عقاب السماء المرتد


محمد العبد الله

 

أحدثت عملية الاغتيال التي حدثت عصر يوم الأربعاء، الرابع عشر من الشهر الجاري، للقائد الميداني “العسكري والأمني” لكتائب عزالدين القسام في قطاع غزة “أحمد الجعبري”، زلزالاً هائلاً داخل الوطن المحتل وخارجه، بدأت ارتداداته تتوضح على أكثر من مستوى. جاءت الجريمة الجديدة ضمن خطة استهداف لأحد أبرز قيادات الكفاح المسلح داخل الحركة، ساهم في الإعداد لها، الطاقم العسكري/الحربي، والاستخباراتي/الأمني، بتغطية مباشرة من مركز القرار في حكومة العدو، وبدعم واضح من قبل الإدارة الأمريكية وتوابعها في أكثر من عاصمة اوروبية. هذا المركز الذي لعب دوراً ملحوظاً في التغطية على الخطوات التحضيرية للجريمة، من خلال مناورة تضليل واسعة، على مدى الأيام، بل الساعات القليلة التي سبقت التنفيذ، تشير إلى استبعاد العدوان على غزة. فاللقاء الدبلوماسي بالسفراء الأجانب المعتمدين في مدينة عسقلان المحتلة، الذي حرص على التحدث فيه رئيس حكومة العدو، كان للإيحاء بأن أية أخبار أو إشارات علن التحضير لعملية عسكرية قريبة ضد غزة، هي” استنتاجات غير دقيقة وبعيدة عن الواقع”. كما أن التصريح الذي أدلى به الوزير بني بيغن لوسائل الإعلام بعد لقاء لجنة التسعة الوزارية، كان بهدف إيصال رسالة إلى كل المعنيين داخل القطاع، بأن التراشق المحدود المتبادل لن يصل إلى عدوان شامل، لأن “جولة التصعيد انتهت… وسنرد في المستقبل على أي تصعيد” . وفي هذا الإطار، أيضاً، جاءت الزيارة “المضللة ” لرئيس الحكومة ووزير حربه إلى هضبة الجولان المحتلة.

في ظل هذا المشهد، بدأ العدوان الوحشي الجديد، المُبيّت، والمُحَدد ببنك أهداف، أعلن عنه وزير الحرب باراك، أهم مافيه، تصفية قيادات الكتائب والسرايا المسلحة، تدمير مخازن الصواريخ، وتقييد قدرة الرد لدى المقاومة. نشوة “الإنتصار” بتصفية القائد الجعبري لم تدم طويلاً. والحديث عن “نجاح” عنصر المفاجأة الذي تحدث عنه أكثر من محلل عسكري في صحافة العدو، سقط سريعاً. فقد استوعبت غزة، مجتمعاً وقوى  مقاومة مسلحة، عملية “الصدمة والترويع”، وبدأت بالتكيف مع ضرباتها سريعاً، إذ نجحت في امتصاص حدوثها المباغت. نجحت قوى المقاومة المسلحة في الرد الصاروخي النوعي، السريع، الذي فاجأ كيان العدو، بقياداته العسكرية والأمنية، التي حاولت عبر أجهزة الإعلام الخاضعة للرقيب العسكري، أن تقلل من شأن الرشقات الصاروخية المستمرة منذ أكثر من ثمانية وأربعين ساعة، البالغة خمسمائة وخمسين صاروخاً وقذيفة، تجاوزت مستعمرات ومدن غلاف غزة وجنوب الوطن المحتل، لتضرب مباشرة منطقة يافا “تل أبيب” والساحل الأوسط ، ومحيط القدس والوسط، لتقتل وتجرح العشرات، وتصيب بالترويع أكثر من ثلاثة ملايين مستعمر، جزء كبير منهم وصل _ كما عبّر أحد كتاب الصحف الصهيونية _ لحالة “الخوف حتى الموت” .

