مجلس الأمن: «البلطجي» والراقصونَ من الألمِ!


د. عصام التكروري

دكتور القانون العام، جامعة دمشق

ربما كان التغيُّر المُستمر هو الثابت الوحيد في عالم اليوم، هذه الحقيقة لا تروق للكثيرين ممن دأبوا على استغلالِ الجمود لجني المكاسب، لذلك تراهم يراهنون على عامل الوقت من أجل إبعاد شبح التغيير متجاهلين أن الوقت هو نقيض الجمود، والأفعى التي لا تغيّر جلدها تموت تماماً كالإنسان الذي يعتقد أن أفكاره لا تشيخ، وأنَّ تطبيقاتها هي من الكمال بحيث تصلح لكل الأزمنة. الأخطر من الجمود هو أن يكون طالبو التغيير قد رفعوا شعارهم هذا فقط ليبتزوا المدافعين عن الجمود حتى يقتسموا معهم ما يجنونه من مكاسب غالباً ما تكون على حساب الأطراف الضعيفة. هكذا يبدو اليوم حالُ الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي وهي تواجه مطالب الدول الطامحة بدورها لامتلاك مقعد دائم في المجلس لاعتقادها بأن تركيبته الحالية باتت خارج السياق التاريخي وأنَّه لا يعكس البتة الحقائق الجيوسياسية القائمة في العالم المعاصر. ما أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها حتى سارعَ المنتصرون فيها للعمل على وضعِ ميثاقٍ أممي يفرضونه على دول العالم قاطبة، ويستطيعون عبرَه إعادة إنتاج الهيمنة الاستعمارية بشكل مؤسساتي، هيمنةٌ دمغت علاقاتهم مع «الدول القاصرة» خلال قرنين من الزمن، فكانَ أن شرَّعوا «ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945». سبعة وستون عام من التطبيق العملي للميثاق أظهر أنه لا يعدو عن كونه عقد إذعان تنازلت بموجبه «الدول القاصرة» عن إدارة العالم لمصلحة «نادي الخمسة الكبار» الذين شكَّلوا «دار الحرب» أو ما عُرف اصطلاحاً بمسمى «مجلس الأمن الدولي»، لماذا «دار حرب»؟ لأن الخمسة الكبار- أي الصين، وفرنسا، واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية (روسيا اليوم)، وبريطانيا العظمى، والولايات المتحدة الأميركية- احتكروا لأنفسهم ميزةَ حق النقض أو الفيتو، ميزةٌ تسمح لهم مجتمعين أن يفتحواأبوابَ جهنم في وجه أي «دولة قاصرة» بمجرد اعتبارها- عن حق أو باطل- دولةً مارقة على الشرعية الدولية. على الرغم من أن «الدول القاصرة»- والبالغ عددها اليوم 187 دولة- تنتخب عشرة من بينها ليمثلوها لمدة سنتين في مجلس الأمن فإنَّها «مجتمعة» لا تملك صلاحية إبطال قرار يتخذه «الخمسة الأخيار» و يقضي بإفناء واحدة من بينها.

