التقرير الأسبوعي لمراكز الأبحاث الاميركية

 

د. منذر سليمان

 

مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي

واشنطن، 18 نوفمبر 2012

مع اعداد التقرير، شنت “اسرائيل” حملة عسكرية جوية تستهدف اغتيال القادة العسكريين لفصائل المقاومة في غزة، بالاضافة الى ما تعتبره مواقع مخزوناتها الصارويخة النوعية.

        يأتي هذا العدوان بعد بضعة ايام من اعادة انتخاب الرئيس اوباما، وايضا في الفترة الزمنية الفاصلة لمراسم اعادة تنصيبه، كما يصادف الموعد المقرر لاجراء انتخابات “اسرائيلية” مبكرة (شهر كانون الثاني2013).

        كل المؤشرات تدل على ان روح الصمود والتحدي والمبادرة التي ميزت قرار فصائل المقاومة في غزة بالمواجهة والتصدي مكنها من استهداف درة الكيان في تل ابيب ومناطق محاذية بالقدس ملآى بالمستوطنين، مكرسة افشالها للاهداف “الاسرائيلية” المعلنة مما يلوح بمزيد من التصعيد. وما اضطرار القيادة السياسية والعسكرية “الاسرائيلية” النزول الى ملاجيء تحت الارض والتهديد في مغامرة شن حملة برية الا دليل ساطع على نبوءة المقاومة بان العدو بدأ الحرب لكنه لن يملك التحكم في سيرها او التحكم بنتائجها.

        العدوان الاخير حظي بتغطية اميركية فورية دلت عليها التصريحات الرسمية المتعددة التي كرست “حق اسرائيل بالدفاع عن نفسها،” مما بدد سريعا اية اوهام او آمال لدى البعض دأب على ترويجها تفيد بامكانية اقدام اوباما على ادخال تعديلات في سياسته الخارجية ومقاربته تجاه الصراع العربي – الاسرائيلي، او الابتعاد عن التماهي مع الموقف “الاسرائيلي.” في آحدث تصريح لاوباما خلال جولته الاسيوية المح الى ضرورة منح الاطراف الاقليمية المؤثرة (يقصد مصر وتركيا وقطر) فرصة زمنية مدتها 48 ساعة للتوصل الى اتفاق للتهدئة، ولخص موقفه على النحو التالي: “كانت رسالتي للجميع ان لاسرائيل كل الحق في ان تتوقع الا يكون هناك صواريخ تطلق على اراضيها. اذا تحقق ذلك دون تصعيد النشاط العسكري في غزة فان هذا افضل، ليس لسعب غزة فحسب، ولكنه افضل للاسرائيليين ايضا – لانه اذا دخلت القوات الاسرائيلية غزة فان اهلها يسكونون عرضة اكثر بكثير لخطر تكبد الوفيات والجرحى. نحن في طريقنا لمعرفة نوعية التقدم الذي تكننا تحقيقه في السعات ال 24 و 36 و48 القادمة. لكن ما قلته للرئيس المصري مرسي ورئيس الوزراء اردوغان هو ان اولئك الذين يناصرون قضية الفلسطينيين ينبغي عليهم ادراك اننا اذا رأينا المزيد من تصعيد الموقف في غزة، فان الاحتمال بالنسبة الينا للعودة لاي نوع من مسارات السلام التي ستقود الى حل الدولتين ستكون قد اجلت لمسافة ابعد في المستقبل.”

المقدمة:

انتكس المشهد السياسي الاميركي باستقالة مدير وكالة الاستخبارات المركزية، ديفيد بترايوس، ظاهرها علاقة عاطفية وباطنها خلافات قوية مع مراكز القوة الاخرى على خلفية عسكرته لمهام وكالة الاستخبارات ومحاباة طائرات الدرونز وقوات العمليات الخاصة مما خلق ازمة كامنة بين الاجهزة الامنية الرئيسة. وخصصت معظم مراكز الفكر والابحاث الاميركية جهودها للبحث وتتبع تداعيات الاستقالة وما ستتركه من آثار على عموم التوازنات السياسية الداخلية، خاصة لكونه الشخصية البارزة والمفضلة لخصوم الرئيس اوباما من الجمهوريين.

