أوباما ثانية:


دولة الدم تضنُّ بدولة المصيدة!

عادل سمارة

ملاحظة: كُتبتْ هذه الحلقات قبل العدوان على قطاع غزة.

لم يتجاوز كثيرون من المحللين العرب ورطة الاعتقاد التي وصلت بهم حد الإيديولوجيا بأن مختلف أوراق مصير العالم بيد الولايات المتحدة سسواء بالقوة أو بالمال أو بالقتل. وهذا ما دفعهم للتفاؤل باوباما الأول والثاني. ولا شك أن هؤلاء لن يرتفعوا قط إلى حد الإدراك أو الإقرار بأن الولايات المتحدة حتى لو كانت بيدها كافة الخيوط، فهي عدو للعرب، خاصة، بكافة الأوجه وعلى الامتداد الزمني. أما وهم هكذا، فكيف يمكن أن يفهموا تجارب التحدي للولايات المتحدة بل وكل المركز الرأسمالي الغربي ممثلة في كوبا وكوريا الديمقراطية وإيران؟

ولا يقف تورط هؤلاء، أو ربما توظيفهم عند الرنوخ في الاعتقاد الكلي بقدرة الولايات المتحدة، بل يرون ذلك كله ملخصاً في رئيسها، فيرون إلى العالم وقد أُنيط بمواقف فرد بقدراته او نزواته! من يتابع مجريات الانتخابات في هذه الدولة يشهد فيلم إثارة سياسي لُعبته السينمائية منافسة حادة بين جزئين لشخص واحد تبدو وكأنها منافسة بين نقيضين بينما هو ما يعبر عن تماثل المرشحين. وما يؤكد هذا أن الفارق بين كل مرشح وآخر في اية دورة انتخابية هو فارق ضئيل للغاية مما يعبر عن تماثلهما في القضايا الجوهرية وتفارقهما في الشكليات. وإلا، لماذا لم نجد فارقا بين سياسَتَيْ بوش وأوباما في قيادتهما لدولة الدم والإمعان في ذبح العرب وغير العرب؟

ديكتاتورية الطبقة والشركات

لا يحكم الولايات المتحدة رئيس فرد، بل من تمنحه ثقتها تلك الطبقة المالكة الحاكمة التي تعبر عن ديكتاتورية راس المال. فلا يصل إلى، بل لا يبدا سباق المسافات المالية الطويلة هناك سوى من يمكنه حمل الأعباء المالية للحملة الانتخابية والتي كلفت هذا العام 2 مليار دولار. وهذا يعبر عن سيطرة ديكتاتورية مالية تحولت في الذهنية الثقافية للمواطن الأميركي إلى هيمنة مقبولة مفادها أن الحق للأغنى، وبأن ما على الفقير سوى أن ينتخب أحد الأغنياء، اي مرشحي راس المال، ومع مرور العقود يصبح هذا هو الوضع العادي والطبيعي بل ويصل بالأمريكي حد المفاخرة ب “ديمقرطية” بلاده وحريتها قائلا: Free country. ويصل بالرئيس السابق بوش ليقول: “يكرهنا العالم العربي لأنه يحسدنا نمط حياتنا” ويشاركه في هذا الإعلامي ثوماس فريدمان، الذي بالمناسبة كتب لملك السعودية الحالي نص “مبادرة السلام العربية” التي نسيها إريك شارون في ذاكرته الميتة والتي جوهرها أن السلام خيار استراتيجي رغم ان خيار العدو الغربي والصهيوني يوميا واستراتيجيا هو الحرب.

تتشكل هذه الديكتاتورية “الديمقراطية” من مجموعة متداخلة من النخب تنتهي في بنية طبقية هي النخبة السياسية الإدارية في الحكم، اي في البيت الأبيض ونخبة المجمع الصناعي المدني ونخبة المجمع الصناعي العسكري، والنخبة الإعلامية الثقافية (وهي تضم خبراء وأكاديميين من اليمين وكثير من اليسار المرتد)[1]، ونخبة الدين السياسي (رجال المؤسسة الدينية من الإيفنجليليين والمحافظين الجدد…).

هذه جميعا هي السلطة، هي الرئيس في الولايات المتحدة، وهذه التي تحكمها مصالح الراسمالية هناك، اي مصالح الشركات الكبرى فتجعل من الجيش أداة ضمان الربح للشركات بل حتى النهب والريع. لذا قال بيل كلينتون ذات وقت في فترة رئاسته : “تصل مصالحنا حيث تصل أقدام جنودنا” هذه هي ديكتاتورية تعمية الفقراء حتى لا يقتلون وحسب بل يُقتلون، ومع ذلك يردد آبائهم وأمهاتهم العبارة الأفيونية المعهودة Support the Troops “أي إدعم القوات المسلحة”. ورغم أن للولايات المتحدة مئات القواعد االعسكرية في العالم ورغم أنه ما من أمة ضُربت وما من فرد سال دمه إلا وكانت هذه الدولة وراء ذلك، رغم ذلك يقول بيل كلينتون نفسه، ” هناك أمة واحدة فقط هي الضرورية (أي التي تستحق الحياة-ع.س) هي الأمة الأميركي” There is only one nscessary nation, the United States of America .