تمثيل غير متوازن في مجلس الأمن

في الرابع والعشرين من تشرين الأول من كل عام يحتفل المنضمون للأمم المتحدة (المهتمون فقط) بمرور سنة إضافية نفاذ الميثاق (في 24 تشرين الأول 1945)، هذا الاحتفال غالباً ما يكون مناسبةً تتعالى فيها أصوات عدة دول للمطالبة بتعديل المواد التي تمنح الدول دائمة العضوية سلطة الفيتو، فبحسب تقديرهم لم يعد مقبولاً اليوم أن تقتصر هذه السلطة على خمسة أعضاء من أصل 192 دولة عضو في الأمم المتحدة. بطبيعة الحال تبدو هذه المطالبات سليمة لأسباب متعددة، فوفقاً للمفهوم العددي نجد أن التمثيل القائم اليوم غيرُ متوازن إذ في عام 1945 كان عدد أعضاء مجلس الأمن 11 (5 دائمين و6 غير دائمين) من أصل 51 دولة عضو في الأمم المتحدة، أي ما يمثلُ 22% من مجمل الأعضاء، إما اليوم- وبعد التعديل الذي تم عام 1963- فعدد أعضاء مجلس الأمن 15 من أصل 192 دولة عضو أي ما نسبته 8% فقط من مجموع أعضاء المنظمة الأممية. كذلك نلحظ ذات الخلل إذا قاربنا الموضوع من وجهة النظر الديموغرافية، فإذا وضعنا روسيا جانباً فإن أوروبا تمثل 5% فقط من عدد سكان العالم لكنها تحتلُ وحدها 33% من المقاعد الدائمة في مجلس الأمن. إضافة لما ذكر فإن الميثاق الحالي ما زال يعتبر اليابان وألمانيا دولتين عدوتين على الرغم من أنهما تساهمان في ميزانية الأمم المتحدة بنسبة 19% للأولى و12% للثانية، هذه المساهمة حَدَت بكل منهما إلى المطالبة بمقعد دائم، على حين تذرعت البرازيل بكونها خامس أكبر دولة في العالم من حيث المساحة لتطالب بالشيء ذاته، مقابل ذلك أكدت الهند على أن مركزها كثاني أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان يسمحُ لها بحجز مقعدها إلى جانب الخمسة الكبار. أما الأفارقة فقد طالبوا بمقعدين يتم تداولهما بين دول القارة السمراء نظراً لكون تلك القارة مركز اهتمام العالم أجمع من الناحية الاقتصادية تحديداً.
لغة الأرقام هذه هي ما لفت انتباهي وأنا أقرأ عدداً من الدراسات أنجزها باحثون الدوليون ليبرروا المطالبة بزيادة مقاعد الدول الدائمة العضوية بمجلس الأمن بشكل يسمح لدولٍ جديدة بالتمتع بحق النقض، لكن أحداً لم يدع إلى إلغاء هذه الميزة التي كرّست درجتين من العضوية بشكل يناقض الميثاق الذي ادعى المساواة المطلقة بين الدول الأعضاء في المنظمة. لم يناقش أحدالأساس اللاأخلاقي «لحق» الفيتو بوصفه ممنوحاً لدولٍ تورطت في حربٍ راح ضحيتها نحو سبعين مليون آدمي، ولم يأبه أحد بالخراب الذي ما زال يجتاح العالم نتيجة احتكار سلطة الفيتو من معسكر تقوده دولة وصفها أحد مفكريها- صموئيل هينتغتون- بأنها «الدولة الأولى المارقة بالعالم: الولايات المتحدة الأميركية».
من هنا فإن إلغاء حق النقض- وليس التوسع بمنحه- يضع- بتقديرنا- حداً للاستعباد المؤسساتي الذي مارسته الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن تحديداً بحق دول شقَّت عصا الطاعة وخصوصاً مستعمراتها القديمة. إن الاستقلال الذي انتزعته دولٌ كانت خاضعة لصنوف التبعية (استعمار أو انتداب أو وصاية…) جرى انتزاعه منها مؤسساتياً حين انضمت لمنظمة يتمتع ثلةٌ من أعضائها- الدول دائمة العضوية لمجلس الأمن- بصلاحيات المندوب السامي أو الحاكم العسكري في الدول المستعمَرة، صلاحياتٌ تسمح لتلك الدول بأن تحكم بالموت جوعاً على أي دولة عضو «تخرج عن مشورتها» وذلك عبر فرض عقوبات اقتصادية وفقاً للفصل السادس من الميثاق، أو الموت ذبحاً عبر أعمال البند السابع، أو الموت قهراً من جرّاء التنفيذ القسري لأجندات أجنبية- تتناقض مع الأجندات الوطنية- تحت طائلة استباحة الأرض والعرض.