العدوان “الاسرائيلي” الاخير على قطاع غزة وهول القيادات “الاسرائيلية” نتيجة نجاح المقاومة الفلسطينية مفاجأتها وقصف تل أبيب والقدس وهرتزيليا بالصواريخ، شكلت مادة اهتمام اضافية.

ملخص دراسات ونشاطات مراكز الابحاث

        مركز ابحاث السياسة الخارجية Foreign Policy Research Institute تناول ما اسماه العلاقات طويلة الامد بين “قادة اسرائيل” وغزة، محذرا من “الاجواء المعادية لاسرائيل” التي جاءت بها الحركات الاسلامية وما تفرضه “من تحديات أمنية غير مسبوقة.” وحث المركز القادة “الاسرائيليين” عدم ادخار اي “جهود متوفرة لممارسة الضغط على قيادة حركة حماس.. وحثها لتفادي مغامرات عسكرية خطيرة.. بما فيها استغلال الدول العظمى لنفوذها لضمان الاستقرار والأمن في المنطقة.” كما طالب “اسرائيل” بانشاء “قنوات اتصال مباشرة او غير مباشرة.. مع السعودية” التي تحتفظ بنفوذ داخل حركة حماس.

        معهد بروكينغز Brookings Institution لفت الانتباه الى تغير الظروف بين المواجهة الراهنة في غزة وبين ظروف العدوان الاخير عام 2008-2009، منوها الى ان الرئيس المصري محمد مرسي “الذي لم يبدِ اي مفاضلة تجاه حركة حماس لحد الآن.. لكن بمقدرو مصر ان تعقَّد الحسابات الاسرائيلية.. ويتعين على اسرائيل الاخذ بعين الاعتبار الحاجة لبسط الهدوء بين مواطنيها” وتغليبها على اية اعتبارات ميدانية اخرى.

        ايضا، ادلى معهد واشنطن Washington Institute بدلوه في الانعكاسات المرتقبة للعدوان على العلاقات “المصرية الاسرائيلية.” وحث الادارة الاميركية الضغط على الرئيس المصري محمد مرسي “وافهامه انه باستطاعته التباين مع موقف الولايات المتحدة فيما يخص الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني، بيد انه ليس باستطاعته التباين في اطار اهمية المحافظة على العلاقات المصرية – الاسرائيلية.”

        اميركيا، اشاد معهد هدسون Hudson Institute بفرادة مدير وكالة الاستخبارات المركزية المستقيل، ديفيد بترايوس، الذي “استوعب مبكرا بتفوق على كل نظرائه في الاجهزة الامنية القومية ان الجمهورية الاسلامية هي في حال حرب مع الولايات المتحدة،” وهو الذي حال بين التوصل الى صفقة اتفاق كبرى مع ايران “اذ بالنسبة له المعضلة الاكبر تكمن في طبيعة النظام (الايراني) ذاته، الذي يرمي الى اخراج الولايات المتحدة من المنطقة في النهاية.. كما ان رئيس قوات القدس، قاسم سليماني، يعد العدو الشخصي لبترايوس.” واكد المعهد على ان بترايوس حال دون توصل الادارة الاميركية الى صيغة تقارب مع ايران، بل “تصدى للايرانيين.”

        معهد الدراسات الحربية Institute for the Study of War قام بنشر خريطة توضح ما اسماه الحرب الاهلية الدائرة في سورية، نعيد نشرها في مكان آخر من هذا التقرير.

        معهد كارنيجي Carnegie Endowment حذر بدوره مصر من “تكرار تجربتي تركيا وجنوب افريقيا بداخلها…” مستطردا ان المجتمع الدولي ينحو الى التغاضي عن بعض التصرفات بغية تعزيز مكانة القوى الصاعدة “لكن التجربة اثبتت خطأ تلك الفرضية.”

        ايرانيا ايضا، تناول مركز ابحاث السياسة الخارجية Foreign Policy Research Institute البعد الاعلامي هناك منوها الى توفر “التعددية في الوسائل الاعلامية لا سيما داخل التيار الحاكم، والصحافة المطبوعة بشكل خاص… اذ ان ادراك التقاسم الوظيفي بين النظام السياسي والوسائل الاعلامية المتعددة له اهمية عالية للتوصل الى فهم ادق لما ينشر في وسائل الاعلام الايرانية.”

        مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS تناول مستقبل العلاقات الاميركية التركية، مؤكدا على تعدد العوامل التي تشكل تكامل التحالف بين الطرفين، من بينها “وجهة تموقع الولايات المتحدة النهائية.. في الشرق الاوسط.. كما ان مستقبل العلاقة سيرتكز الى مدى الاستقلالية التي تنوي تركيا التزامه في سياستها الخارجية كأولوية على علاقاتها مع الولايات المتحدة.. علاوة على الاعتبارات الداخلية في البلدين خاصة وان الشعب التركي لديه شكوك عميقة لنوايا الولايات المتحدة طويلة الامد في المنطقة معطوفة على التزاماتها في صون أمن تركيا.”

التحليل:

نظرة اولية على سياسة اوباما الخارجية في ولايته الثانية

        درجت العادة ان تشهد السياسة الخارجية الاميركية بعض التعديل في التوجه والوجهة خلال فترة الولاية الثانية للرئيس المنتخب لاعتبارين رئيسيين: الاول، رغبة جامحة لرؤساء الولاية الثانية البدء بارساء “ارث” يطبع السجل الرئاسي من منظار تاريخي؛ وثانيا، بصفته غير قابل للتقدم بالترشيح مرة اخرى (مما يعرف بالبطة العرجاء) باستطاعة الرئيس الاقدام على اتخاذ قرارات كانت تقيد حركتة في الولاية الاولى بين الناخبين.

        الامر عينه ينطبق على اوباما في الولاية القادمة، اذ يحكمه هاجس تقييم ولايتيه في اطار تاريخي يذكره بالرضى. كما سيقدم على اتخاذ اجراءات كان مترددا في اتخاذها قبل الانتخابات، والتي كرستها محادثة خاصة اجراها مع الرئيس الروسي آنذاك ديميتري مدفيديف والتقطها الميكروفون الذي اعتقد انه اغلق قائلا ارجو ابلاغ رسالتي (لفلاديمير) بوتين ان “الانتخابات المقبلة هي الاخيرة بالنسبة لي، وبعد انقضائها سيتوفر لدي قدر اكبر من المرونة” في الملفات ذات الاهتمام المشترك. وكانت اجابة مدفيديف واضحة في دلالتها بانه سينقل ذلك الى بوتين.

        عند هذا المنعطف تجدر الاشارة لتصريح الناطق باسم الرئيس الروسي، ديميتري بيسكوف، مطلع الاسبوع الجاري بان “الرئيس الاميركي اكد قبوله دعوة نظيره الروسي بزيارة روسيا.”

        واقع الامر ان التحديات التي تواجه سياسة الادارة الخارجية تتنامى وتتشعب، لا سيما في ظل حالة الانقسام السياسي للمشهد الاميركي والذي ساهم بفوز اوباما بنسبة ضئيلة – الامر الذي يعد نادرا في تاريخ الانتخابات الاميركية. ان تركيبة التوازن السياسي الراهنة في الكونغرس تعقد جهود الادارة في الحصول على مصادقة مجلس الشيوخ على اية معاهدات بنسبة ثلثي الاعضاء ويجعلها امر صعب المنال.

        كما ان هنالك بعض التحديات التشريعية التي ستترك تداعياتها على سياسة اوباما الخارجية، ليس اقلها التوصل لاتفاق تشريعي حول الميزانية الفدرالية والتي تواجه تقليصا في مواردها وارتفاع نسبة ضريبة الدخل على بعض الشرائح الاجتماعية الوسطى. واستنادا الى السجل القريب، فان اوباما اظهر خفة ادراك لآلية التشريع وضرورة بناء تحالفات مع خصومه السياسيين.

