كفى وهماً

عبد اللطيف مهنا

عادةً ما تستشري الدونية في زمن الضعف والإنهزامية وتتالي الإنكسارات ويطل منظِّروها برؤوسهم المطأطئة. وهي إذ يعم بلاؤها، تنتعش بها ومعها صناعة الوهم، ويغدو مشيعوه ومروِّجوه الأكثر صفاقةً والأشد تهافتاً. الواقع العربي عاش عقوداً عجافاً وفَّر قحطها بيئةً ولا أنسب لمثل هذا. الأمثلة لا تحصى، نختر منها واحدا من مستطاب الأوهام لدى مثل هؤلاء الواهمين، نعده أُساً لبلاءٍ دائمٍ، بل لعل فجاجته هى الأكثر وقراً في وجدان أمتنا المثلوم بما عادت به عليها مهانات الهزائم. إنه المتعلق بما يروِّجوه لصالح ألاعيب السياسة الخارجية الأميركية في بلادنا وجوارها الإسلامي، بكل أوجهها العدوانية، وفي المقدمة منها الشق الصهيوني المعروف، وصولاً إلى نهب ثرواتنا ومصادرة أحلام اجيالنا القادمة. ركض هؤلاء كثيراً محاولين جرِّنا معهم خلف سراب عدالة العم سام المعدومة ومراهناتهم على إحتمال إفاقةٍ لنزاهته الموهومة من غيبوبتها الصهيونية التليدة. لن نتحدث عن كل ما يتعلق بأميركا والصراع العربي الصهيوني، هنا الحديث يطول، وكنا قد تعرّضنا له في مقالنا السابق. اليوم سوف نعرض للحالة الأوبامية الأميركية التي يسعى صاحبها جهده راهناً لتجديد ولايته نهاية عامنا هذا، دون أن ننسى الإشارة إلى كيف أثار قدومه إلى البيت الأبيض قبل أربعة أعوامٍ زوابع إيهاميةٍ ضاجةٍ في بلادنا، من شأنها أنها قد دوَّخت حينها واهمينا وأخرجتهم عن وقارهم وحتى من جلودهم. كان لإطلالته الإسطنبولية “الإسلامية” الشهيرة وتاليتها في جامعة القاهرة ما دغدغ عواطف الكثيرين من مستلب نخبنا وواهمينا وأخرجهم عن طورهم. يومها سمعت أمتنا الثكلى، والمترعة بمرارات المكتوي بعقود توالت فيها مرات لدغات عدوانية الجحر الأميركي، التصفيق الحار للخطيب الأميركي المفوَّه  الذي أعادوه عنوةً أو كادوا مترجماً إلى نسختة السواحيلية التي نساها، بركة بن حسين أبو عمامة ! لم تدم عمامة ابو عمامة تلك على رأسه إذ خلعها بمجرد مغادرته المنطقة معيداً إليه قلنسوته، هذه التي نشاهدها يومياً على رؤوس “الحراديم” المغتصبون أمام حائط البراق في القدس الشريف. حينها كتبت واصفاً مسألة قدوم أوباما إلى السلطة باللحظة التي حاولت فيها المؤسسة تجميل وجه أميركا القبيح بتغيير لونه لاجوهره، وإن الرجل، وبعيداً عن فصاحته وخلَّبي وعوده، حتى وإن حسنت نواياه، هو صناعة مؤسسة، كما ولأسباب عددتها، ومنها لونه بالذات، يظل الأضعف من أن يخرج قيد أنملةٍ على سائد من صنَّعته، ومشيئة الكارتيلات، وثوابت الإمبراطورية الإستراتيجية في مرحلة صيرورتها الراهنة المنحدرة، لاسيما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والشق الذي يعنينا منها. لقد أثبتت فترة رئاسته الأولى صحة ما ذهبنا يومها اليه، قدمت لنا رئيساً أميركياً فاخرت حملته الرئاسية، قبل أيام فقط، بأنه كان خلالها أكثر رؤساء الولايات المتحدة كرماً مع الكيان الصهيوني.

واهمونا أنفسهم أستيقظوا قبل أيام مهللين استبشاراً بحديث الخلاف المبالغ فيه بين أوباما ونتنياهو حول مسألة الخطوط الحمر الأميركية التي يطالب الأخير الأول بوضعها في وجه المشروع النووي الإيراني ورفض هذا لها. أنشبوا اظافرهم في عبارة وردت في مقابلة تأتي من لزوميات حملته الإنتخابية الدائرة هذه الأيام. قال ما معناه إن المصلحة الأميركية هي من يحكم قرارته حول المسألة، وأنه لا يلقي بالاً “للضوضاء” النتنياهوية وهو يتخذها. هؤلاء يتناسون جملةً من الحقائق الأميركية التي لم يعد أحداً حتى في الولايات المتحدة يتجاهلها أو يخفيها، واهمها :

إن الولايات المتحدة المأزومة إقتصادياً، والتي تعيش بدايات العد العكسي لمرحلة افولها الإمبراطوري، بما نشهده من مظاهرٍ للتراجع في سطوتها الكونية وتراخٍ لقبضتها على عنق العالم، وتخبط مشاريع هيمنتها في أكثر من مكان فيه، وفشل الإدارة الأوبامية الذريع في تحسين الوجه الأميركي المزداد قبحاً في نظر عالمنا، هى الآن، لاسيما على الأبواب الإنتخابية، الابعد عن القدرة والمشيئة، رئيساً، وإدارةً، ومؤسسةً من ورائهما، في إحداث تغيير ما في جاري السياسة الخارجية، لا فيما يتعلق بمنطقتنا ولا في  العالم على إتساعه. تغيير ليس من باب التحسين، وإنما قد يققل من سوءاتها أو حتى يزيدها، لاسيما في غمرة صراعها المتشبث عبثاً بوحدانية قطبيتها هلة المتآكلة على ضوء التحولات الكونية الجارية، وتعدد بروز مراكز القوى الصاعده الطامحة لأخذ نصيبها من كعكة قرار العالم.

ثانيها، إن ضربة نتنياهو العتيدة للمشروع النووي الإيراني، التي لن يسمح له الأمريكان بتوجيهها وليس بقدرته توجيهها وحده، هى بكل المقاييس موجهة للمصالح الأميركية في المنطقة، وستكون نتائجها، إلى جانب الفشل، وبالاً على هذه المصالح والمصالح الأوروبية والكونية إجمالاً، بالنظر لمسألة تدفق الطاقة، ثم عائد التداعيات في منطقة بلغ سيل الكره فيها للأميركي القبيح الزبى، وحيث أثبتت ردة الفعل الشعبية على فيلم الإسائة لنبي الأمة الأعظم أن ركوب الغرب لموجة الحراك الشعبي العربي، أو ما أطلقوا عليه “الربيع العربي”، ليس بمركبٍ مضمون النتائج، خصوصاً بعد درس القنصلية في بنغازي.

كفى دونية. كفى صناعة بائرة للوهم. أميركا لن تخرج من جلدها ولا تستطيع، حتى ولو غيرت لون بشرتهاً لا جوهرها لمرة ثانيةً في بيتها الأبيض.