مراجعة كلاديس مطر
احرق هذا الكتاب
Toni Morrison
احرق هذا الكتاب
لتوني موريسون
مراجعة : كلاديس مطر
مقدمة
من الكتب الملفتة التي “استطعت قراءتها” في هذه المعمعة من الاحداث المؤلمة في سوريا، كان “احرق هذا الكتاب” التي اشرفت عليه الاديبة الاميركية توني موريسون(جائزة نوبل عام 1993 مواليد اوهايو 1931).
يتضمن هذا المؤلف القليل السماكة (118 صفحة) مجموعة من المقالات الهامة بقلم نخبة من كتاب العالم مثل :” اورهان باموق” و” بيكو ايفي ” و” فرانسيس بروز” و ” نادين غوديمر” ( التي تمت دعوتها من قبل مؤسسة (PEN) لكي تشارك مع بقية مؤلفي الكتاب افكارهم حول قوة الكلمة خلال الفترة التي سادت فيها الرقابة ) و”جون ابديك” و آخرين بالاضافة الى المشرفة على تجميع هذه المقالات توني موريسون نفسها التي تفتتح الكتاب بمقالة لها بعنوان ” خطر”.
الرقابة والنظام الراسمالي الغربي
قد يظن القارى العربي ان موضوع الرقابة والقوة القاهرة للكلمة المكتوبة جزءا لا يتجزأ من المعاناة الفنية الابداعية في الشرق الاوسط وبعض دول العالم فقط بينما يعيش الكاتب الغربي من دون منغصات رقابية. الحقيقة ان “احرق هذا الكتاب” يتضمن طرحا مختلفا بعض الشيء وذلك لأنه يشي بهذه الخطوط الحمر الصارمة التي تخترق سهول الحياة العامة لديهم وإن لم يكن قادرا – هذا الكتاب – مئة بالمئة على تبيان جذورها بدقة وبقي مدافعا عن استقلالية الادب وحرية الكلمة مهما كلف الامر مفرغا اياها من اي قدرة نضالية مجتمعية – سياسية وذلك بحسب سلمان رشدي في مقالته ملاحظات حول الكتابة والأمه “. ولكي لا اقدم طرحي فوق طبق التأكيد البسيط، دعوني اضعه في صيغة اسئلة محددة :
هل يعقل ان يكون النظام الراسمالي الغربي هو (الـ ) نظام الذي تعيش فيه الكلمة بكامل حريتها على حين يتغافل النقاد والصحفيون والادباء في هذا النظام عن ثروة بعض الافراد التي تصل الى المليارات بينما يعيش ملايين الافراد من دون مأوى ؟
وهل من المنطقي ان تتغافل الكلمة الحرة في هذا النظام هذا التدخل السافر القمعي للشركات الكبرى ( العابرة للقارات ) في شؤون الدول الاخرى بشكل مباشر فتحرك بؤر الصراع والحروبوتخلف ملايين الجوعى والفقراء ؟
هل من المنطقي ان تغض الكلمة الحرة في هذا النظام طرفها عن التلوث البيئي المهول التي تسببه المصانع العملاقة لهذه الشركات وذلك لكي لا يعيق تدفق ارباحها ؟
هل من المنطقي ان تكون هناك اصلا كلمة حرة في نظام يعيش ازمات دورية من الفساد وانهيار البورصات والافلاس والاسواق السوداء والتملك اللا محدود والكثير من المصطلحات التي تميز النظام الراسمالي الغربي الذي يشحن نفوس الواهمين بحروب الديمقراطية الدموية في الشرق الاوسط ؟؟
هل من المنطقي ان يكون هناك حرية كلمة او تعبير او اي تجربة ديمقراطية حقيقة في نظام تهمين فيه مثلا خمس شركات فقط على 40% من النفط والعقول الالكترونية الخاصة والاعلام؟؟؟
واخيرا و ليس آخر هل من المنطقي ان يكون هناك حرية تعبير في نظام يملك الاعلام فيه “رجال أعمال” حريصين كل الحرص على الوفاء لتوجهاتهم السياسية ولمراكمة ارباحهم مهما كلف الامر من نحر للحقيقة ؟ ان هؤلاء يشكلون “جماعات ضغط” ليس لها اول ولا آخر، جماعات لا تهتز لها شعرة بالمطلق امام اي من الممارسات الخاطئة التي قد تؤثر على المجتمع قابلين ان تتحول الوسائل التي تملكها هذه الجماعات الى مصدر للترفيه الرخيص من اجل الكسب.
