية الحرب الباردة إلى العمل على محورين: الأول: التغلغلُ في ما تسميه “الشرق الأوسط” وإعادة تشكيله ليكون قلبَ الإمبراطورية الأمريكية الثالثة بتعبير صحيفة نيويورك تايمز منذ 2 يناير 1996.

قلبُ هذه الإمبراطورية هو بالضبط مجالُ السيطرة العثمانية البائدة، أي من البلقان حتى الخليج الفارسي بتعبيرهم. وتم التمهيدُ لهذا بتدمير يوغوسلافيا والتهيؤ لجعل البلقان الحدودَ الغربية لهذا الامتداد الأمريكي. وفي قلبِ هذا المحور يقع دعمُ عصاباتِ الحركات المنتحلة لصفة الإسلام والليبراليين من مختلف الجنسيات التي رأيناها تصعد في يوغوسلافيا وفي ليبيا وتونس ومصر، ونراها الآن تتجمع في حرب شرسة على سوريا وإيران والمقاومة اللبنانية. والهدف الأساس لهذا الامتداد ليس كما يشيع بلهاء وسائط الإعلام العربية و”قطيع” من منتحلي صفات المفكرين والمحللين، إقامة إمارة إسلامية عالمية، بل إقامة زعامة أمريكية تجند قطعان من اللحى والعباءات وأصحاب الأقنعة الشيطانية في خدمتها.

الثاني: السيطرة على قلب آسيا، لضمان ديمومة سيطرة “خليفة” المسلمين الجديد، أوباما أو رومني أو أي اسم آخر تقترحه شركات الطاقة والسلاح وأسواق المال الغربية، تمهيدا لمد سلطة هذا “الخليفة” إلى أفريقيا أيضاً. ويجد أي متابع لخريطة هذه الامتدادات في دول آسيا الوسطى وشرقنا العربي وأفريقيا شمالا وجنوباً، إن من يجرون عربات الغزاة يحملون الصفات الاسلامية المنتحلة ذاتها، وينشرون الفقه الإجرامي ذاته الذي صنعته دوائر المجمع المخابراتي الغربي نفسه.

لقد كان تعزيزُ بضعة أوهامٍ استراتيجية من التي وصفناها كافياً لتعجز حتى الدول المقاومة عن الردِ المناسب، وتضيّع البوصلة مرات ومرات، فيقاتل المقاومُ أشباح خيال الظل، من دون أن يدرك أن محرك هذه الأشباح هو ذاته الذي يعتمد عليه في غذائه وتجارته، فيلبس ما يرسله إليه ويستخدم ما يفيضه عليه من قمح ورز وأجهزة تسلية تقنية، ويرسل إليه شبانه ليتلقوا “العلم” على يديه!

التحالف الغربي بكلمة مختصرة هو رأس التنين الغازي، وما هؤلاء الذين اختلقهم، إسرائيل والقاعدة والإخوان المسلمين والسلف وما إلى ذلك من تسميات، إلا استطالاته وامتداداته في أعماق هذا الوطن المنكوب بالأوهام. صحيح أن سحق هذه الإستطالات مهم، إلا أن انعدام الوعي بوجود رأس التنين سيظل مقتل كل مقاومة.

الرد الاستراتيجي العنيف الآن على تمدد الإمبراطورية الأمريكية الثالثة يجيء من تحالف شنغهاي، وفي قلبه روسيا الاتحادية والصين، سواء في دائرة المحيط الهادئ وشرق آسيا أو في المجال الجغرافي/السياسي الممتد من أفغانستان إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط.

ولعل تهديد إيران بضرب كل القواعد الأمريكية في المنطقة إن تجرأت إسرائيل على إرسال طائراتها إلى السماء الإيرانية هو الصحوة الوحيدة والحقيقية في بلاد غمرها الأغبياء والمنتفعون والمتآمرون بنظريات مقاتلة الأشباح وترك محركها يضحك في عبه، ويزيدهم وهماً بعد وهم، في أنه شيء آخر يأخذون عليه تارة خرافة ازدواجية المعايير،أو يأخذون عليه أنه يرتكب “أخطاء” ولا يرى أين تقع مصالحه تارة أخرى.. إلى آخر هذه السلسلة البلهاء من الأفكار المجوفة، والتعليلات السخيفة. والمفارقة أن من يزودهم بهذه الخرافات هي مصانع هذا التحالف الغربي ذاته وصحافته وفضائياته التي تملك أكثرها نفوذا شركات الأسلحة والطاقة وأسواق المال. إننا لا نبتلع منتجات الغرب وسلعه فقط، نحن العاطلون عن انتاج أي شيء، بل ونبتلع ما يصدره لنا من أوهام أيضاً. نحن نعجز حتى عن صناعة أوهامنا الخاصة.