الخلاص الوحيد


أحمد حسين

 

النظام السوري السياسي ليس طوباويا أو ساذجا. إنه فقط مضطر إلى خوض اللعبه بأوراق معظمها غير مضمونة. يكثر من الحديث عن الحل السياسي السوري – السوري، وهو يعرف أن هذا مستحيل. فهو حتى وإن اعترف بوجود معارضة سورية ” نقية “، أي موجودة خارج نوايا إسقاط النظا م بأي ثمن، إلا أننا لا نكاد نفهم ذلك حتى بصعوبة. إذا وجد مثل هؤلاء، فإنهم حاليا جزء من لحمة النظا م والشعب الوطنية المقاومة، ولا حاجة لمفاوضتهم لأنهم خارج أي طرح غير طرح االمقاومة. ويثبت كل يوم أن معظم الشعب السوري هو في صف بلاده ونظامه بدون أية تحفظات. وبما أن البلاد تعيش حربا عدوانية تستهدف وجودها البنيوي كاملا، فالمعارض السوري الوطني لا يعتبر نفسه الآن في حالة معارضة، بل فى حالة إنقاذ وطني عاجل، باعتباره مواطنا سوريا فقط في هذا الظرف. فحق المعارضة الوطنية للنظام يسقط تلقائيا بوجود التهديد الخارجي داخل الوطن وعلى حدوده. وهكذا فأن المعارضة ” الوطنية ” التي يتحدث الإعلام الوطني السوري عن مفاوضتها ليست وطنية حقا، بقرينة التفاوض والمعارضة معا. هي جزء فعال من بنية المؤامرة الدولية على سوريا أيضا، بقرينة أن ما يحدث في سوريا هو حرب دولية وتدخل عسكري تدميري وإجرامي، وليس صراع معارضات. هناك بوضوح زواج سفاح بين المعارضة “الوطنية ” السورية والإرهاب، يشكل الجوهر التمريري للحرب الأقذر في التاريخ الهمجي المعاصر. العروس الجميلة في رداء الطهارة، وحدها هي التي قد تمرر طلعة العريس الكربهة تحت لواء الحب. معارضة، ايا بدا زيها ومستواها غارقة في الدور التآمري منذ البداية وحتى الآن. تعايش الأحلام الوردية للحرب الإرهابية على طريقتها وتقدم الدعم التجميلي لحرب كلها إرهاب، وتلعب لعبة الإنتظار الإنتهازية للتطورات، وكأن هذا بحد ذاته ليس جريمة وطنية، حتى بدون تداخلها الميداني المياشر مع الإرهاب. المعارض الوطني في وضع كهذا هو سوري يحمل سلاح حماية الوطن، وأية إضافة سياسية سجالية أو استنكافية هي فضح لنوايا خيانية. من لا يريد نظام البعث ورئيسه في سوريا هو معارض يمارس حقه. ولكن هذا الحق ساقط موضوعيا ووطنيا الآن، لأنه يتلاقى جوهريا مع أهداف المؤامرة الخارجية. فالصهيومريكية وباقي الصهيومريكيات الأخرى في العالم لا تكره سوريا الجغرافيا، ولا تكره فكرة النظام. إنها تكره التاريخ وعروبة النظام السياسي في سوريا، وتريد تدمبر سوريا لإسقاط النظام القومي فقط، ثم ليات من يأتي بعد ذلك، فسيكون قادما من مزارع الربيع العربي. التزام المعارض السوري الوطني يجب أن يراعي موضوعية إنشغال النظام بحماية الوطن، ويؤجل قضية علاقته بالنظام إلى ما بعد التأكد أن سوريا ستبقى لشعبها كله، وليس للمعارضة وحدها أو النظام وحده. لا يوجد وطني حقيقي غير هذا. أما الوطني التنسيقي الذي يؤجل حماية الوطن إلى ما بعد الإتفاق على إسقاط النظام مثل قناة الجزيرة، فهو جزء من الحرب الأرهابية، له دوره الخاص. لقد كان الجميع يعرفون من هي المعارضة في سوريا، قبل حلول فصل الربيع الدموي. كانت عبارة عن تنظيم الشعوبيين المعاصر الذي يقوده المستشرقون الجدد للصهيومريكية، وإلى جانبه كومة من النيوليبراليين،والساسة المأزومين من “أبناء الروميات “، وجماعة المصالح البرجوقطاعية العمباء، التي ما تزال تحدد الوجه الإقتصادي الكاريكاتيري للمجتمعات الهجرية. إلى هؤلاء حمبعا يضاف البكادشة وهم فصيل الصهيونية التاريخي في سوريا كرقافهم الحزبيين في كل أنحاء المشاعة الهجرية. هذا مبلغ علمي بموضوع المعارضة السورية. وهو علم لا يتعدى ثقافة مجلة الآداب وبعض مواقع النشر الأخرى التي كانت تنشر مقالات بعض النيوليبراليين، والتجربة المريرة للفلسطينيين مع إخوان البكادشة في فلسطبن. ولكن لوكان هناك معارضات منظمة غير هؤلاء لما خفي أمرهم.

