دولة الدم تضنُّ بدولة المصيدة!
(3 والأخيرة)
عادل سمارة
ملاحظة: كُتبتْ هذه الحلقات قبل العدوان على قطاع غزة.
أوسلو-ستان: مصيدة أم دولة
في ولاية أوباما الأولى شاغل السيد سلام فياض فلسطينيي الضفة الغربية لقرابة ثلاثة أعوام في تجهيز مؤسسات الدولة وتأكيد استقلال لهذا الجزء من فلسطين المحتلة بأكملها. لكن تلك الفترة انتهت إلى إعلان إفلاس سلطة أوسلو-ستان، ورافقت ذلك هبَّة من موظفيها تحت صدمة مزدوجة بمعنى:
· أن لا جيىء بدولة
· ولا تمكن هؤلاء من تدبر معيشتهم اليومية.
وكانت الاحتجاجات التي إيجابيتها الأساسية إرساء مقدمات لثقافة الاحتجاج بدل الانحصار في مقاومة الاحتلال الناعمة “المقاومة السلمية” ورمي كافة المشكلات المحلية على الاستعمار الاستيطاني بقصد إعفاء الذات أكثر مما هو بتحليل موضوعي للحالة.
ويبدو أن هذه السلطة باتجاه إعادة مشاغلة مجمل الفلسطينيين بالحصول على عضوية غير رسمية لدولة فلسطينية في الضفة والقطاع، اي دولة غير عضو. ولا شك أن هذا سوف يوفر فرصة لتقطيع الوقت عبر توظيف مجموعات من المثقفين العضوييين للتسوية والقانونيين والمهرجين الإعلاميين الذين يدبجون مقالات المديح والتأكيد بأن الاستقلال الحقيقي قادم، وبأن الفلسطينيين يحرجون الكيان بالذهاب إلى الأمم المتحدة بل ويحرجون الولايات المتحدة محتفلين باكتشاف أنها ليست وسيطاً موضوعياً..الخ. بينما تعلن الولايات المتحدة أن هدفها الرئيس في المنطقة هو حماية الكيان الصهيوني الإشكنازي. وعليه، فقراءة هذه الحماية تشتمل على أن لا دولة في فلسطين للفلسطينيين. وعلى هذا يترتب إما التهجير الكلي او الجزئي ووطن بديل في الأردن وكل هذا يرتبط بقدرة الإرهاب الأممي (من العرب والعجم وقوى الدين السياسي والصهيونية ) على تدمير سوريا وتقسيمها. حينها سوف تتمدد سلسلة دول الدين السياسي القُطرية جوهريا من المغرب إلى تونس فليبيا فمصر فالسودان جنوباً فغزة شمالاً فالضفة فالأردن فسوريا، وحينها سوف تزداد الرطانة عن دولة الإسلام الافتراضية والتي تجسيدها دول طائفية ومذهبية لا أكثر مما لا ينتج عنه سوى دولة اليهود الخالصة.
وقد يزيد هذا التحليل وضوحاً حقيقة وجوهر اتفاق أوسلو وبرتوكول باريس اللذين ليسا سوى مصيدة للفلسطينيين في الضفة والقطاع. ودون الدخول في كثير من التفاصيل، فإن اتفاقية أوسلو لم تتضمن قيام دولة فلسطينية، بل حكما ذاتياً، كما لم تتضمن انفصالا اقتصاديا ولا جمركيا ولا ضريبيا ولا حقا في سك عملة. بل حتى لم تتضمن خلع المستوطنات بل تشريعها. وابعد من هذا فقد ضمنت أوسلو “حق المستوطنات في التوسع الطبيعي”.! إذن من ناحية استقلالية، كانت أوسلو مصيدة للفلسطينيين.
وكانت أوسلو مصيدة مالية بمضمون ريعي. فقد تم توفير تمويل أجنبي لامتصاص قوة العمل المحلي كي تتوقف عن العمل الانتفاضي وحولت المناضلين القادمين من الخارج والمحليين إلى موظفين، ورجال المقاومة والانتفاضة إلى شرطة في عملية تدجين واسعة النطاق. وكانت نتيجة ذلك إما توظيف قوة العمل واصطفاف من لم يوظف بانتظار التوظيف والابتعاد عن مواقع الإنتاج سواء في الزراعة أو الصناعة.
وإذا كانت السلطة هي مصيدة اليمين وقيادات اليسار، فقد لعبت منظمات الأنجزة دور مصيدة كوادر اليسار الأمر الذي وضعهم على قارعة انتظار الريع غير الحكومي (الأنجزة) كمصيدة خبيثة تسمح لك بالرطانة يساراً وبتنفيذ أجندة الممولين عملياً بل وتسمح لليسار بنقد الممولين مما يضعهم حقيقة في وضعية من ينقد الوحش من خلال ما يسمح به الوحش فيبدو الوحش إنساناً وديمقراطياً. وهي صورة أشبه بالمعارضة التي كتب عنها ثوماس هوبز وصورها على شكل ديدان في بطن الوحش الكبير (ليافياثان).