مع ذلك او بسبب ذلك او كنتيجة له، دفعت حرية التملك اللامحدودة في تلك المجتمعات ” الديمقراطية ” باتجاه ايجاد رقابة صارمة فلا تخرج الامور عن اطارها وتنهار قيم المجتمع، والاتفاقيات الدولية للحقوق السياسية والمدنية اشارت تحت البند 19، المادة 2 الى ضرورة ضبط حرية التعبير فلا يتم التفريط بسمعة الآخرين او تعريض للأمن القومي العام او اخلاق المجتمع الى خطر التفتت.
لقد ميزت هذه الاتفاقيات بشكل جوهري بين حرية التعبير وحرية الرأي – الامر الذي لا يعيه حقا 95 % من مثقفي وكتاب العالم. فالاولى، اي حرية الراي هي أمر شخصي اذا تم ضمن الاطار الشخصي للانسان، اما الثانية وهي التعبير فلها ضوابط حقيقية وذلك لان لا مصلحة لاي مخلوق في ان تتزعزع البنية الداخلية لدولته التي ينتمي اليها وذلك من حيث الأمن العام او الأخلاق العام و حتى الصحة العامة كما أسلفت.
اننا ننتمي الى ثقافات وعقائد متباينة ولهذا من الهام جدا بالنسبة للكاتب الواعي المسؤول ان يفرق بين حرية التعبير وحرية الرأي. كما من الضروري للدول التي يشتمل نسيجها الاجتماعي على طوائف واثنيات مختلفة ان تضبط الامر جيدا فلا يكون هناك انتهاك لاحترام اية عقيدة او اثنية مع الحفاظ على حرية التعبير مصانة قدر الامكان.
مع ذلك، قد لا يكون الكاتب الروائي قادرا بسرعة او بعمق ودقة على استبطان جذور المشكلة ولكنه حتما قادر على فهم ورؤية نتائجها المباشرة. إن ” احرق هذا الكتاب ” بما ينطوي عليه عنوانه من فحوى رمزي كبير انما هو محاولة لاستكشاف فكرية لأقدم عدو للكاتب الا وهي الرقابة على الكلمة وحرية التعبير. مع ذلك فالمشكلة هنا اكبر بكثير من مجرد انتقاد لوجود رقابة ما. فلا يكفي أن تؤكد المحكمة الاميركية لحقوق الانسان على ان حرية التعبير انما هي ” حجر الاساس الذي يستند اليه النظام الديمقراطي ولا مفرمنه لتشكيل الراي العام ” ليكون هذا ” الحجر ” في حالة جيدة وراسخا، فالواقع الفعلي يقول ان النظام الرسمالي من الصعب جدا ان تكون فيه الكلمة حرة امام الضغط المهول والمرعب الذي تمارسه هذه الشركات العملاقة على اي قرار حقيقي في البلد. ولهذا نجد أن اعلان المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان ” من ان حرية الصحافة بحاجة الى حماية خاصة لكي تتمكن من القيام بالدور المطلوب منها بشكل حقيقي ” انما يعني ان دور الصحافة باعتبارها ” الحارس العام ” هو تقديم الافكار والحلول و الكشف عن الاخطاء التي تهم الراي العام وهذا أمر في غاية الصعوبة في مجتمعات لا تسمح طبيعة أنظمتها الليبرالية ” الاقتصادية ” بذلك.