أما الشعوبيون، أى الإخوان، فهم رأس الحربة في المواجهة مع المعقل القومي الأخير. وهم كأعداء أكثر تشددا من سادتهم. وهذا أمر مألوف لدى العمالات التنظيمية، التي ترى في العمالة هدفا استراتيجيا لوجودها الفئوي وجشعها المالي والمنصبي. هل هناك حاجة للقول أنه لا حياة للإخوان مع العروبة وبالعكس، ومع الإنسان وبالعكس، ومع الأخلاق وبالعكس، ومع دين الله وبالعكس، ومع الآخر المختلف وبالعكس، فعلى ماذا تتم مفاوضتهم؟ إنهم نيوليبراليون محجبون، أي صهيومريكيون، أي محافظون جدد، بعني إنهم أي شيء عدا ما يتظاهرون به، فما هي دائرة التفاوض الممكنة معهم؟ إنهم أخطر الصناعات التاريخية في الوجود العربي بعد الصهيومريكانية. وقد صنعوا استشراقيا لتدمير العنصر العربي والثقافة العربية ومنع قيام مشروع تنموي قومي مقابل لأوروبا. ولولا عمالتهم ككادر فقهي يمارس مهامه الخيانية باستخدام الدين ما استطاع الغرب أن يحقق أهدافه الإستراتيجية في المنطقة الهجرية بهذا الكمال المعجز. ولا استبيحت أوطان الهجريين وعقولهم ودماؤهم، ولا تحولوا أخيرا إلى صهيومريكيين قلبا واحدا، وقوالب متعددة كما هم اليوم. فماذا يريد النظام السوري منهم؟ إنهم يتسابقون مع الوهابيين تحت العلم الصهيومريكي على هدر الدم العربي السوري كاستهداف عبني. فهل سيفاوضهم السوريون على ذلك !

أما النيوليبراليين فهم عملاء لأنهم نيوليبراليون. هم أتباع لكهنوت الفوضى البناءة، بضمان الإعاقة الثقافية. يبدأون بالهلوسة البناءة مجانا، إلى أن يكتشفهم وكلاء التشغيل، فيعلو نجمهم الثقافي والدولاري ثم السياسي فجأة، وتنغلق الحلقة على الولاء الديني للمحافظين الجدد، بوصفهم إباحيين صوفيين نيتشويين زرادشتيين يحولون المحاريث إلى سيوف، والجنس إلى مزارع، والدم إلى سائل عادي مبتذل. ومن المستحيل تحويل هؤلاء النيوليبراليين إلى عرب، كما أن من المستحيل تحويل الإخوان الإسلامويين إلى مسلمين. النيوليبراليون لا يفاوضون على دينهم الثقافي، لأن التفاوض مصطلح ممنوع في وعيهم إلا إذا كان يعني الإستسلام، مثل الهزيمة تماما. فالتفاوض له مدخل اصطلاحي قيمي يخالف معتقداتهم النيتشوية الزرادشتية. كما أنهم، كما أعرف، لن يخاطبوا النظام قبل قيامه بتنظيف مجري بردى وضفتيه وتهيئته لحفلات التعري في الويك إند. وما دام النظام يرفض فعل ذلك، فما الذي بقي لديهم للتفاوض عليه.

ولا أدري إذا كان الشيوعيون قي سوريا ما يزالون بكادشة. أعرف أن وثيقة العهد لدى الشيوعببن العرب كانت دائما تتضمن بند النضال القومي التحرري للشعوب على طريق الأممية، ما عدا القومية العربية التي ولدت فاشوية. فهل ما زال شيوعيو سورية بكادشة. أم تحولوا نحو النيوليبرالية وتحالفوا مع كل من ينادي بإسقاط النظام السوري.

