عبداللطيف مهنا
كان أكثر من إستبشروا خيراً من العرب بمصر مابعد 25 يناير هم فلسطينيو قطاع غزة. كانوا الأكثر مراهنةً على التحولات المنتظرة التي أطلقت رياحها ميادين التحرير المصرية، وبالتالي الأشد حماسةً لها. وكان هذا منطقياً ويعود موضوعياً للأسباب التالية :
الأول، كون قطاع غزة يكابد حصاراً رهيباً يتعاون في إحكامه العدو الصهيوني والغرب وعربهما. حصار لعل الأشد إيلاماً فيه هو شقه العربي، لاسيما ذاك المباشر منه الذي يسهم به نظام مصر حسني مبارك بإغلاقه لبوابة رفح على الحدود المصرية الفلسطينية، المتنفس الوحيد لأكثر من مليون وما يقرب من ثلاثة أرباع المليون من البشر المحاصرين في مساحةٍ صغيرةٍ مكتظةٍ تضيق بهم. واستغلاله لهذه البوابة، التي قد تفتح جزئياً بين حينٍ وآخر لأيام قليلة وحتى ساعات ثم تغلق، في سياق محاولات تدجين المقاومة الفلسطينية لصالح مخططات التصفية الدائرة للقضية الفلسطينية، أووفق متطلبات دور السمسرة الموكلة اليه… كان سقوط ذالك النظام في نظر محاصري القطاع يعادل حلمهم بسقوط الحصار الجائر ووضع نهايةً لعذاباتهم التي طالت، ولإيمانهم بأن الشعب المصري الذي صنع ملحمة ميادين تحريره لم يكن يوما مع هذا الحصار الإبادي على اشقائه، واثبتت عقود من رفضه للتطبيع مع العدو الصهيوني أن فلسطين تظل المقيمةً في وجدانه بل ويزداد رفض ضياعها لديه مع الأيام رسوخاً.
الثاني، لقد كان من بين ما اطلقته ميادين التحريرالمصرية شعار استعادة مصر لدورها الريادي ومكانتها القيادية وتأثيرها في أمتها العربية والمنطقة، الأمر الذي يعني بالضرورة وتلقائياً عودتها لتحمُّلها لمسؤلياتها التاريخية تجاه أمتها وقضاياها، إذ لاعودة لمصر لادوراً ولا مكانةً ولاتأثيراً في أمتها وبالتالي في منطقتها والعالم بدون ذلك، وهنا تظل البوصلة كما كانت دائماً هى فلسطين كقضية قضايا مركزية للأمة مهما حاول المتنصلون التنصل منها.
الثالث، إن مصر، المنتفضة المطالبة ب”عيش، حرية، عدالة، وكرامة إنسانية”، حتام ستصطدم بمخلفات التركة الثقيلة لعهد التبعية المباركي الشائن وارتهانه المذل للمشيئة الغربية وخضوعه المهين لإشتراطات فتات المساعدات الإميركية باهظة الثمن طال الزمان أم قصر، الأمر الذي سينعكس لامحالة على السياسة والمواقف الرسمية المصرية بالضرورة من القضايا القومية لاسيما دعم النضال الفلسطيني، وفي الإجمال لقد إستبشر فلسطينيو المقاومة على إختلاف مشاربهم بالحدث المصري، وانتظروا حقبةً مصرية ًجديدةً إستولدتها دما الشهداء في ميادين تحرير مصرهم الجديدة سوف يكون لها مابعدها… ومع إنتعاش الآمال الفلسطينية التي تسوِّغها هذه الأسباب الثلاثة، كان الفلسطينيون إجمالاً وليس في غزة فحسب على فهمٍ وتفهُّمٍ وإدراكٍ عالٍ لأولويات مصر الخارجة للتو من ربقة العهد البائد بما خلَّفه لها الكامبديفيديون مما تنوء بحمله فلايطالبونها بما هو فوق طاقتها وإن ظلوا ينتظرون منها الكثير.
في مواجهة الحصار الرهيب ابتدع الفلسطينيون وسيلةً تسمح لهم بتوفير الحد الأدنى لممارسة صمود هم ومواصلة البقاء وهى الأنفاق، وبالمقابل نمت على هامش هذا الإبتكار النضالي شريحة مصرية أفادت من عمليات التهريب عبرها، كما دفعت الأتاوات الشهرية لمسؤلي الأمن لتسهيل ذلك، وكان نظام مبارك يغض الطرف غالباً عن ذلك مع التحكم فيه. وبعد سقوطه، أو بالأحرى سقوط رأسه، سمع الفلسطينيون ممن خلفوه الكثير مما يوحي بقرب إنتهاء الحصار، أو الفتح الكامل لبوابة رفح، وطال انتظارهم، فما الذي تغيَّر؟!
إيجابياً لم يتغير شيء يذكر. بوابة رفح لازالت مغلقة إلا بمقدار لايزيد كثيراً عنه أيام مبارك. أما الى الأسوأ فالتغير كبير. الأنفاق، التي هى بمثابة ما يرد الروح للمحاصرين، يجري هدمها بدايةً بذريعة أحداث سيناء، التي، وباعترافٍ رسميٍ متأخرٍ، لم يكن للفلسطينيين فيها ناقةً ولاجملاً، بل لعل في التمديد لعمليات الجيش والأمن المصري، والمستمرة حتى الآن، ضد مايطلق عليها “التنظيمات المتطرفة” هناك، ومواصلة الأخيرة لعملياتها ضد الجيش والكيان الصهيوني في آن، مايؤشر على عمق هذه المشكلة وتعقيداتها واستفحالها، بفضلٍ من الإنفلات الأمني السائد في شبه الجزيرة برعاية “كامب ديفد” وملحقاتها الأمنية.
ومع هذا، فأنت تسمع اليوم في مصرماكنت تسمعة فيها قبل 25 يناير من إنكارللحصار في شقه المصري والتغني بتزويد القطاع بما يحتاج، وهنا إشارة خادعة إلى الشحيح البخس المسموح به صهيونياً عبر معبر كرم ابوسالم وتحت رقابة العدو فارض الحصار وبعد موافقته، والذي لايسمن ولايغني من جوعٍ، وبهدفٍ واحدٍ هو إبقاء الرمق الآخيرللقطاع المحاصر لاأكثر.
حصار قطاع غزة الأبي الصامد جريمة بشعة تدين الغرب وصهاينته وكل من يتواطىء معهما، أو من يشارك فيها، أو يصمت عليها، ومن العار مساهمة العرب فيها أو قبول إستمرارها، وهدم الأنفاق دون فتح معبر رفح تصعيد للحصار وفعل لم يقدم عليه حتى مبارك !