إضافة إلى كون أوسلو قد شطبت حق العودة عمليا لا كتابة أو نطقاً، فإن تمويل السلطة واليسار وقوى الدين السياسي بالريع المتأتي من دول المركز ومنظات الأنجزة، وأنظمة النفط وخاصة قطر مؤخراً، فإن هذا التمويل قد خلق بنية مشوهة وخطرة للمجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع، بنية دولانية وظيفية متلقية عوائد من الخارج وفيها مراتبية هرمية تبدأ من يرجوازية بيروقراطية تجارية في الأعلى وطبقة وسطى من متوسطي الموظفين وطبقة دنيا من صغار الموظفين. هي بنية دولانية إذن على شكل مجتمع تعتاش من الريع بغض النظر عن مصادره، اي تكاد تكون مجتمعاً ريعيا بحد ذاته مكونا من مراتب طبقية خاصة به، وهذا مقابل بقية المجتمع بمراتبه الطبقية ايضاً، وهذا ما قد يفسر لماذا انحصرت التظاهرات الأخيرة في صفوف موظفي السلطة مما حال دون ربيع فلسطيني ولو من طراز ربيع العرب. وقد يكون هذا سر صمودها. فمن يعتاش من السلطة حريص على بقائها حتى لو تظاهر ضدها، والمتمول من الأنجزة حريص عليها وعلى السلطة حتى لو رطن يساراً ضدها وزعم أنه ضد اوسلو. لذا، ليس من السهولة بمكان الحديث عن ربيع عربي في الأرض المحتلة بغض النظر عن يباس ذلك الربيع العربي.
لا يخفى أن صورة قاتمة كهذه تحرص السلطة ومثقفوها العضويون على ترسيخها بمعنى أن المشروع الوطني لم يعد سوى
◙ السؤال عن دولة في أجزاء من الضفة والقطاع، وهذا ينطلق من الاعتراف المنهجي بالكيان الصهيوني والنفي الضمني ولكن العملي لحق العودة، فما بالك بالتحرير،
◙ والاصطفاف ضد قوى المقاومة والممانعة بدءاً من دعم ثوار الناتو وصولاً إلى توجيه الإعلام الحلي ليكون نسخة عن الجزيرة و أل بي.بي.سي،
◙ وترسيخ ثقافة وصورة المجتمع العاجز عن إنتاج قوت يومه وبالتالي فما عليه سوى التأدب حتى يستمر تدفق النقود. ولا يحق لأحد منه نقد تقصير السلطة وعدم مواكبة الرواتب للأسعار لأن المانح مشكور على ما أعطى!
وبالتالي، فإن خصاء المجتمع هكذا هو الذي فتح أوتوستراد الفلتان التفاوضي ومن ثم الحديث عن دولة غير عضو.
واليوم، في حين تؤكد سلطة أوسلو-ستان أنها ماضية بعزيمة إلى الأمم المتحدة للحصول على دولة لا عضو، يتسائل كثيرون، ما الذي يدفع أوباما الثاني لرفض تقديم الطلب الفلسطيني رغم انه جوهريا، إذا ما حصل واصبحت هذه الدولة عضو او شبه عضو، هذا يتضمن النصر التاريخي للكيان وهو تصفية منظمة التحرير الفلسطينية بمعنى أن من يمثل الفلسطينيين سيكون سلطة هذه الدولة. وهذا يغض النظر عن التوليدات القانونية التي تحاول نفي هذا الاستنتاج. فليس هناك ما يقيد السياسة وخاصة الدولية القائمة على معايير قووية، ليس هناك ما يقيدها بالقانون فما بالك بالأخلاق والحقوق!.
لعل التفسير الأقرب إلى هذا الموقف هو أن الفلسطينيين انفسهم في اتفاق اوسلو لم يشترطوا على الولايات المتحدة والكيان إيراد نص على دولة فلسطينية. وعليه، فإن للفترة الانتقالية الواردة في هذا الاتفاق أو هو نفسه كنص على فترة إنتقالية، هذه الفترة هي مصيدة أخرى يفسرها كل فريق كيف يرى.