والبكادشة مناضلون امميون عريقون لم يخلصوا في تاريخهم إلا للصهيونية والأممية الدولية. كانو مواطنين إسرائيليين عربا يعيشون في سوريا. وكانوا صهاينة ثقافيا فقط، أما إيديولوجيا فقد كانوا ككل الشيوعيين العرب يفككون الماركسية إلى ثلاثة مقاطع ويلتزمون بالمقطع الأوسط، وبحركة التحرر القومي البهودي، وبأخوة الشعبين، وبالتطبيع الثقافي والسياسي بين العالم العربي وإسرائيل، ويشاركون الرفاق اليهود في وجوب محاربة الفاشية العربية القومية التي تريد تحرير فلسطين، ومن بينها النظام السوري ” القومجي “. وكانوا يلتزمون بالدفاع عن ” العرب الإسرائيليين ” حتى رغيف الخبز الأخير في الطابون. وكان خالد بن بكداش المنسق العام بين الأحزاب الشيوعية في ” المنطقة ” التي نسميها اليوم المشاعة الهجرية. وكان أميل حبيبي السفير المتجول للتطبيع والتخريب الثقافي القومي، وموشيه سنيه المشرف العام. فأي خلاف يمكن حله بالمفاوضات مع البكادشة. واضح أنه لا يوجد لديهم مع القوميين العرب خلافات غير تصفوية للتفاوض مع النظام السوري. كانوا وظلوا، ومعهم كل رفاقهم في البلدان العربية، جزءا من فكرة تكريس القطرية، والإصطفاف إيديولوجيا إلى جانب كل أعداء المشروع القومي العربي في المنطقة. أما قادتهم أمثال بكداش وحبيبي ومن يدعونه الفهد في العراق فقد كانوا يشكلون الوجه والمضمون التنظيمي الحقيقي للأحزاب الشيوعية في البلدان العربية،وهو التكامل التآمري مع الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني الذي كان مخدوعا بقياداته الفاشية. هكذا فعلوا أيضا مع الناصربة في مصر، وسحلوا القوميين في العراق بشراكة مباشرة مع المخابرت البريطانية. ودورهم لاحقا في العراق، وإلى اليوم، هو المشركة في مواصلة تدمير العراق كموقع قومي سابق يجب استئصال جذوره القومية من أساسها. ولا أشك شخصيا للحظة واحدة أنهم يلتزمون دور التكامل البنيوي مع السياق التدميري المسأنف اليوم في سوريا. فهم يدركون أن المشروع القومي العربي هو مشروع فاشي كما ذكرنا وأكثر خطرا على حركة التحرر القومي اليهودي من النازية. هكذا كان يتفق خالد بكداش وبكادشته مع إميل حبيبي وأحبائه. فما الضمان أن البكادشة الجدد. لا يواصلون تعاليم معلمهم وبلعبون دور الرفاق المعتاد، في تخليص سوريا من فاشيتها البعثية؟

فعلى ماذا يريد النظام السوري مفاوضة أعداء سوريا الأيديولوجيين من ألإخوان، والنيوليبراليين، والبكادشة؟ إن النفي المتبادل هنا بين الطرفين هو الهدم الأيديولوجي البناء، أي حتمية تفريغ الساحة من الآخر لاستبداله بالذات. وليس لهذا النوع من الداء العضال دواء تفاوضي أو تكتبكي.

كثير من المحللين السياسيين السوريين الذين نراهم على شاشة الإخبارية السورية هم من مستويات مهنية وفكرية وبحثية لامعة وملتزمة موضوعيا. ولكنهم يعانون الأمرين ليحافظوا على التوازن بين ما يرونه تعبويا وضروريا، وما يقوله واقع الحالة. إنهم يعترفون بوجود معارضة سورية ” وطنية ” تحمل السلاح. فهل لهذه المعارضة إطار سياسي وميداني وعفوي منفصل عن الإخوان والمرتزقة والإرهابيين الآخرين، أم أنهم يتحركون جميعا في ذات الإطار الذي يشكله الهدف المشترك؟