نجاح عنصر المفاجأة الذي توقعه قادة العدو، حققته المقاومة المسلحة. فقد برزت القدرات النوعية لما تحققه الصواريخ الجديدة “فجر5 وكورنيت وإم 75” التي دخلت الفعل المباشر.بالإضافة إلى دقة الإصابات_ يتم الحديث عن أهمية الصور والمعلومات التي التقطتها طائرة أيوب _حيث  شكلت تلك الضربات، صدمة لسكان منطقة يافا وجوارها، والقدس ومستعمراتها، مما دفع بسكانها للاحتماء بالمخابىء، وبقادة العدو إلى الملاجىء المحصنة. الرعب الذي أحدثته الصواريخ التي أصابت البارجة الحربية التي قصفت بعض مناطق القطاع، والمركبات العسكرية، طال الطائرات الحربية. فقد أسقط صاروخ أرض جو طائرتين للعدو،الأولى بدون طيار والثانية إف 16. في ظل هذه الإنتصارات، التي مرغت من جديد هيبة جيش العدو في الوحل، يحاول قادته، الانتقال إلى مستوى جديد في العدوان/المجزرة، من خلال التهديد بدعوة عشرات الآلاف من كافة الرتب العسكرية، وألوية النخب القتالية، للاستنفار، والحشد حول القطاع، في خطوة، تتراوح بين الضغط النفسي، والتجهيز القتالي ، المحكوم باعتبارت الساحة الداخلية _على ضوء تجربة اليوميين الماضيين_والوضعين، الإقليمي والدولي.

اكتشف الغزاة، أن هذا الكيان/الثكنة لم يعد قادراً _منذ سنوات_ على تحديد ساحة حروبه العدوانية داخل مناطق وأراضي الدول العربية، أي خارج فلسطين المحتلة. فتارة تتحول مستعمرات الشمال وأجزاء من الوسط، والملايين من سكان هذه المناطق، إلى أهداف لصواريخ حزب الله، وتارة أخرى، تكون مستعمرات الجنوب والوسط وسكانها، هدفاً لصواريخ فصائل المقاومة المسلحة الفلسطينية،_ كما كان حالها عام 1991، أثناء الضربات الصاروخية التي وجهتها لها العراق_. كل هذا دفع بالعديد من الإعلاميين والكتاب إلى الحديث، عن “انهيارمنظومة التفوق”، والكلام بصوت مرتفع عن “أزمة وجودية لهذا الكيان”، وهومابدأ يظهر في أحاديث مباشرة للإعلام الصهيوني، ونسوق هنا ماقالته شقيقة أحد الجنود ” أخي متواجد داخل خيمة غير محصنة في قاعدة عسكرية جنوب “إسرائيل”، وقيادة القاعدة لا توفر لهم أي أماكن محصنة للاختباء أثناء سقوط الصورايخ، ويقولون لهم عند سماع صفارات الإنذار عليكم الاختباء داخل الحمامات الموجودة في القاعدة …أنا أشعر أنهم تركوهم في القاعدة ليتم اصطيادهم كالبط، فظروف خدمتهم غير مناسبة، وأنا أطالب بتسريح جميع الجنود، لأنني لا أعتقد أنه يوجد من يريد الوقوف أمام عائلة “إسرائيلية”، ليخبروهم بمقتل أحد أبنائهم”. هذا “الإكتشاف” لم يصل بعد للعديد من المسؤولين العرب، ولعدد من قيادات سلطة رام الله المحتلة، الذين مازالوا يعتقدون بأن هذا الكيان “جزء طبيعي من المنطقة”، ولهذا يحرصون على إقامة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية معه، رغم بعض الإجراءات الخجولة، في تقديم “دعم” لايجلب لهم النقد والغضب من السيد الأمريكي/الغربي/الصهيوني. بعض هؤلاء “القادة” يدعو لوقف العنف المتبادل بين الطرفين! إذ تتساوى لدى تلك “الدمى”، مقاومة الشعب المحتل مع عدوان ووحشية الغزاة المحتلين.

أسقطت انتصارات صواريخ المقاومة _التي وصفها بعضهم بالعبثية _ والأهم، إرادة التحدي والمواجهة والصمود، لدى الشعب الفلسطيني، في القطاع، وداخل كل الوطن الفلسطيني المحتل، وفي كل مواقع اللجوء، نظرية “التفوق الأبدية” لهذا العدو. مما شكل حافزاً جديداً لإحياء وترسيخ نهج المقاومة، عبّرت عنه المظاهرات العارمة التي شهدتها _ومازالت_ مدن وبلدات الوطن الفلسطيني المحتل عام 1948 وعام 1967، وكل مناطق اللجوء، والعديد من المدن العربية والعالم. إن الدم الفلسطيني والقدرة على المواجهة، والرد على العدوان ببسالة قتالية ومجتمعية هائلة، قد ساهم بشكل مباشر بتوحد الشعب والأمة حول المقاومة المسلحة، التي أثبتت عبر التاريخ، أنها أنجع الطرق في الرد على الغزاة وعلى استنهاض الشعوب.