وعلى سبيل المثال أقول ان القضاء في الانظمة الراسمالية مكون بطريقة يسمح فيها بحماية “المجرمين ” ذووي الطبقات الاجتماعية الرفيعة مثل اصحاب مؤسسات التأمين العملاقة او مالكي المؤسسات الغذائية او الصحية الكبرى او هؤلاء الذين يملكون حقول وشركات نفط عابرة للقارات او وحوش المؤسسات العسكرية بربطات العنق الذين تدعم أنشطتهم وسائل الاعلام المملوكة اصلا من قبلهم والتي لا تتورع عن الحذف والشطب والالغاء. إن التأثير والضغط الكبيرين الذي تمارسه هذه الشركات على القرار السياسي في منظومة الدول الراسمالية وعلى الجسم القضائي فيها كبير جدا جدا. ولهذا فالحديث عن مشكلة الرقابة يبدو صغيرا جدا امام الحديث عن وهمية تجرد القضاء والعدالة الاجتماعية وموضوعيتهما ونزاهتهما. فالمجرم الذي ينتمي الى طبقة عليا في المجتمع الراسمالي ليس مجرما تقليديا او عاديا بالمطلق بالنسبة للجهاز القضائي، فثروته وطبقته واصله الاجتماعي كلها تتدخل في ” فهم ” دوافعه الجنائية ” وبالتالي عقوبته. ان حنية القضاء الراسمالي مثلا تجاه عدم الاساءة الى المنزلة الاجتماعية الراقية للمذنب أمر يعد اكثر هولا من الرقابة التي يتحدث عنها كتاب هذه الانظمة، وربما كانت الاولى نتيجة الثانية والعكس صحيح.
اورهان باموق
لقد اعترف كُتَاب هذا المؤُلف ان الرقابة لم تتوقف يوما حتى في اكثر المجتمعات ادعاءا للديمقراطية، مع ذلك فليست كل المقالات فيه تنم عن طرح ملامس لجذر المشكلة ذلك أن البعض منها خصوصا تلك التي كتبت باقلام ” شرقيين ” انما تشي بتضعضع الفكر الذي يركن فوقها وبهذا الغزل الفاضح للقيم الليبرالية الغربية على حساب الحس القومي الذي لم يقبل على سبيل المثال الكاتب التركي اورهان باموق ( نوبل للآداب عام 2006، مواليد استنبول 1952 ) ان يقف حجرة عثرة – هذا الحس – بين شعبه و بين اي مبدأ من مبادىء حقوق الانسان الغربية…غزل قوي ربما كان السبب المباشر كما سوف نرى لاحقا هنا في تأليه الجسم الثقافي- القيمي الغربي لأمثاله بينما يستبعد كلية الكاتب الذي يريد المحافظة على جذوره ووحدة ارضه ومجتمعه ويدافع عنهما فاضحا بذلك دور المثل العليا الغربية التي يٌعمل على ضخها وبعنف يصل احيانا الى حدود اغماد خنجر التثاقف الغبي في عمق النسج المجتمعية الشرقية.
لقد اعترف باموق في مقالته المتضمنة في هذا الكتاب والتي بعنوان ( حرية الكتابة ) بأنه لطالما شعر بالارتباك امام انتمائين وجد صعوبة – على حد زعمه – دائما في شرحهما. كما وجد صعوبة في شرح موقفه السياسي من دون ان يخطئه الآخرون !!!!! وذلك على عكس موريسون التي واجهت مشكلة الرقابة في مجتمعها من دون مواربة او توتر امام الانتماء بينما اقتربت قدر الامكان من ملامسة بعض من جذور المشكلة فأتت مقالتها متألمة حزينة كقطعة أدبية فذة تفيض بموقف حقيقي وشفاف.
أما باموق فيبدو الاقرب من بين هؤلاء الكتاب الى طبيعة مجتمعاتنا الشرقية حيث سأقوم باختزال ما جاء في مقالته بينما ترجمت مقالة موريسون كاملة وألحقتها بهذه المراجعة تاركة للقارىء العربي الذكي ان يستكشف بقية الكتاب بنفسه فيتعرف على هواجس ” الآخر الابيض الغربي ” وقلقه الابداعي.
