عادل سمارة
- · مثقف ما ـــ بعد البحار
- · الوطن كمكان
- · المثقف المشتبك
تناقش هذه السلسلة مفاهيم ومصطلحات، وضعتُها واستخدمتُها على فترات متفاوتة، ولا ازعم أنها ثوابتاً لا لديَّ شخصياً ولا لدى الزمن. ولكنها محاولات لإعطاء معنى لأحداث وموضوعات وحتى لمفردات تتطلب ذلك. ليس هذا نحت لغة أخرى مثلاً كما زعمت النسويات الراديكاليات بخلق لغة ضد ذكورية فاصطدمن بحائط أدى إلى الصلع الفكري، ولا كما يزعم من يتهربون من الفكر الشيوعي بتهمة أنه –اوروبي- فيرفضون أدواته في التحليل ويحاولون خلق أدوات أو لغة أخرى، نحن بانتظار إنتاجهم!
اللغة نتاج البشرية، والعبرة في تحميل المعنى وتحرير الأدوات. هذه محاولة لتحرير المعنى من أجل تحرر الإنسان، هي إعلان انفلات اللغة وتحررها من قيود فُرضت عليها سواء من مفكرين/ات أو مؤسسات، اي خروجاً على التعليب. وعليه، فهذه المعاني مفتوحة سواء على تطورها/ تطويرها من الكاتب او اي قارىء.
“كنعان”
* * *
22) مثقف ما–بعد البحار
ذات وقت خطر لي ان اسمي عرب المهاجر ب القطر العربي الثالث والعشرون نظراً لعددهم بالملايين ولإمكاناتهم الاقتصادية سواء في المِلْكية او الاستهلاك وفرص مساهماتهم في القضايا العربية وخاصة إعلاميا. بالطبع هم مفتتون كما الوطن الأم لكنني لا زلت اعتقد ان بوسعهم عمل شيئ ما. مثلا الجزائريون في فرنسا حسموا الانتخابات ضد ساركوزي.
لكن معرفتي بكثير من المثقفين العرب في المهاجر دفع إلى توليد مصطلح مثقفي ما –بعد البحار نسجاً على معنى مثقفي ما بعد الحداثة وغيرها.
هؤلاء المثقفون يتعاطون مع الشؤون العربية ببرود المراقبين او واصفي مباريات كرة القدم، ويلعبون دور المعلمين الذين يقولون لمن في الوطنن إعملوا كذا، والصحيح كذا…الخ. مشكلة هؤلاء هي في عدم التواضع وعدم الانتماء، فبالنسبة لهم هم هناك في درجة من الراحة لن يدفعوا ثمن الفشل او الهزيمة أو خراب الوطن، وفي حال تحسن اوضاعه فهم يفرضون انفسهم كطليعة المواطنين. هم إن شاؤا أسموا انفسهم عرباً وإن شاؤا نسبوا انفسهم للبلد الذي هم فيه. وهم، وهذا الأخطر، يُراعون التيار المهيمن حيث هم، حتى لو تناقض تناحرياً مع مصالح الوطن العربي. في هذا السياق، يصبح المثقف غير العربي هناك افضل منهم لأنه اعلى من حيث الانسجام مع النفس. مثقف ما –بعد البحار ينظر إلى الوطن كمكان.
برز دور هذه الفئة في بداية التسعينات حينما كان المركز الإمبريالي الغربي يجهز لاحتلال العراق حيث وقفت هذه الفئة مع العدوان على العراق بحجة ان الكويت دولة معترف بها في الأمم المتحدة مع انها مقاطعة عراقية. لقد استدعى هؤلاء الاستعمار. وتكرر موقفها في لعب دور العرَّاب الذي اخذ قيادة منظمة التحرير إلى احضان الإمبريالية الأميركية فكانت ولادة اتفاق اوسلو، والطريف ان هؤلاء بعد دورهم في استدعاء الاستعمار وحصول هاتين الكارثتين تحولوا لناقدين للحدثين كما لو كانوا ضدهما اصلاً. وكرر هؤلاء استدعاء الناتو لتدمير ليبيا ويستميتون اليوم في استجداء الناتو لتدمير سوريا وفي افضل حالاتهم، ليسوا قلقين على نتيجة الصراع على سوريا وكانهم يلعبون لعبة رياضة ذهنية أو يديرون حربا على شاشة التلفاز!
23) الوطن كمكان
المكان اسبق من الوطن، هو اقرب إلى الطبيعة. ومع انتقال البشرية إلى السياسة عبر أو على أنماط إنتاج اثرت بها في الطبيعة او الحيز فحولته إلى فضاء تتحكم به تسحقه وتعيد إنتاجه، لكنه مع ذلك يبقى مكاناً. ولم يتحول المكان إلى وطن إلا بعد انتقال البشرية إلى الاجتماع وتبلور الشعوب وتحول القبائل إلى امم ومن ثم تبلور الشعور القومي وكل هذا مرتبط اساساً بالصراع بين الأمم مما يخلق الوطنية إلى جانب المواطنة بالطبع.