التكتيك الذي يتبعه النظام السوري هو نكتيك تفريطي برى نفسه مجبرا عليه. وهوتفريط يقدمه النظام السياسي لأوغاد الخارج والداخل معا وللمنشقين وحاملي السلاح بدون أن يكون له أي مردود آمن. إنه يعرف ذلك، ولكنه في حين لا بحاول مناورة الصهيومريكية التي لها هدف واحد هو القضاء على كل استراتيجيات المستقبل في سوريا، إلا أنه يرى نفسه ملزما بمناورة أصدقائه، الذين يناورونه بدورهم. أصدقاء سوريا يلعبون داخل نفس الأوليمبيادا الدولية، التي هب لعبة الحسم العسكري في سوريا بدون تورطهم بينيا، وعلى حساب الدم السوري. ويبدو أن النظام السوري غير قادر من داخله على اختيار قراره الأخير والوحيد وهو تغيير شروط اللعبة الدائرة بأي ثمن. وأول شروط التغيير هو محو مصطلح التفاوض، لأنه مصطلح قاتل في النهاية سيسفر عن إعطاء الوقت الدموي اللازم لاستنزاف سوريا وأضطرارها إلى القبول بالحل التفاوضي الدولي بين الأصدقاء والأعداء. وهو الحل الذي تسعى إليه أمريكا لاستكمال تخريب سوريا الدولة والنظام والمجنمع بيدين نظيفتين ومجانا. وأصدقاء سوريا يعرفون ذلك ويدعمونها بكل قوتهم لكي تستمر في صمودها، أي في خوض حرب الدفاع عن النفس التي هي بحذافيرها حرب الدفاع عن مصالح أصدقائها أيضا. ولكن التورط موجود في الجانب السوري فقط. أمريكا تخوض حربا لم تخض هي ولا غيرها حربا مجانية ومجدية مثلها من قبل. وروسيا والصين تخوضان الحرب بنفس الطريقة ولكن بأدوات لا يمكن مقارنتها بالأدوات التي يجندها الغرب في حربه على سوريا. وفي حين أن الصهيومريكية تخوض حربا مصيرية في سوريا، لن تتراجع عن حسمها أبدا وبأي ثمن، فإن أصدقاء سوريا يبدو وكأنهم يخوضون مغامرة تجربيبة، إذا لم تنجح في تحقيق أهدافهم كاملة، فلعلها تنجح في زحزحة مواقعهم إلى الأمام. والثمن الفعلي المنخفض لهذه المغامرة لهذه مقبول عليهم ما دام الدم السوري صامدا، ولكن الثمن الإفتراضي للتورط المباشر في الحرب غبر وارد أبدا لديهم. لقد أصبح التركيز على الوقوف في وجه التدخل العسكري الخارجي من جانب أصدقاء سوريا، يثير الضجر حتى لدى المحايدين. هل التدخل العسكري هو حيوان أو إنسان محدد الهوية. ما يجري في سوريا موضوعيا هو أكثر بكثير من تدخل عسكري خارجي. إن مراجع التدخل هي تحالف دولي مكوناته معروفة، والأدوات المستخدمة هي فرق مدربة مدججة بأحدث الأسلحة التي يمكن استخدامها من فصائل احتلال عسكري لفرق أجنبية نظامية. والفرق الإصطلاحي العسكري بين التدخل الخارجي وماهو حاصل هو فرق إعلامي يبيح للجيش المتدخل ارتكاب جرائم إبادة بدون أي حرج قانوني أو أخلاقي مفترض للدول أو الدولة المتدخلة عسكريا. والحقيقة المذهلة أن أصدقاء سوريا يرفضون التدخل العسكري الخارجي، ويتفهمون الجريمة العسكرية الخارجية لأنها جريمة عسكرية دولية وليس تدخلا عسكريا فقط. ولعل هذا هو ما يحرجهم اصطلاحيا. لذلك يبقى التدخل العسكري الخارجي غير حاصل سياسيا. وإلى أن يكتشف أصدقاء سوريا سبب سقوط قطعة الخبز على جانبها المدهون بالزبدة، وهل كان ذلك بتدخل عامل خارجي أم لا، فإن سوريا ستظل تحت مقصلة التدخل العسكري الخارجي.

لا يوجد حل سلمي أو تفاوضي بدون أن تكون سوريا هي الضحية المياشرة، ويكون أصدقاؤها هم الضحية القادمة. أما الضحية الأخيرة فسيكون الإنسان والعالم. هذا الكلام المعاد سيظل هو الحقيقة لأنه يسبط ومباشر. والكارثة كالموت هي أكثر الأمور واقعية وبساطة. وعلى سوريا أن تعمل إذا أرادت ألا يحدث هذا، وتكون الضحية المجانية لكل أصحاب المصالح من أعدائها وأصدقائها، أن تبادر إلى محاولة إشعال المنطقة، لأن ذلك هو إمكان خلاصها الوحيد، وأن تكف عن المناورة لحساب دربكة التدخل العسكري الخارجي المقعورة.