تحالفات لها طابع الوصاية
في فترة الحرب الباردة كانت سلطة الفيتو فرصة للدول دائمة العضوية لتبادل الخدمات، فقد سمحت لبعضها البعض بالقيام في غزوة هنا واحتلال هناك دون أن يكون ذلك الاعتداء موضوعاً لأي قرار أممي على غرار ما حصل إبان التدخل السوفييتي في تشيكوسلوفاكيا وأفغانستان، وكذلك حرب الولايات المتحدة على فيتنام. هذه «البلطجة» الدولية لدول الفيتو دفعت أغلبية «الدول القاصرة» إلى «الاستزلام» لواحدة منها خشية أن تتحول فريسةً لإجماع دولي يمحي وجودها من الخريطة، هذا «الاستزلام» اتخذ شكل تحالفات لها طابع الحماية أو الوصاية وصولاً إلى الاندماج المباشر بسياسة الدولة الحامية، وإذا كان «البلطجي» يقايض الحماية بالمال وبسفح ماء الوجه، فإن «بلطجية الفيتو» يستولون اليوم على جزء كبير من ثروات «الدول القاصرة» ويلغون جانباً مهماً من سيادتها.
الاستزلام لبلطجية الفيتو يخضع لقواعد تختلف باختلاف درجة حرارة الحرب القائمة بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، ففترة الحرب الباردة تميّزت بوجود توافق ضمني بين تلك الدول حول مبادئ عامة يجب أن يتضمنها «دفتر شروط الاستزلام» وذلك منعاً للمضاربة وللمنافسة غير الشريفة. ما أن انتهت الحرب الباردة حتى سعتْ واشنطن وحلفاؤها- بدءاً من عام 1992- إلى التلاعب «بدفتر شروط الاستزلام» بهدف تحويله إلى «دفتر شروط استسلام» يُفرض على العالم أجمع وخصوصاً على من كان يدور في فلك الاتحاد السوفييتي، فبدءاً من ذلك التاريخ- وبحسب فرنسيس فوكوياما- باتت «الأمم المتحدة أفضل آلية تستطيع من خلالها الولايات المتحدة الأميركية أن تمارسَ دورها في عالم أحادي القطب بشكله الأميركي». التطبيق الفعلي لهذه العبارة جاء في 24 آذار 1999 عندما قامت واشنطن وحلفاؤها بقصف صربيا من دون تفويض من مجلس الأمن وذلك رداً على روسيا التي صرّحت أنها ستستخدم حق النقض على أي مشروع قرار يسمح بالتدخل العسكري في صربيا. حينها- ونظراً لمحدودية القدرة الروسية على الرد- اكتفت موسكو بإدانة سلوك الناتو معتبرة أنه سيقوض مصداقية المنظمةالدولية ومجلس الأمن، الرد على الموقف الروسي هذا جاء عام 2002 على لسان أحد كبار مسؤولي إدارة بوش الصغير الذي صرّح أنه «إذا كان مجلس الأمن يريد أن يكون ذا صلة فعليه أن يمنح الأميركيين ذات الصلاحيات التي منحها الكونغرس للإدارة الأميركية» في إشارة إلى أن واشنطن ستذهب لغزو العراق بتفويض من مجلس الأمن أو من دونه، بعد أيام أعلن اندرو كارد- رئيس هيئة موظفي البيت الأبيض أن «للأمم المتحدة أن تجتمع وتتناقش إلا أننا لسنا بحاجة إلى إذن منهم»، بعد هذا التصريح بعدة أيام غزت واشنطن ولندن العراق. (نعوم تشومسكي، الهيمنة أو البقاء، ت. سامي الكعكي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 2004، ص43).
المفارقة تكمن في أن واشنطن اليوم ليست ترفض دخول دول جديدة «نادي الخمسة الكبار» لكن لديها شروطاً أهمها- بحسب تصريح صادر عن وزارة الخارجية الأميركية عام 2005- هو أن تكون الدولة المعنية ملتزمة بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأن تكون ذات سجل ناصع في مجال مكافحة الإرهاب ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل.
وأنتم تقرؤون الشروط الأميركية لا شك أنكم قلتم لأنفسكم «انظروا من يتكلم!»، أما أنا فقد قفزت لذهني العبارات التالية:
«إن عقدة العبقرية لديكم- أيها الأميركيون- تكمن في عدم ارتكابكم الحماقات والأخطاء ببساطة ووضوح، بل غالباً ما تجعلونها معقدة وغامضة إلى الحد الذي نضطرُ معه إلى التفتيش عن العديد من الاحتمالات التي لربما كانت تنطوي عليها، إلا أننا دائماً نكتشف- ولو بعد حين- أنها لا تخرج عن كونها حماقات، دون ذكاء فيها أو دهاء». التوقيع جمال عبد الناصر
(مايلز كوبلاند، لعبة الأمم، ترجمة مروان خير، بيروت، لبنان، 1970، ص 245)

:::::

موقع: http://www.damaspost.com