بعض الكتاب، في زعم انهم امميون أو إنسانيون، يجادلون بأن الحرص على وجود وطن هو ضرب من الملكية الخاصة والشوفينية حيث يرفضون مسالة الوطن بحجة فهمهم الخاص للشيوعية والإنسانية. وهم بهذا يحرفون المسألة عن سياقها التاريخي والحدثي من حدث. فالوطنية تأتي غالباً رداً على تحدٍّ خارجي عدواني او تحريضاً من اجل التجنيد للقيام بعدوان خارجي. والدفاع عن الوطن هو دفاع عن الوجود وليس من المنطق حصره في إطار ضيق هو الملكية الخاصة بالمعنى الفردي.
إن النظر إلى الوطن كمكان يعني عدم الانتماء إليه ولا الدفاع عنه، وتركه حين الأزمات والاحتفاظ، بناء على حق المواطنة بحق العودة إليه وقتما تعود ظروفه مريحة. وهذا تحديداً ما يُشعر المناضلين بافضلية ما لأنهم دافعوا عن الوطن فما بالك بالشهداء الحقيقيين.
من بين من ركَّزوا على المكان لصالح الوطن كان الفيلسوف ميخائيل أدورنو من مدرسة فرانكفورت. وادورنو يهودي وهو منسجم مع حال اليهود الذين لا يعتبرون انفسهم جزءاً من كل امة هم موجودين فيها بسبب اختلافهم عن الدين هناك وليس عن القومية. يعتبرون أن وضع اليهود الطبيعي هو المنافي مؤمنين، وإن لم يعلنوا بوضوح، بزعم التوراة ان اليهود طُردوا من فلسطين.
والتوراة رواية اسطورية لا تاريخية ولا علمية. وليس شرطاً أن يكون أدورنو متطابقاً مع هذه الرواية ولكن المهم انه من منظِّري نظرية المكان وليس الوطن. وقد تاثر الراحل إدوارد سعيد بأدورنو بقوله : “أنا اليهودي الأخير” وتنظيره بلا ضرورة الوطن. وهذا موقف يتناقض مع النضال الفلسطيني لحق العودة بغض النظر إن كان قد جادل ضد هذا الحق أم لا.
24) المثقف المشتبك
كل فكرة وليدة الواقع، والواقع هو الوجود المادي الذي واجهنا بل تحدانا لنبلغ نحن البشر لحظة الوعي الأولى لينطلق هذا الوعي في جدلية ابدية مع الواقع ذاهبين معاً في ارتقاء لا حدود له يتطور بين تحدٍ ووعي مضاد أو مقاوم وصولا لما هو أعلى واوعى. وهكذا يظل الإنسان حاضنة او رحم الوعي التي تتوسط الوجود والوعي وبدون هذا الإنسان الذي يصبح واعياً لا يكتسب الواقع معناه ولا يرتقي الوعي إلى ما نرى ومن ثم نحلم.
ليس المثقفون فريقاً واحداً، هناك تنويع هائل من المثقفين لأن لكل بيئة تحدياتها ولكل عقل قدرته على الاستجابة والرد والتاثير في البيئة.
أما هذه الكلمة ففي حق المثقف المشتبك. هو مشتبك لأن ما يفهمه هو ذخيرة لإطلاق نور التفكير مما ينفي عنه صفة السِجِلْ، فهوحالة سجال حتى مع من يتقاطع معهم، يبحث عن ما هو ابعد من النص، مأخوذ بالرؤية فليس مجرد مُقرىء. يبحث عن النقاش والجدل، بل هو وليد الجدل والتناقض. كل فكرة فيها معنى ولكن لا بد أن فيها ضعفاً ما، جميل ان نفهم المعنى وجميل ان نرى عدم اكتمال المعنى لنصل إلى ما هو اعلى. وعي المثقف المشتبك لا يساوم ولا يهدأ هو يمتطي حصان الجسد حتى يكبو.
المثقف المشتبك مهموم مشغول بالناس بنقل ما لديه إلى الاخرين لأنهم أولاً اعطوه، هو تراكم المعرفة من اجل الثورة، لذا هو الوجه الإنساني النقيض لتراكم الثروة التي هي دعامة الثورة المضادة. تراكمان يقفان كضدين لا يجمعهما سوى مواصلة البحث: تراكم المعرفة بحثاً عن تغيير العالم وتراكم الثروة بحثاً عن استغلال الإنسان. هذا قلق في اتجاه وذاك قلق في اتجاه نقيض. هذا يقوم على القيمة الاستعمالية للوعي مجسداً في فكرة وذاك يقوم على القيمة التبادلية للمعرفة مجسدة في سلعة وصولا بالربح اللامحدود إلى التراكم اللامحدود. أما القيمة التبادلية هذه فهي التي “سلَّعت- من سلعة” الكثير من المثقفينن فصاروا بضاعة تمشي على قدمين عارية من الأخلاق تعرض نفسها في السوق وتفاخر بعُريها من المعنى الأساس، معنى الوجود الإنساني. كان من اقدم هموم الإنسان البدائي ستر عريه، أما عصر ما بعد الحداثة، ففيه مفاخرة بالوعي العاري.
