لا الحريري بداية ولا وسام الحسن نهاية
قراءة في رواية قانون مريم ل كلاديس مطر
بقلم عادل سمارة
انتهيت قبل أيام من قراءة رواية قانون مريم للصديقة كلاديس مطر. رواية يمكن تكثيف حدثها بمأساة سوريا الممتدة عبر اختطاف بعض جسدها وتحويله إلى خنجر مغروس في خاصرها دوماً، لبنان. وقبل ايام جرت تصفية العماد وسام الحسن، والذي أحيط باكاليل الغار من أطراف لبنانية، وبنقد قومي ووطني حارق من أطراف لبنانية أخرى، لكن القاسم المشترك بين الجميع بمعزل عن جوهر كل طرف من سوريا كانت سوريا.
قد لا تُعجب الكثيرين قناعتي اساساً إضافة إلى تاثير الرواية كذلك بأن كل دولة أو كيان قطري[1] هو مرض محمول في الجسد الكبير الذي عليه التعايش مع هذا المرض كما يتعايش الاقتصاد مع مرض التضخم.
فإذا كان الكيان الصهيوني الإشكنازي قد زُرع في فلسطين أي جنوب سوريا ليقيم فيها كياناً لتخريب الوطن العربي فإن كيان لبنان هو على الأقل وجع دائم لسوريا ومسرح تطبيق مختلف خبرات الجاسوسية والطائفية والفلتان من إباحة الجنس واستعمار الجسد إلى إباحة استعمار الوطن وضمن هذه جميعاً يتبدى كمكان للديمقراطية.
رواية قانون مريم كتابة تعاكس المالوف إذا افترضنا أن الرواية بالمعنى اللغوي ليست عن الراهن، ليست كاميرا تصوير ولا جهاز تسجيل. وإذا كانت معالجة الراهن في التحليل السياسي مسألة شائكة، فكيف يمكن أن تكون الرواية؟ وكيف يمكن للشغل الروائي أن يروي باستراحة وهدوء وتركيز حدثاً لم يتوقف. أليست عجلة التخلص من أدوات المركز والصهيونية في لبنان متواصلة التدحرج من الحريري إلى تويني إلى وسام الحسن. ترى هل أخذ الصناعيون الغربيون انتهاء صلاحية الأغذية من المثل العربي :”مثل خيل الحكومة رصاصة في الراس حينما تهرم” والهرم في حالة العملاء هو كثرة الخيوط ومخافة التفليت، فلا بد من التجديد وتقسيم العمل.. والتصفيات هذه مثابة ترتيب بين الأفعى، وهي ليست متدحرجة وحسب بل وفي كل حلقاتها تنشبك في سوريا بحثاً عن مشجب أو حل!
جوهر رواية كلاديس مطر أن لبنان ضرورة وضرراً لسوريا. إذا تأزَّم طرف في لبنان لاذ واستنجد بسوريا، وحين يُقال من عثرته ويتماسك في وجه خصومه يتم إخراج الحالة بأن سوريا احتلت البلد ونهبته وهي دخلت دون رضى الجميع. وفي هذا القول كثير من الصحة. ولكن سوريا لم تدخل لبنان محتلة بل بعد استغاثة. أما جوهر هذا فهو أن هذا الوليد العاق ينأى بعشقه عن سوريا وعن العرب بل إن الكثير من لبنان لا يعشق لبنان نفسه؟ وهذا يغرينا بالقول إن مجتمعاً كهذا نصفه كمبرادوري.
وحينما تبتعد سوريا ويتمأزق لبنان، توضع سوريا في خانة العدو الذي خلق المأزق. فسوريا مبتلاة بلبنان في كافة الأحوال. وإذا كان لنا حق الخروج عن مناخ الرواية، فإن من خطايا سوريا بالمعنى التاريخي أنها لم تعتبر لبنان حالة خروج على الشرعية الوطنية السورية (ترى، لماذا لم تضم سوريا لبنان بعد 1976؟ هل كانت ستخسر أكثر مما تخسره اليوم؟ هذا كان رأيي المتواضع عام 1982 في مجلة الشراع المقدسية الملغاة رخصتها من الاحتلال). وأكملت سوريا هذا الخطأ بتبادل السفراء مع لبنان مما شرعن وجوده الطارىء وكرس عدوانيته لسوريا. واعتراف سوريا بلبنان ليس سوى خضوع للمعايير الدولية وهو خضوع لم يكن ممكناً لولا التفسخ القُطري العربي العام.
وحديثنا هذا تؤكده الرواية نفسها دون أن تقوله. سوريا التي خلصت لبنان من حربه الأهلية انثنى ليعضها ويتهمها بان وجود الجيش السوري هو عبث بالأمن والسلم الأهليين فيها. ولكي ينزع بطل الرواية حازم اللبناني المتأورب والحداثي، كي ينزع عن نفسه الطائفية أو كي يبرر طائفيته، ظل بين متهم لسوريا وبين متشكك بانها وراء كل شيء وخاصة مصرع الحريري.