 

انتخابات المركز المأزوم

كان طبيعيا أن يتم إيصال أوباما إلى الرئاسة في الدورة السابقة حيث كانت الأزمة المالية الاقتصادية قد ضربت المركز. وعليه، يكون من الأفضل للشركات لراس المال عموماً أن يوصل للرئاسة طالما هذا المنصب مقوداً من راس المال أن يوصل شخصا “أسودا” ليكون مثابة مصل من الأفيون للسود والأفارقة والفقراء وحتى اللاتينوس. وكانت إعادته للرئاسة أفضل طالما الأزمة لم تُحل، وطالما معاناة الطبقات الشعبية من حكم الجمهوريين لم تتوقف بعد. ومع ذلك كما لاحظنا، لم يتفوق أوباما بفارق ذي بال على منافسه.

وقد اكتسب التركيز على شخص الرئيس اهمية خاصة لأن الراسمالية في الولايات المتحدة قد استنفذت مختلف علاجات أزمتها أو تطويل فترة ما قبل الانفجار، وربما إبعاد حصول الانفجار لسنوات طويلة قادمة طالما تفتقر الطبقات الشعبية لمن يمثلها. فقد أدت الأزمة في جانب العرض والتي بدأت منذ عقود، أدت إلى دخول السوق الدولي شركاء آخرون في الإنتاج وبالتالي في السوق وهو ما دفع شركات من المركز للهجرة إلى المحيط حيث قوة العمل قليلة الأجرة والحقوق وهو الأمر الذي زاد من الأزمة في جانب العرض وقوى مناخ تبلور القطبيات الجديدة. وبكلام ماركسي هذه المرة، ولَّد النقيض نقيضه. كما وصلت السياسة الاقتصادية الفوردية إلى حدها، واتضح لاحقاً كذلك أن الكينزية السلاحية (تفوق الولايات المتحدة على الغير بإنتاج السلاح) لم تعد قادرة على تطويع الأسواق لها بالقوة كما راينا في العامين الأخيرين من خلال الأزمة السورية. بمعنى أن احتلال ليبيا كان، كما يبدو، نهاية “حرية اغتيال الأمم” وكأن العالم عاد بسبب مأزق حقبة العولمة، عاد إلى فترة ما بين 1917-1990، حيث أعاق الاتحاد السوفييتي جموح المركز الإمبريالي في اغتيال الأمم بشكل منفلت.

إن تراجع المركز وتراخي قبضته الدموية يعني وإن تدريجياً مأزقاً يقود عملياً إلى مأزق للشركات والمصارف التي تنهب العالم وتطوِّع الدولة/السلطة في المركز لخدمتها. هذه الخدمة التي تفقد بوضوح قدرتها على تطويع الأسواق الخارجية بالقوة مما ينسف بالطبع ما جرى الترويج له مع تغوُّل حقبة العولمة بأن لامعنى لسيادة الدول، وبأن لا يوجد عالم خارجي للولايات المتحدة كإمبراطورية كما زعم نيجري وهاردت[2] في لحظة نسوة يسارية مركزانية غربية لا ماركسية.ولم يكن كل هذا الخطاب السياسي والبلاغي سوى فرشاً لتسهيل نهب الفوائض من العالم وتعويض الشركات في المركز عن الخسارة بسبب الأزمة في جانب العرض بالمضاربة وتحصيل الريع والاستثمار في غير قطاعات الإنتاج، ما خلا شراء راس المال الكسول في المركز لمساحات هائلة من الأرض في المحيط مجسداً ظاهرة جديدة من الاستيطان بقوة المال لا المدفع.

مرة اخرى إذن، ظل أوباما ضروريا للراسمالية الأميركية إلى أن تتجاووز الأزمة ليظل افيونا كما اشرنا للسود والأفارقة واللاتينوس، ولتواصل التغطية على تقديم المليارات للمصارف كي لا تعلن الإفلاس، ولكي تتواصل التغطية على عدم زيادة الضرائب على الشركات الكبرى والتقشف على الطبقة العاملة وإلى حد ما على الوسطى.

في مناخ استحكام الأزمة إلى درجة العجز حتى عن إدارتها، يتم تقسيم عمل بين الإمبرياليات على أرضية تآخي اللصوص. فكما نلاحظ يزداد تركيز الولايات المتحدة ضد الصين، وتنتعش الذاكرة ومن ثم الشهوة الاستعمارية لفرنسا في ليبيا وسوريا، ولبريطانيا في الجزيرة العربية. وبالطبع لا يعني هذا انسحاب الولايات المتحدة من ارض العرب!

ويعود تقسيم العمل هذا، إلى الأزمة المالية الاقتصادية، وإلى صعود القوى القطبية الجديدة من جهة والقوى الإقليمية الجديدة من جهة ثانية، وكلتا هاتين الكتلتين تشكلان تحدٍّ لقطبية راس المال الإمبريالي الغربي والقوى الإقليمية التابعة له، تركيا وإسرائيل والتوابع العربية.

تفيد الإشارة في هذا الصدد بأن التحدي الصيني لا يكمن فقط في مديونية الولايات المتحدة لها ولا في النمو العالي لاقتصادها، بل كذلك إلى أن مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني الحالي يتركز ضد الفساد من جهة ويشهد صراعاً طبقيا بين القيادة الحالية وبين اتجاه متمسك بالاشتراكية بقيادة بو إكسيلاي من تشونج كوينج، مما يعني إذا ما حوصر الفساد أو تفوق التيار الجذري فإن خطورة الصين تصبح اقوى.