        هناك اجماع عام بان الوضع المالي الراهن للحكومة الاميركية على شفير الهاوية، ان استمر العمل به بالوتيرة الراهنة، مما سيترتب عليه آثار جمة للسياسة الخارجية والامنية الاميركية، بدءاً بميزانية الدفاع واخواتها. نجاح اوباما مرهون بقدرته على التحكم بمفاصل الميزانية المركزية الهائلة – وانعاش النمو الاقتصادي بشكل ملحوظ – والذي سيترك بصماته بقوة على نجاعة ادائه داخليا وخارجيا وشروع الزعماء الدوليين تقييم قدراته وصلابة موقفه استنادا الى مهارة ادارته للازمة الداخلية.

 فريق جديد للتحكم بمفاصل السياسة الخارجية

        سينزوي اوباما جانبا لاعادة هيكلة اطقم سياسته الخارجية ومجلس الامن القومي، بناء على ما تداولته وسائل الاعلام المختلفة بان وزيري الخارجية والدفاع، هيلاري كلينتون وليون بانيتا على التوالي، اعربا عن نيتيهما التنحي عن منصبيهما في القريب العاجل، مع تأكيدهما على القدرة في البقاء بالمنصب لحين مصادقة مجلس الشيوخ على خليفتيهما. الاستقالة المفاجأة لمدير وكالة الاستخبارات المركزية، ديفيد بترايوس، اسهمت في مضاعفة التحدي الماثل.

        التغييرات المرتقبة في طاقم السياسة الخارجية يحفز طرح تساؤلات هامة. اولها، يتعلق بفعالية الطاقم الجديد. اذ ان هيلاري كلينتون حظيت بمقدار عال من الصدقية بين الساسة من الحزب الجمهوري تجاوزت فيه الرئيس اوباما ووزير الدفاع ليون بانيتا على الرغم من خبرة الاخير الطويلة في اروقة الكونغرس. هل سيتمتع التشكيل الجديد بقدرات ومواهب مماثلة؟ وهل سيكون بمقدوره العمل بسلاسة مع مستشار الرئيس للأمن القومي، توم دونيلون؟

        ثانيا، هيكلية الطاقم الجديد والاثر الذي ستتركه على تناول اولويات الرئيس اوباما؟ وهل سيكون بمقدور اوباما بلورة اطار عام لما ينوي انجازه من مهام، لا سيما وان رفد دم جديد له تأثيراته الخاصة على تحديد الاولويات المطلوب انجازها وتسخير الادوات المناسبة.

        عند هذا المنعطف، فان دور كل فرد يعد حيويا، مهما بلغت رتبته الوظيفية، لما له من انعكاس على مجمل السياسة. عند مغادرة الوزراء مناصبهم، يتولى نوابهم ومساعديهم المقربين ادارة الشؤون اليومية، ودفع عملية الانتاج قدما بفضل هؤلاء. بيد ان بعض المبادرات قد تتراجع او تتعثر نظرا لشغر منصب المسؤول الاول. على سبيل المثال فان وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ونائب الوزير لشؤون الشرق آسيوية والمحيط الهاديء، كيرت كامبل، سويا شرعا بهندسة الدور المتعاظم للدول الاسيوية، وكليهما سيترك منصبه قريبا.

        كما لا ينبغي القفز عن عامل ماذا ينتظره الآخرون من السياسة الخارجية الاميركية في السنوات الاربع المقبلة وما هم فاعلون، ويتضمن ابعادا ثلاثة: الدور المرتقب للجمهوريين في صياغة السياسة الخارجية؛ قياس ردات فعل الدول الاخرى للتطورات الداخلية الاميركية؛ واستشراف الازمة المرتقبة غير المتوقعة.

        من نافل القول ان السياسة الخارجية للرئيس اوباما تعتمد على فريقها حصرا. اذ بعد ان استطاع الحزب الجمهوري الاحتفاظ بنسبة الاغلبية في مجلس النواب فان حظوظه تتنامى في التأثير على اتخاذ قرارات ذات طبيعة حيوية بمجرد التلويح بسيطرتهم على قرار الصرف المالي، مما قد يؤهله لطرح رؤية مغايرة. علاوة على ذلك فان الادارة الاميركية ستجد نفسها مضطرة الى تنسيق سياستها الخارجية مع بعض حلفائها مثل بريطانيا والمانيا واليابان، او مع منافسيها الفاعلين مثل روسيا والصين.