يقول باموق في مقالته انه في عام 1985 زار كل من الكاتبين الاميركيين ” آرثر ميلر” و” هارولد بينتر” مدينة استنبول. ” في ذلك الوقت، يقول، كانا هذين الكاتبين ربما الاكثر أهمية بين الاسماء الادبية كلها في عالم المسرح. لقد قدما ليس من اجل حضور مسرحية او حدث ادبي معين وانما لكي يعاينوا الحدود المهولة التي وضعت على حرية التعبير في ذلك الوقت في تركيا العلمانية وهذا العدد الكبير من الكتاب الملقين في سجونها.
لقد كان الوضع غير مقبول في تركيا على حد قول باموق في ذلك الوقت ” حين ارجع بذاكرتي الى تلك الايام فلا ارى سوى مواطنين جالسين في قاعات المحاكم محاطين برجال الشرطة، رؤوسهم حليقة ووجوههم عابسة وهم يستمعون الى جلسة الحكم تنطق بمصيرهم….لقد كان هناك الكثير من الكتاب بينهم، اما ميلر و بينتر فقد قدما لكي يلتقوا بعائلات هؤلاء الكتاب ولكي يظهروا لهم الدعم و لكي يرفعوا قضيتهم امام العالم كله…لقد ذهبت الى المطار انا بنفسي لاستقبالهم و لقد كنت مرشدا لهم في رحلتهم مع صديق لي أنذاك.”
يكمل باموق فيقول : ” لقد اقترحت ان اقوم بهذه المهمة ليس لانه لم يكن لي علاقة بالسياسة تلك الايام وانما لاني كنت روائيا واتحدث الانكليزية بطلاقة..ولقد قبلت المهمة بفرح كبير ليس لانني وجدت طريقة لكي اساعد بها كتاب اصدقاء لي في أزمة وانما لان هذا يعني ان اقضي بضعة أيام بصحبة اثنين من الكتاب العظام. “
ويستطرد “..وهكذا زرنا معا دور النشر الصغيرة التي تكافح لكي تعيش وغرف الاخبار الفوضوية ومكاتب الجرائد المغبرة والقاتمة التي كانت على وشك ان تغلق ابوابها، لقد ذهبنا من بيت لبيت ومن مطعم لمطعم لكي نلتقي بهؤلاء الكتاب الذين يعانون من مثل هذه المآزق “
يقول باموق ايضا ” لقد اخذت الكاتبين في رحلة في شوراع استانبول..اتذكر كيف كنا نتحدث مع البائعين في الشارع وسائقي عربات الاحصنة وكيف كنا نتأمل ملصقات الافلام والنساء المحجبات وتلك السافرات والذين لطالما كن مصدرا مثيرا للاهتمام بالنسبة للمراقب الغربي.”
لربما كانت هي الحالة في تركية ولكن التحدث عن البلد بهذه الطريقة الدونية امر ملفت امام “اسياد ” قدموا لمعاينة الفقر والاستبداد الفكري وكأنهم سواح يتفرجون على آثار معروضة خلف زجاج في متحف بينما كان الكاتب التركي باموق يفعل نفس الشيء. هل العالم الغربي الذي قدموا منه خال من اية اعراض مرضية مجتمعية وأولها الفقر والتسول ؟ لما وقف باموق على نفس المصطبة معهما و اخذ يتفرج من عل على مجتمعه خجلا تارة و متأسفا تارة اخرى.. ولما شعر حينها ان عليه ان يغازل وبسرعة القيم الليبرالية التي جلبت “هؤلاء الاحرار ” اصلا و” المتعاطفين ” بينما كانت بلدهما تفكر لا باختراق تركيا بالاحلاف العسكرية والقواعد وانما بالتقسيم والتفتيت ؟
الحق، هناك الكثيرون من الكتاب العرب الذين غازلوا قدر استطاعتهم مثل هذه القيم راغبين في ان يحجزوا اماكن لهم في قلب الجسد الثقافي الغربي إما بجائزة ما او بدعوة الى مؤتمر او بترجمة لعمل الى لغات اخرى : والشروط لدى اغلب هذه الجهات : هي التمرد على المجتمع و قيمه وفتح الباب امام الغزو الثقافي تحت اسم : تثاقف وليبرالية وثورة. نعم إن الاحتفال بالكاتب ذي الجذور الشرقية في البلاط الثقافي الغربي انما يتوقف في كثير من الاحيان على مدى اقترابه من تبجيل القيم الليبرالية لمجتمعاتهم هم وفهم دوافعهم في غزونا وليس بسبب قدرته على التمسك بجذوره و الدفاع عنها.