يفتح هذا لنا على الضرورة الاجتماعية الاقتصادية الثقافية الطبقية في التحليل الأخير التي ولَّدت المثقف المشتبك. وهذه الضروررة هي تجسيد الحق، هي التحدي في الرد والصدِّ للزيف وامتهان وعي الناس وبيعه واستخدامه.
فالمثقف المشتبك بما هو وليد روح المجتمع، روح الإنسان عامة، يتجاوز كونه تجميع معارف بل يتجاوز كونه ثوري ونقدي ذاهباً حيث الاشتباك، لأن الوعي اللاإنساني هناك يقاتل البشرية. لذا يبحث المثقف المشتبك عن بؤر الصراع ويكون فيها. من هنا ليس مجرد سجل، بل حالة مقاومة مبنية على كون الحياة مقاومة او صراع. ولولا عدوانية مثقف السوق والقيمة التبادلية والاستغلال والاضطهاد وانتهائه بالإنسان إلى الاغتراب بتنوعاته، ومنها الاغتراب الجسدي الوجودي عن الوطن، حالة فلسطين، لولا هذه لكان المثقف المشتبك رساماً او شاعر غزل تحبه كل النساء لأنه يحبهن جميعاً.
في حالتنا العربية يشتبك المثقف مع مختلف انظمة الحكم، ليس فقط لأن لها جرائمها وانحرافاتها بل حتى لمجرد كونها أنظمة بل طالما في مجتمع طبقي فهي نقيضة وعيه بلا مواربة. ويشتبك مع مثقفي السلطان، ويشتبك بلا توقف مع المثقفين في خدمة الاخر، أي مثقفون في خدمة عدو الأمة.
ويشتبك مع مثقفي الاستدعاء الذين استدعوا احتلال العراق الذي ما زال لحم نسائه واطفاله شواءً يُقدم للغرب الراسمالي وخاصة قادته وشركاته الكبرى، وتُرسل اطباق كثيرة من هذا اللحم الإنساني المشوي إلى تل ابيب ليأكل شيلوخ اللحم شواءً. لا يُشوى لحم الإنسان بوعي سوى في عصر راس المال وريع النفط المفخخ في الخليج، يُقدم مغلَّفاً بلفافات الحرية والدمقرطة وحقوق الإنسان. وحين يوضع الطبق على طاولات اوباما وساركوزي وهولاند واحفاد بلفور ونتنياهو، يقهقهون وهم ينزعون لفائف الحرية لتوزع لهم هيلاري ذلك اللحم في أطباق من ذهب صثقلت من مصاغ بلقيس ملكة اليمن السعيد في الماضي. توزع هيلاري الأطباق بعد أن تنعكف سيقان أبناء سعود وآل ثاني وهم وقوفاً يحملون الأطباق على رؤوسهم خدماً للحفل الماسوني وورائهم سيل من الحكام العرب بين حامل الماء أو الصابون أو عود الند والرند لتسويك أنيابهم/ن.
يشتبك المثقف المشتبك مع مثقفي الصدى الذين يلهجون بترديد ما يُكتب في الغرب الراسمالي، يلهجون ويلهثون لأنهم لم يتمثلوا ما يرددون كمن ابتلع الحصى.
المثقف المشتبك لا يقبل الحياد، فمصير البشرية لا يحتمل مثقفاً محايداً يجيد التلطي خلف المجرد والرمزي والفلسفي الذي يُباعد بينه وبين الواقع المر. هذا المثقف يأخذ دوه في الصف وينفق عمره مشتبكاً، لذا لا يعرف في عمره الردة ولا التخاذل ولا التقاعد. وفي النهاية هذا المثقف دور دائم في النقد والتصدي.
دوره دائم لأنه مثقف تاريخي ليس يوميا ولا لحظياً، هو حالة تأسيس، حالة تناضل لتصحيح مسار التاريخ الذي اختطفته الملكية الخاصة والطبقات المستغِلة ومؤخراً رأس المال بتنوعاته: الإنجلو ساكسوني، والفاشي والنازي والصهيوني والريعي النفطي..الخ. وهزيمة هؤلاء ليست مسألة وقت قصير، لذا، لا ينتظر المثقف/ة المشتبك/ة أكاليل الغار على راسه/ها، لكنه يعلم أن النصر آت وأن أحداً في يوم قد يكون قريباً سوف يُتوَّج بإكليل الغار، واحد أو واحدة. هذا المثقف مقاوم، ومن يقاوم هو في طريق الانتصار كمشروع وليس كفرد.