حكمت سليمان والخالدين: الحسن ومشعل
عادل سمارة
بين الموقف المبدئي وتغيير المواقف المبدئية وخاصة الوطني منها، طبقاً للمصالح مسافة واسعة لا تخلط الحقائق مهما كان فيها من رمادية. بارك كثيرون رفض اليسار وحماس المشاركة في الدورة الأولى لانتخابات مجلس الحكم الذاتي لأنه من توليدات اتفاق أوسلو. لكن حماس عادت وشاركت في الدورة الثانية. وشأنها شأن قوى اليسار لم تقدم أياً منها تفسيرا للناس، لماذا تغيرت المواقف؟ هل كان السبب اكتشاف جوانب في اتفاق أوسلو لم تُرى قبلاً؟ أم لأن اوسلو تجذر بما لا يسمح لهم بمواجهته وصده وبالتالي لماذا لا يتم التنازع على الكعكة رغم مرارتها.
بوسع الجميع الزعم أنه ضد اوسلو رغم التماهي معه، ولكن هذا لا ينطلي على الناس! حين دعاني أحد قادة حماس لدخول الانتخابات مع ضمان قائمة بسبعة مرشحين منهم 2 نصارى، ورفضت لأنني متمسك بموقف مبدئي من أوسلو، وبدون تفاصيل قال إن دخولهم الانتخابات ليس بموجب أوسلو بل بموجب اتفاق القاهرة الذي اشرفت عليه المخابرات المصرية . وبالطبع، راينا ما آلت إليه هذه الانتخابات من حرب غزة الأولى على السلطة بين فتح وحماس. هل هو شيطان المخابرات؟ واليوم تشرف المخابرات المصرية على وقف النار مع الكيان وبمباركة مرسي وهيلاري كلينتون، فهل هناك فخاً أخطر. أخشى أن يصح توقعي بتحويل الصمود إلى حرب تحريك ثانية!
ودون تفاصيل أخرى، فقد كانت حماس أدق تكتيكاً من اليسار. فلو دخل اليسار الانتخابات الأولى (طالما أنه سيدخل ذات يوم) لكانت مقاعده أكثر، في حين أن دخول حماس في الدورة الأولى لم يكن ليحقق لها كما حققت لها الدورة الثانية. ولعل ما خدم حماس في الدورة الثانية ذلك الفساد الكبير والمعترَف به فلسطينياً ومن دول التمويل الأجنبي والعربي الذي خلق بنية ريعية صارت تبعيتها بنيوية، واستسلم لها الجمهور كما تستسلم المرأة البسيطة لسيطرة رجلها. كما خدم حماس دور مقاتليها المقاوم آنذاك، وهو الدور الذي يقع اليوم بأيدي الطبعة الثانية اي الإسلامية لكامب ديفيد!
قبل إجراء الانتخابات روجت حماس بأنها لن تشكل الوزارة حتى لو حازت على أكثرية أعضاء المجلس. لكنها ما أن فازت حتى بدلت موقفها. وهذا يذكرنا بموقف الإخوان في مصر فيما يخص الرئاسة. وكما يبدو من مواقف عدة، فإن مصر دوماً هي المشرف (السوبرفايزر) للفلسطيني. لذا ذقنا الويل حين اشرف مبارك على فلسطينيي أوسلو الأولى، وها هو الويل يبدأ مع إشراف مرسي على أوسلو الثانية.
دخلت حماس مجلس الحكم الذاتي (وهذا اسمه الحقيقي اي ليس التشريعي) ، وبقيت ترفع شعار المقاومة وبأن فلسطين وقف إسلامي. وكان حصار الممولين لحكومة اسماعيل هنية عبر انقلاب مالي معولم. ولكن الله أعلم بعد الانقسام من اين تمولت. فليس سهلاً على منطقة مكتظة بالسكان، وغير منتجة ما يكفي أهلها أن تغطي وارداتها الكبيرة من فائضها الضئيل، فلا بد أن تدفع. فلم يكن معفى من الثمن عبر الأنفاق سوى السلاح الإيراني والسوري. فأول تمويل معلن المصدر كان من إمارة قطر في زيارت حمد التمهيدية لاحتواء حماس والجهاد مالياً ومن ثم سياسياً. ويبقى لحمد أن يقرر لغزة أن تستقبل السلاح بعد أن دفع مهرها بالدولار.