…. ويكمل باموق “ان الكتاب والمفكرين والصحفيين الذين التقينا بهم كان اغلبهم يقدم نفسه باعتباره يساري في تلك الايام. لهذا يمكن القول ان مشاكلهم لها علاقة بالحريات التي كانت تروج لها الديمقراطيات الليبرالية الغربية. بعد عشرون عاما، اخذت ارى أن نصف هؤلاء ينحازون الى القومية الذي تتنافى مع الديمقراطية والتغريب (.westernization(
الحق من الضروري ان انوه هنا الى ان الحريات التي كان يتطلع اليها اليساري لم تكن مرتبطة بالمنظومة الاخلاقية الغربية وانما بتبني مفهوم العدالة الاجتماعية والعلمانية خصوصا بين يساري دول الشرق الاوسط ومن بينها تركيا. واليساريين باعتبارهم معارضين لتمركز القوة و الثروة بايدي طبقة معينة، كانوا محاربيين للامساواة وداعمين للديمقراطية الاشتراكيةوللاصلاحات خصوصا فيما يتعلق بمفهوم ملكية الارض. ثم انتقل اليسار الى تبني قضايا الطبقة العاملة وطالب بضمانات اجتماعية لها لينتقل بعد ذلك الى محاربة العولمة وربما التفت اليسار الجديد لاحقا الذي ظهر في الستينات الى تبني مبادىء حقوق الانسان وحرية الراي والتعبير وحتى حقوق المثليين، وقد يكون هذا هو اليسار الذي انتقد انقلابه لاحقا باموق. مع ذلك، لم يذهب الى لب المشكلة في انقلاب اليساريين في المجتمع التركي وانما أدان الحدث فقط بكل بساطة. حتى انه يرى ان معاناة الدول ( خارج نطاق الدول الغربية وكأنها جمهوريات افلاطونية ) من الفقر انما يرجع الى النقص في حرية التعبير.
ويكمل “..اشعر بالحزن. لقد علمتني تجربتي لاحقا امرا هاما : مهما كانت الدولة التي ننتمي اليها، فان حرية التعبير والفكر انما هي حقوق انسانية عالمية. ان هذه الحريات التي تساوي الشعوب الحديثة بينها وبين الخبز والماء لا يجب ان يوضع لها حد بسبب المشاعر القومية والحساسيات الاخلاقية او – الاسوأ من كل هذا – الاهتمامات العسكرية او جني الاموال (العمل).اذا ما عانت العديد من الأمم خارج نطاق العالم الغربي من الفقر ليس لانها تملك حرية التعبير وانما لانها لا تملك. فهؤلاء الذين يهاجرون من دولهم الفقيرة الى الغرب او الى الشمال ليهربومن قساوة العثور على لقمة العيش او القمع القاسي – كما نعلم يجدون انفسهم احيانا في حالة قمعية اكبر بسبب التمييز العرقي الذي يواجهونه في تلك الدول الغنية. نعم، يجب ايضا ان نكون حذرين من اولئك الذين يقمعون المهاجرين والاقليات بسبب انتمائهم الديني وجذورهم الاثنية وكذلك تجاه القمع الذي مارسته حكومات دولهم التي تركوها على شعبهم. “”
ثم يكمل حديثه عن احترام حرية الاقليات الدينية والاثنية فيقول ان احترام حقوق الاقليات لا يجب ان يكون عذرا لقمع حرية التعبير، كما انه على الكاتب أن لا يتردد ابدا في ان يكون حاسما في هذا الخصوص مهما كانت الحجة مغرية. ” البعض منا يتمتع بفهم اكبر لثقافة الغرب، البعض الاخر يتعاطف اكثر مع قاطني الشرق والبعض الاخر، مثلي، يحاولون ان يحتفظوا بقلوبهم مفتوحة بالاتجاهين المقسمين بشكل مصطنع