        حجم الانفاق العسكري سيترك أثره ايضا على ردات فعل الدول الاخرى حين تخفض الولايات المتحدة ميزانيتها العسكرية. قد يترك الامر اثرا فوريا على العمليات العسكرية الاميركية الجارية في الشرق الاوسط، الا ان قلقا متناميا يسود بين اوساط صناع القرار لتعاظم القوة العسكرية للصين وعزمها على استخدامها في ظروف مؤاتية. وعليه، خصصت الولايات المتحدة موارد كبيرة للمحافظة على تفوقها عسكريا في آسيا، على الرغم من حصول قيادة القوات المركزية على حصة الاسد من الموارد والتي بدأ يتبلور فشل تخصيص موارد كافية للقيام بذلك. وهذا الامر يقود الى الاستنتاج بأن الاستقرار الاستراتيجي وقدرة الولايات المتحدة على التحكم في الاحداث والتطورات الاسيوية قد يصيبه الضعف نتيجة ذلك.

        مهارة ادارة الازمات الراهنة هو ما سيحدد نجاعة سياسة اوباما في ولايته الثانية، مع الاخذ بعين الاعتبار ان سجلها الحاضر لا يشير الى تميز في مواجهة الازمات الطارئة – والذي تجلى حديثا في اجراءاتها حيال الاضطرابات التي عصفت بالشرق الاوسط، في مصر وليبيا وسورية، وربما مرده يؤشر على فقدان الادارة لاطار استراتيجي واضح المعالم للسياسة الخارجية الاميركية.

        فيما يخص عامل اعادة توجيه السياسة الخارجية، فضل اوباما حصر خياراته ببعض القرارات التي اتخذها في ولايته الرئاسية الاولى. فيما يخص العلاقات مع روسيا، راهن اوباما منذ بدء ولايته المنتهية على تجاوز نظام الدفاع الصاروخي لحلف الناتو على اراضي بولندا وجمهورية التشيك. والآن لم يعد بوسعه المناورة به امام الطرف الروسي الذي ادرك مبكرا ان مسألة الدفاع الاميركي عن اوروبا هي مسألة قابلة للتفاوض. صعود روسيا الى عضوية منظمة التجارة الدولية – يعد مكسبا حقيقيا لادارة الرئيس اوباما وقد يثبت اهميته لاحقا في خدمة الاقتصاد الاميركي المترنح.

        تحتفظ روسيا ببعض عوامل التفوق السياسية على الولايات المتحدة. قبول الرئيس الروسي بوتين فرض عقوبات على ايران لم توقف العمل بالبرنامج النووي – مما يضاعف الضغوطات على الولايات المتحدة في سياستها الشرق اوسطية. كما ان “ترحيب” بوتين ببقاء قوات حلف الناتو في افغانستان ينعكس سلبا على بقاء القوات الاميركية بالقرب من الحدود الروسية واضطرارها التصدي لارهاب المجموعات الاسلامية. علاوة على ذلك فقد طردت روسيا بوتين وكالة التنمية الدولية الاميركية من جميع اراضيها، بل اوقف العمل بالقانون الاميركي لعام 1992 القاضي بالتخلص من اسلحة الدمار الشامل ومكوناتها في “الاتحاد السوفياتي السابق،” والمعروف بقانون السيناتور سام نان والسيناتور ريتشارد لوغار. تلوح فرصة في الافق للتفاوض حول معاهدة نووية بشروط جديدة، بيد ان حظوظ المصادقة عليها تبدو بعيدة المنال. كما ان روسيا اليوم لم تبدِ اي رغبة لتخفيض وتيرة مبيعاتها من الاسلحة لدول الشرق الاوسط.

        روسيا الآن في وضع باستطاعتها التحكم بطرح المبادرات التي ستترك بعض التغيرات الدراماتيكية على مسار السياسة الخارجية للادارة الاميركية.