لم يكن أحداً ليصدِّق من ينقد حماس آنذاك بأنها تلعب سياسة ولا تنطلق من موقف مبدئي طالما دخلت الانتخابات وأمسكت بالوزارة. بمعنى أن رفع شعار المقاومة واستغلال توقف فتح عن الكفاح المسلح، رسميا على الأقل، كان من السهولة بمكان.
ثم كان الصراع في غزة، صراع يزعم فيه كل طرف نظافة يده وسلاحه وانتهى بتجسيد انفصال السلطة السياسية التي هي أصلا افتراضية طالما الحيِّز الجغرافي مفتوك به. وكان من حينها بادٍ لكل متنبه أن لا عودة عن الانفصال إلا بتوافق البرامج وانتقال أحد الطرفين إلى مربع الآخر. ويبدو لسوء الطالع أن سلطة رام الله قد “صمدت” على موقفها. ربما لأنها تستند على الولايات المتحدة! ونخشى أن يكون مشعل قد فهم هذا وقبل به.
وتاكيدي على البرامج آتٍ من إغفال مقصود للطبيعة الطبقية للطرفين، إغفال قام به الكثيرون، بمعنى، وهذا ما كتبته كثيراً، إن البنية القيادية العليا للطرفين هي واحدة اي من البرجوازية سواء بشريحتها البيروقراطية في قيادة فتح وهي الموروثة من قيادة منظمة التحرير ترتبط بسلطتها أجنحة البرجوازية التجارية والكمبرادورية وبالطبع الطبقة الوسطى، أو قيادة حماس والتي هي من البرجوازية التجارية والكمبرادورية والتي ترتبط بها شرائح من الوسطى. فالمنظمتان تقتسمان شرائح الطبقة البرجوازية.
وبالمقابل، فهما تقتسمان الطبقات الشعبية بمعنى أن قواعدهما من هذه الطبقات نفسها. وبمقدار ما تمتعت سلطة فتح بإمكامات مالية عبر السلطة تمتعت حماس بتمويل ما وخاصة بعد الانفصال أو الانقسام. ولا استطيع الجزم من اين أتت الأموال. هل هي من إيران، أم من سوريا أم من حزب الله…الخ وهذا متروك لقيادتي حماس والجهاد لتقولا ذات وقت، وقد تشكر أو لا تشكر كما حصلل بالنسبة للصواريخ. والشكر على الصواريخ مثير لابتسامة لا ترقى إلى الضحك. فقد حاول مشعل تمرير الأمر في مؤتمره الصحفي يوم وقف النار بشكر بارد لإيران، وبدل شكر سوريا على السلاح تهجم على سوريا غير الديمقراطية ولم ينتبه أن حكومة حماس لم تتآلف مع أحد حين حكمت بأمر؟؟؟؟! أما شلح بالشكر البارد من مشعل وحول شكره الحميم للمخابرات المصرية. سامحك الله يا شيخ!!! وحده النقد المتواتر من أطراف عدة وخاصة من حزب الله هو الذي دفع قيادتي حماس والجهاد لمديح موسع، ولكنها كانت حركة متأخرة عن لحظتها الدافئة، مما وضعها في خانة الزيف. ومع ذلك ولإرضاء أردوغان خليفة الإسلام، حيث يبدو أن 400 سنة من الامتطاء لم تحس بها بعض الجلود، جُحد دور سوريا. فهل السبب كذلك أن الرجلين صارا في خانة التخطيط لنيل حصص في سلطة الحكم الذاتي وهذا يدفع لا شك لكره سوريا التي تعتبر فلسطين إبنتها الجنوبية. وما أكثر من يكرهون سوريا لهذا السبب. ولعل المعضلة في صعوبة نكران الأم بعكس اختلاط الآباء ومنهحم ابن أبيه!