قليلا. مع ذلك ان ارتباطنا القلبي الطبيعي ورغبتنا في فهم اولئك الذين يختلفون عنا لا يجب ان تقف معترضة الطريق في اتجاه احترام الحقوق الانسانية. لطالما عانيت في شرح وجهة نظري السياسية بشكل واضح وقوي ؛ الحقيقة اشعر باني مدعي وكأنني اقول شيئا وكأنه غير صحيح تماما. السبب يرجع لكوني اعرف انني غير قادر على اختزال افكاري عن الحياة بحيث تتحول الى صوت واحد ووجهة نظر واحدة…انا، قبل كل شيء، روائي..انني هذا النوع من الروائيين لا شغل له سوى ان يأخذ بعين الاعتبار كل ابطاله حتى الاشرار منهم…..ان عقولنا المعاصرة منزلقة لدرجة قد تكون وراء هذه الاهمية القصوى التي اعطيت لحرية التعبير : اننا بحاجة اليها لكي نفهم ذواتنا وافكارنا الداخلية المتناقضة والقابعة في الظل وكذلك لفهم هذا الفخر والعار الذي اشعر بهما…”
اتوقف هنا واترك للقارىء الذكي فهم الالتباس الذي يشعر به الرجل كما اترك له قراءة بقية المقالات في هذا الكتاب ليفهم بالعمق كيف تفكر “كريما” النخبة الثقافية الغربية تجاه موضوع يعتبر من الاكثر حساسية على الاطلاق اليوم.
اما بالنسبة لمقالة توني موريسون “خطر” فاقدم ترجمتها كاملة هنا :
* * *
احرق هذا الكتاب
خطر
توني موريسون
إن الأنظمة الاستبدادية والحكام المستبدين، وكذلك الطغاة غالباً ما يكونون- ليس دائما – هم الحمقى. مع ذلك، فانهم لا يملكون الغباء الكافي فيعطون الكاتب المتبصر والمتمرد حرية نشرآرائه او ملاحقة غريزته الابداعية. انهم يعلمون ان ما يقومون به انما هو على حساب خطرهم الشخصي. انهم لا يملكون ما يكفي من الحمق فيهملوا إحكام سيطرتهم ( علنا أو غدرا ) على الاعلام. أما أساليبهم فتشمل المراقبة، الرقابة، الاعتقال وحتى قتل هذا الكاتب الذي يقلق راحة الشعب بمعطياته. إن الكاتب المُقلق انما يستدعي نظرة اخرى اكثر عمقا من قبل هؤلاء. إن الكاتب ( الصحفي والمدون والشاعر والمسرحي ) يمكن له ان يحرك سكون القهر الاجتماعي الذي يتجلى على شكل ” كوما ” يرزح تحتها الشعب، كوما الطغاة التي تسمى السلام ؛ وهكذافانهم يغبون من نهر دم الحرب التي تتشوق اليها الصقور و المستفيدين.
انه خطرهم.
اما خطرنا فهو من نوع آخر.
إن الوجود يصبح قاتما غير قابل للعيش ولا يطاق متى حرمنا من العمل الفني. وإنه من لمن الحيوي بمكان ان يُعمل على حماية حياة و” عمل” الكاتب الذي يواجه الخطر. لكن جبنا الى جنب مع هذه الحاجة الملحة للحماية، يجب ان نذكر انفسنا أن غياب الكاتب او قتل عمله و بتره بهذه القسوة انما يشكل لنا خطرا مماثلا. إن خشبة الخلاص التي نمدهم بها انما هي سخاء تجاه أنفسنا.
إننا جميعا نعلم ان الأمم إنما تُعرف انطلاقا من هروب الكتاب منها. إن هذه الأنظمة التي تخاف من الابداع غير المراقب انما تجد في الامر تبريرا ؛ إن الحقيقة جلابة المشاكل و لاضطرابات. انها جلابة المشاكل لمثيري الحروب، للجلادين، للصوص الشركات، الهاكرز السياسيين ولنظام العدل الفاسد وايضا للشعب القابع في غيبوبته.