ولم يسجل لسوريا خروجها من لبنان، لأنها خرجت بضغط الغرب الذي ظل يطارد سوريا حتى بعد مغادرة لبنان وتجلى ذلك في اتهامها بمقتل الحريري. على هذا يقوم عمود الرواية. وعلى هذا يقوم ما يدور في سوريا اليوم، ويقوم كذلك مقتل وسام الحسن رئيس المخابرات اللبنانية الذي كان ينسق بين صنوف المخابرات الدولية والعربية التي تقوم بالحرب على سوريا. فمن المعتدي؟
وهكذا، لم يسجَّل لسوريا في عيني بطل الرواية تدخلها لوقف الحرب الأهلية في لبنان، وهي حرب طائفية، لا طبقية، اي المستوى الدنيىء من الحرب الأهلية. ولم يسجل لها صدها لعدوان 1982 على لبنان وتقديم الشهداء. لم يسجل هذا من قبل لبنانيين هم عملاء للاحتلال، كما لم يسجل لها خروجها من لبنان بعد ذلك. هكذا كان خلال الرواية موقف حازم الذي هو لبنان.
فحازم ممن مارسوا القتل على الهوية في لبنان الذي استقبل نصفه الجيش الصهيوني، ومريم تمثل سوريا القومية والوطنية، حازم منحاز ضد الفلسطينيين ولصالح الكيان، ومريم ترى نفسها فلسطينية لأن هذا هو الهوى السوري، حازم هو لبنان الطائفي والعلماني المتغربن إلى حد اللاوطنية والكره العميق للمقاومة وخاصة اللبنانية، ومريم العلمانية السورية بالمضمون القومي ودعم المقاومة. وعليه، ليست هذه الرواية في فلسفة الحب، بل هي قراءة في التبعية وعلاقة المستعمَر بسيده. علاقة من يستدعي الاستعمار ويصر على عودته ويندم على خروجه. هكذا نصف لبنان متخارج من جلده دون ان يُدخله السيد إلى معبده ليبقى على باب الانتظار إلى أن تتمكن سوريا من تحريره من نفسه المريضة.
هكذا قامت الرواية كتجريب حب بين نقيضين، قطرين نقيضين وليس شخصين. والسياسة تحول دون حرية الحب في جزئين من وطن واحد. السياسة هي التي تقرر للحب حصوله وانفراطه وتحول دون أساسه الطبيعي اي الحب الحر.
مصرع شخصية سياسية كبيرة نسبياً، تقود إلى قتلى واغتيالات وخراب اقتصادي وتجويع الفقراء، وتدخل حتى في العلاقات الإنسانية الحميمة فتعطل أحد طرفي الحب. هذا كان شأن مريم التي وجدت أن الجزء الأصغر يرمي بمشاكله على الأكبر ويصيبه باضرار حتى في المستوى الإنساني البدائي.
خطورة القُطرية في مجرد وجودها مما يجعل كل ما فيها تابعاً. فمصرع الحريري قاد فيما قاد إلى مسح تراث القضاء اللبناني، وكانت الإهانة الكبرى بوضع القضية بأيدي محققين دوليين من الغرب العدو بلا مواربة، وبهذا أُضيف القضاء والفقه القانوني اللبناني إلى قائمة الخضوع للمركزانية الغربية بشقها القانوني. وماذا خرج بعد ذلك ليس سوى نقل تهمة قتل الحريري من سوريا إلى لبنان.
على مقتل الحريري ترتب قطع أرزاق عمال سوريين في لبنان، ومقتل الكثير منهم. ولكن هذا على قبحه كان جميلاً إذا ما قورن بانتهاز قوى اليمين بمختلف طوائف اليمين وقوى القطرية والكمبرادور والمذهبية والطائفية الفرصة لاصطفافها في معسكر الإمبريالية والصهيونية. وترتب على اغتياله انهيار الحكومة اللبنانية. ودون تجني، تم استثمار الحدث لهجوم لبنانيين على لبنان ضمن صف العدو وهو الهجوم على المقاومة.
وإن بشكل غير مباشر، فإن الرواية تناقش الإشكالية اللبنانية مجسدة في:
ـــــ معسكر المقاومة اللبنانية ودعم سوريا لها فكان استثمار مقتل الحريري للهجوم على المقاومة. وضد المقاومة يعني ضد الوطن! وأمر كهذا ربما لا يحدث في هذا العصر، اي أن تتعاطف وتتحالف قوى سياسية في بلد ما مع عدو يحتل أرضها وقطرا عربيا بأكمله. هذه مفارقة في منتهى الغرابة.
ــــ ومعسكر قوى الثورة المضادة والإمبريالية والصهيونية.
هل يمكن للحب أن يجمع أصالة سوريا السياسية والقومية مع تخارج لبنانيين إلى الغرب وإلى الصهيونية؟ هل يمكن لسوريا أن تخرج من جلدها العروبي؟ هذا صراع الرواية في شخصي مريم وحازم. هل تتوافق سوريا العلمانية والعروبية والديكتاتورية مع بلد تتراكب فيه طائفية اضيق من خرم الإبرة مع ديمقراطية تتسع ليرأس وزارتها خائنا بعد خائن. لا يجمع الحب هذين سوى في خيال كلاديس مطر أو إرغام نفسها على التخيل.
تقفل كلاديس مطر الرواية بكرنولوجيا تؤكد جوهر الرواية بمعنى أن قلقنا على هذا الوطن المستهدف ليس مجرد توهم بل حقائق معلنة فما بالك بغير المعلنة.