        “الكأس المقدس” لسياسة الرؤساء الاميركيين الخارجية تكمن في صياغة حل سلمي دائم في الشرق الاوسط. بيد ان الخيارات المتاحة امام الرئيس اوباما قيدتها سياساته في ولايته الاولى لا سيما لعدد من الازمات التي اندلعت طيلة فترة ولايته. لن يكون بوسع اوباما اعادة الساعة الى الوراء والتغاضي عن النظر في اي أفق يمهد التوصل الى حل تفاضي وانكفائه السابق امام ضغوط واستبزاز نتنياهو. لكل فعل تداعياته. فالعدوان “الاسرائيلي” الاخير على قطاع غزة اثبت ان “اسرائيل” بوسعها احيانا المضي قدما ببعض الحملات دون الحصول على اذن اميركي مسبق ولكن لا تستطيع الاستمرار فيها بدون الغطاء الاميركي. فالتصعيد الجاري يهدد باتساع العدوان بالنظر الى تصريحات “حزب العدالة والتنمية” للاخوان المسلمين في مصر بانه لن يكون بوسعه الوقوف جانبا امام الغارات والهجمات “الاسرائيلية” على قطاع غزة، والتي دشنتها باغتيال نائب قائد القوات العسكرية لحركة حماس، احمد الجعبري. وطالب بيان “حزب العدالة والتنمية” اتخاذ “موقف عربي ودولي حازم لوقف المجازر.”

        فقد اوباما بريقه بعد اخفاق سياساته الشرق اوسطية وقدرته التأثير على الجانبين، الفلسطيني و”الاسرائيلي.” كما تدهورت اسهمه لممارسة قدرته في الحفاظ على وتيرة السلام بين “اسرائيل” ومصر. اذ اصبح من الوارد انهيار اتفاقية السلام بين الطرفين خلال فترة ولايته الثانية. ولا يبدو حتى كتابة هذه السطور ان الدور الوظيفي المعتاد لمصر، وفق الرغبة الاميركية، سيستمر بنفس الفعالية والوتيرة التي نفذها مبارك، اذ يواجه الرئيس المصري مرسي صعوبات واحراجات في اخراج موقف ظاهره مختلف عن سلفه وباطنه وادواته متطابقة.

        ايران اضحت تقض مضاجع السياسة الاميركية. ففي مؤتمره الصحافي الاول بعد فوزه بولاية ثانية، اجاب بوضوح حول توجهاته المقبلة نحو ايران، بالقول:

“ارغب بصدق التوصل الى حل ديبلوماسي للازمة. كنت واضح في موقفي من المسألة قبل الانتخابات وخلالها والان بعدها – ملخصه اننا لن نسمح لايران اقتناء سلاح نووي. لكنني ادرك ان هناك فرصة زمنية متاحة امامنا لحل المسألة بالاساليب الديبلوماسية. لقد وظفنا اقسى العقوبات عبر التاريخ، وبدأت تؤتي ثمارها وتداعياتها على الاقتصاد الايراني.

 ينبغي ان يتوفر لهم (الايرانيون) وسيلة تتيح لهم بموجبها الاستمتاع بميزات الطاقة النووية السلمية، وفي نفس الوقت الامتثال للالتزامات الدولية وتوفير ضمانات واضحة للمجتمع الدولي بانهم لا يعتزمون المضي لاقتناء سلاح نووي.

 وعليه، نعم، ساسعى الى دفع المسار (الديبلوماسي) في الاشهر المقبلة بغية التيقن من امكانية اجراء حوار ليس بين ايران وبين المجتمع الدولي فحسب بل والولايات المتحدة، للبحث في سبل حل تلك المسائل. ليس بوسعي تقديم وعد بأن ايران ستدخل الجولة، ويتعين عليها ذلك، لكنه الخيار المفضل ومرحب به بشكل اكبر… الاصول والمتطلبات الديبلوماسية لن تحد حركتنا. ان كانت ايران جادة في التوصل لحل المسألة، سيكون بوسعهم تحقيق ذلك.”