جاء هذا العدوان الوحشي، ليضع الأنظمة الجديدة في أكثر من قطر عربي، أمام امتحان مصيري، لمعرفة درجة مواجهتها للعدوان الجديد، الأكثر وحشية ودموية منذ صولها لسدة الحكم. وللتأكيد على أن المواجهة مع العدو الصهيوني، هي من أجل السيادة والحرية والكرامة لمواطنيها، كما هي من أجل حرية شعب فلسطين الشقيق. إن أهل غزة، وعموم الشعب الفلسطيني بحاجة لأكثر من تضامن لفظي، أو لزيارة مسؤول، أولمعدات طبية_ رغم أهميتها_ فالمطلوب هو القطع الكامل للعلاقات مع هذا الكيان، والضغط الاقتصادي والسياسي الكامل على داعميه. والخطوة الأهم الآن تتطلب فك الحصار عن القطاع، لأن زيارات الست ساعات الاستعراضة/ الخدمية، أو مثيلتها، التضامنية،الباحثة عن دور في عمليه التهدئة والحفاظ على استمرارها، في إطار “السلام العادل والشامل!” لن تقدم الدعم الاستراتيجي المطلوب لشعبنا في غزة. لهذا، فإن أي دعوات لوقف العدوان الحالي ستقود إلى تهدئة جديدة، وبشروط جديدة، تفرضها الوقائع التي لم تعد أسيرة شروط القوة المعادية فقط. إن قوة الردع الفلسطينية، ووحدة قوى المقاومة، المستندة على مجتمع متماسك، شكل تاريخيا ً خزانها البشري وسياجها المعنوي، ستفرض شروطها، كما فرضت وجودها. هذا الوجود الذي غاب عنه، ولو بزيارة استعراضية “تضامنية”_ وليس في الأمر مفاجأة_ قادة سلطة رام الله المحتلة.

إن سعي نتنياهو وليبرمان في عدوانهم الحالي_ المسمى “عمود السحاب/الغيمة” أي العقاب السماوي كما تشي أساطيرهم_ تحقيق نصر عسكري حاسم في عدوانهم الجديد على القطاع، من أجل استثماره في صناديق الانتخابات القادمة بعد شهرين تقريباً، مرهون بالنتائج وليس بالنوايا فقط. لم يتعلم نتنياهو من تجربة مماثلة لشمعون بيريز عندما كان رئيساً للوزراء في عام 1996، حيث كانت التحضيرات على أشدها للانتخابات. ذهب بيريز لعدوان وحشي على لبنان بعملية حربية واسعة تحت اسم “عناقيد الغضب” ليضمن تحقيق جملة أهداف، من بينها، إذا لم يكن من أهمها، تحقيق فوز بالانتخابات. لكن نتائج الحرب جاءت على عكس ماتوقع. ذهب الناخبون إلى صناديق الاقتراع ليعطوا أصواتهم إلى خصمه حينها ” نتنياهو”. فهل سيعيد التاريخ نفسه بطريقة مشابهة. سؤال ستجيب عنه تطورات الأحداث في الأيام والأسابيع القادمة.

على مدى سنوات الصراع مع هذا العدو الاحتلالي الإجلائي، دفع الشعب الفلسطيني والأمة العربية آلاف الشهداء، ضريبة الوجود والانتماء والحرية. وفي سياق هذه المجابهة الدائمة، لجأت أدوات القتل الغادرة، الجبانة، لتصفية القيادات والكوادر المناضلة في صفوف الحركة الوطنية والتحررية لشعبنا وأمتنا. لكن ما أكدته كل عمليات الاستهداف والقتل، أن هذا العدو المدعوم أمريكياً وغربياً، يستطيع إغتيال فرد، لكن كما أثبتت التجارب والتاريخ، أنه لن يستطيع مهما فعل، أن يغتال شعباً وينهي وجود أمة.