ففي حين يفسرها فقهاء التسوية الفلسطينيون بأنها فترة إنتقالية باتجاه دولة في الضفة والقطاع يفسرها الكيان والولايات المتحدة بأنها فترة انتقالية يقوم فيها الكيان بقضم تدريجي لأراضي الضفة الغربية تحديداً وبغمرها بالمستوطنين إلى أن يصبح أمام الفلسطينيين بابا وحيدا هو الانزياح إلى الأردن. وهذا يعني أن الولايات المتحدة تعتبر الضفة والقطاع أجزاء من الكيان ولكنها لا تعلن ذلك وتتركه للوقائع على الأرض لتعلنه.
وحتى إذا ما دخلنا في سيناريو حسن النية، فإنه إذا ما أُقيمت هذه الدولة المفترضة لتكون هي ممثلة للفلسطينيين يصبح الفلسطيني هو من يعيش فيها او يحمل جنسيتها أينما كان، وتنحصر صلاحياتها في تمثيل فلسطين الجديدة اي الضفة والقطاع لا غير حتى مقضوماً منهما الكثير. وبتحديد أكثر ستكون حقوق الفلسطينيين هي في هذه الدولة وليس في فلسطين التاريخية. ولا نريد الذهاب أوسع بالقول إن تدمير سوريا سوف يدفع فلسطينييها وفلسطينيي لبنان وبقايا فلسطينيي العراق إلى الأردن لتقوية فرص الوطن البديل. وحينها سوف يعمل الكيان مجدداً على المطالبة بشطب هذه الدولة لأن دولة الفلسطينيين هي في الأردن. وربما تقام ترتيبات أخرى باشكال فدرالية بين غرب وجنوب الأردن وشرق وجنوب الضفة الغربية، لتكون منطقة رخوة. وقد يفسر هذا تلكؤ الكيان وواشنطن في تحويل الحكم الذاتي إلى دولة. بمعنى أن هذه الدولة مرفوضة منهما.
ماذا بعد؟
إذا صح تحليلنا لموقف الولايات المتحدة بل المركز الإمبريالي باكمله وخاصة في احتضانه للكيان الصهيوني، وعلى ضوء سيولة الوضع العربي الرسمي وتهالك الشعبي تجاه القضية الفلسطينية وخاصة أمام انحصار الشعبي في همومه الداخلية أو تشويهه بالقُطرية والإقليمية والمذهبية والإثنية وربما أمور اكثر سوءاُ فإن إمعان السلطة الفلسطينية في التوجه إلى الأمم المتحدة يشكل زيادة في التورط في مصائد التسوية.
وبالمقابل، فإن استمرار وجود هذه السلطة لا يزيد عن كونه تقطيع وقت إلى أن يبتلع الكيان بشكل فعلي ونهائي معظم الضفة الغربية ولا تكون هذه السلطة سوى شاهد زور يقود مجرد وجوده إلى تسهيل ذلك الابتلاع، وهنا تحديداً يكمن لغم اتفاق اوسلو بعيداً عن مزاعم حسن النوايا وطيب الطوايا.
وبالمقابل ايضا، فإن حَّلا فجائياً للسلطة ليس بالأمر العملي وسوف يُواجه برفض من قبل موظفي هذه السلطة اي (دولة بنية السلطة بمراتبها الطبقية بموازاة بقية المجتمع). بل إن الذين تظاهروا نقدا لسياسات سلام فياض سوف يتظاهرون لبقاء السلطة. وهذا كله تعبير عن مصيدة أخرى. وبالطبع يترتب على هذا الحل توفير تمويل لبنية تعتمد بشكل شبه كلي على الربع.
ويزداد باب المصيدة إحكاماً على ضوء الوضع العربي الرسمي السائل والذي لم يجرؤ سابقا على تمويل الفلسطينيين، ولذا لا إخال انه سيفعل اليوم لأن في ذلك خروجاً على الموقف الغربي وخاصة موقف واشنطن.
وبما هي مصيدة، فإن الممكن هو التعاطي مع الوضع بتدرُّج حذر يقوم على عدم التورط في البحث عن مقعد شكلي في الأمم المتحدة والاستمرار في عدم التفاوض، المعلن على الأقل.
ولعل الأهم هو الصعيد الشعبي والذي لا بد له من تجاوز صراعات فتح وحماس بما هي بين فصيلين وليست بين الشعب نفسه، والعمل على إعادة بناء البلد سواء بمحاولات العمل الشعبي التنموي، ومقاومة الفساد وكل ذلك في إطار استعادة الحياة مقاومة وخاصة ضد الاحتلال.
لا تشكل هذه المقترحات بديلا سريعاً. ولكن واقع الأرض المحتلة لا يوحي بإمكانية توفير حل سريع، ولعل الشاهد على هذا أن هذا الصراع قد امتد لقرن كامل. ليس أمامنا سوى سياسة النفس الطويل، فقد أدى البحث عن حلول سريعة لصراع تاريخي إلى سلسلة من المآسي والمصايد.