اما في الشأن السوري، فقد اوضح اوباما في مؤتمره المذكور مكنونات سياساته المقبلة بالقول:

“كنت من أوائل القادة، أعتقد، على مستوى العالم بالقول انه يتعين على الأسد ان يرحل، ردا على الوحشية التي لا تصدق التي أظهرتها حكومته في مواجهة ما كان في البداية مظاهرات سلمية.
بالتأكيد، الوضع في سورية تدهور منذ ذلك الحين. لقد شاركنا مع المجتمع الدولي على نطاق واسع وكذلك مع القوى الإقليمية لمساعدة المعارضة. إلتزمنا بتوفير مئات الملايين من الدولارات لمساعدة الناس داخل وخارج سورية على حد سواء. ونحن نتشاور باستمرار مع المعارضة بخصوص كيفية تنظيم انفسهم ولا يبقون منقسمين ومتفرقين في مواجهة هجمات نظام الأسد.

“نحن في تواصل مكثف مع دول كتركيا والأردن الجارة المباشرة لسورية ولها تأثير – وبطبيعة الحال إسرائيل التي لديها قلق بالغ، كما هو لدينا، بخصوص تحريك الأسلحة الكيميائية على سبيل المثال التي يمكن ان تحدث في مثل هذا المناخ المضطرب والتي يمكن ان يكون لها تاثير ليس فقط في داخل سورية ولكن على كل الإقليم.

“يحدوني الأمل لرؤية المعارضة السورية كي تكون مظلة تحقق انسجام فيما بينها اكثر مما سبق. نحن في طريقنا للتحدث معهم. سيقوم مبعوثي بالسفر لعقد اجتماعات مختلفة مع المجتمع الدولي ومع المعارضة.

“ننظر أليهم كممثلين شرعيين لطموحات الشعب السوري. نحن لسنا مستعدين للإعتراف بهم بعد كحكومة في المنفى ولكن نعتقد أنهم مجموعة ممثلة على نطاق واسع. احد المسائل التي سنستمر في التركيز عليها هي التأكد من ان المعارضة ملتزمة بسورية ديمقراطية، سورية تعددية، سورية المعتدلة.

“لقد رأينا عناصر متطرفة دست نفسها داخل المعارضة وسنكون على اهبة الإستعداد حولها — على وجه الخصوص عندما نبدأ الحديث عن تسليح المعارضة — والا نضع الأسلحة بطريقة غير مباشرة في أيدي أناس قد يسببون أذى للامريكيين، أو للإسرائيليين، او غير ذلك من الانخراط في أعمال تضر بامننا القومي.

“نحن مستمرين في العمل والتحقق من هذه المسألة والانخراط بقدر ما نكون في موقع يجعلنا نتأكد من اننا نشجع العناصر الأكثر اعتدالا والمتعقلين من المعارضة الملتزمين بالمشاركة وباحترام حقوق الإنسان والعمل بالتعاون معنا في المدى الطويل.”

تصريحات اوباما المشار اليها تدل على ان سورية ستبقى تشكل مأزقا لسياساته، لا سيما ان ما بدأ كظاهرة تمرد شعبي تلطى وراء التظاهر السلمي انقلب الى حرب أهلية وحشية دخل عليها عاملي القاعدة ومجموعات جهادية وسلفية اخرى تتنامى ادوارها في مفاقمة الازمة. وقد تصبح سورية بالنسبة لاوباما تحديا شبيها بما اضحت اليه العراق بالنسبة لسلفه بوش الابن وحرب البوسنة بالنسبة للرئيس الاسبق بيل كلينتون.

طموح اي رئيس في ولايته الثانية ان يترك طبعته الخاصة على مسار الاحداث الدولية، وسرعان ما يدرك ان نجاح طموحاته يعتريه صعوبات جمة. اذ ان توازنات سياسة الولاية الاولى قد قيدت حرية الحركة والمرونة، وتضاءلت الرغبة لدى الادارات المتعاقبة في احداث تحولات سياسية دراماتيكية كون التغيرات توحي ببطلان السياسات السابقة. من المتوقع ان يلجأ اوباما لاتخاذ بعض المبادرات، لكن حجم التغيرات لن يتجاوز المستويات المتواضعة.

::::::::

يمكن مطالعة النص الكامل للتقرير باللغتين العربية والإنكليزية في الموقع الألكتروني للمركز:

www.thinktanksmonitor.com

المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي

مدير المركز: د. منذر سليمان

العنوان الالكتروني: thinktankmonitor@gmail.com