إن الكاتب غير المضطهد و غير المسجون او الملاحق ليس سوى مسبب للمشاكل للأزعر الجاهل، و للعنصري التافه، و” للحيوانات المفترسة” التي تعيش على موارد العالم. و الحق إن الانذار الذي يطلقه الكاتب انما هو مفيد وذلك لانه مفتوح وضعيف لانه سيكون يكون مهددا في حال لم يكن تحت رقابة النظام.
ولهذا، فان القمع التاريخي الذي رزح تحته الكاتب هو النذير الأقدم لهذا التجريد الثابت من حقوقه الاضافية وحرياته اللاحقة لها. إن تاريخ الاضطهاد الذي يعيشه الكاتب انما هو بعمر الادب نفسه، وهذه الجهود التي تمارس علينا من اجل مراقبتنا او تجويعنا او تنظيمنا او إبادتنا و الغائنا ليست سوى اشارات واضحة على ان شيئا هاما قد حدث. إن القوى الثقافية والسياسية يمكنها ان تمسح كل شيء ما عدا الفن ” الغير خطر ” والموافق عليه كلية من قبل الدولة.
لقد قالوا لي ان هناك نوعين من ردود الفعل البشرية لتصور الفوضى : التسمية والعنف.
عندما تكون الفوضى مجرد المجهول، فان التسمية يمكن الحصول عليه باقل جهد – أنواع جديدة، صيغة، معادلة، تنبؤ. هناك ايضا وضع الخرائط والرسوم او استنباط اسماء مناسبة لشعوب او مناطق و اراض جغرافية منزوعة الاسماء. عندما تظهر الفوضى أية مقاومة إما من خلال اعادة تشكيل ذاتها او العصيان ضد النظام المفروض، فانه من المفهوم ان يكون العنف هو الجواب الاكثر تكرارا و الاكثر منطقية متى ووجه بالمجهول، بالمصيبة، بالغرابة، بالغاشم من الامور والغير قابل للتصحيح او العلاج. ان الرد المنطقي هنا قد يكون بالرقابة، باقامة مخيمات الاعتقال والسجون او الموت بشكل فردي او عن طريق الحرب. مهما يكن، هناك جواب ثالث على الفوضى لم اسمع عنها ابدا الا وهي السكون. قد يكون هذا السكون مجسدا في حالة السلبية والشغف بالغباء ؛ قد يكون مجسدا في الخوف المُشل. ولكنه قد يكون ايضا فنا. فهؤلاء الكتاب يؤدون مهنتهم إما بالقرب من او بعيدا عن عرش هذه السلطة الخام، و عن القوة العسكرية وعنمبنى الامبراطورية ودوائر العمل. إن هؤلاء الكتاب الذين يبنون معنا جديدا في وجه هذه الفوض يجب ان يُعمل على حمايتهم ورعايتهم، وإن مثل هذه الرعاية من الطبيعي ان يقترحها كتاب آخرون. كما انه من الحتمي ان لا يتم فقط تأمين حياة الكتاب المحاصرين ولكن ايضا حياتنا.
إن التفكر الذي يقودني الى التأمل برهبة بهذا الالغاء لأصوات الآخرين وبتلك الروايات التي تطمح للتدوين وبالقصائد المبتلعة والتي تُلقى همسا خوفا من أن تصل الى الاشخاص الخطأ، وباللغات المحتضرة التي تنتعش تحت الارض، وبأسئلة كاتبي المقالات التي لم تطرح ابدا و التي تتحدى المرجعيات، وبالافلام الممنوعة – إن مثل هذا التفكر إنما اعتبره كابوسيا.
كما لو ان كل هذا الكون قد تم وصفه بحبر لا مرئي.
إن بعض انواع الصدمات النفسية التي تمر على الانسان انما هي عميقة جدا وقاسية جدا وذلك على عكس المال والانتقام وحتى على عكس العدالة او الحقوق او حسن نية الآخرين، انما الكاتب هو الوحيد القادر على ترجمتها وتحويل الحزن الى معنى عامدا بذلك الى شحذ الخيال الاخلاقي للانسان.
ان حياة الكاتب وعمله ليسا هدية للبشرية وانما هما ضرورة.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.