ثم جاءت الحرب الأخيرة والتي تكمن قيمتها في صمود المقاتلين. وقد أرى فيها جانباً إضافة لمختلف جوانبها الهامة، لكن لم يلتفت إليه أحد ربما. فمن الدارج استشراقياً وأنثروبولوجياً، وبشكل مقصود، أن العرب لا يقاتلون، وبانهم دوما يبحثون عمن يقاتل نيابة عنهم! وهو اعتقاد خطر ومريض لم تمسحه لا حرب اكتوبر ببطولات الجيشين المصري والسوري ولا حرب 2000 وهروب الجيش الصهيوني من جنوب لبنان ولا حرب 2006، ولا حرب 2008-09 في غزة.
ويأتي تركيزي على هذه المسألة لأفصل وبقصد بين الموقف الطبقي للطبقات الشعبية التي منها المقاتلين وبين قيادات، ولا اقول كل القيادات السياسية والثقافية التي تقوم بتسليع البطولات والانتصارات. وهنا يجب التنبه إلى الفارق بيت تسليع الانتصار وبين استثماره سياسياً بما يتوافق مع المبادىء. مع المواقف المبدئية.
لم تمر سوى ايام على وقف النار، وبمعزل عن نشر حكومة حماس رجال الشرطة على الحدود مع الكيان كما تقول وسائل الإعلام، ونشر أحد رجال الدين السياسي فتوى من طراز فتاوى بن باز والوهابية باعتبار خرق الهدنة إحدى الكبائر! بمعزل عن كل هذا وبمعزل عن استمرار الكيان في إطلاق النار القاتلة، بمعزل عن كل هذا وما سيليه، طلع السيد مشعل ليقول لمراسلة سي. أن. أن، بأنه يقبل بدولة في حدود 1967 ويترك الاعتراف بالكيان الصهيوني للشعب الفلسطيني بعد الدولة. اي لفلسطينيي الضفة والقطاع. لأن الدولة التي قد تُمنح هي في الضفة والقطاع أو بعضهما ولمن هم فيها. وبهذا، تسقط فلسطينية كل من في الشتات العربي والدولي ومن تحت احتلال 1948.
ولست أدري من قال للسيد مشعل بأنه يمثل الفلسطينيين؟ ولست ادري ما الفارق بين موقفه وموقف ابي مازن فيما يخص رفض العودة إلى صفد! وهل يمثلان معاً الفلسطينيين؟ أم أن الشرق ما زال يعتبر الرعايا مطايا!
سوف نقرأ كثيراً من التفسيرات التجميلية لأقوال السيد مشعل، وقد يطلع هو بتخريجة/ات تتبلور منه أو له من هذا أو ذاك. ولكن الحديث واضح وموثق. وفي يوم قريب سنرى الأمور بشكل اوضح. ولن يغطيها سوى الموقف “المبدئي” للكيان وللولايات المتحدة! وقبل أن نشرحه دعنا نستدعي التاريخ القريب.
في عام 1937، القى حكمت سليمان رئيس الوزراء العراقي خطاباً في المتظاهرين في بغداد المحتجين على قرار لجنة “بيل” البريطانية التي أوصت بتقسيم فلسطين. وفي الخطاب نقد اللجنة المذكورة. وإثر ذلك زار السر إي. كلارك كير، السفير البريطاني في بغداد دار رئاسة الحكومة العراقية والتقى رئيس الوزراء في مكتبه في 17-7-1937 استنادا الى التعليمات التي تلقاها من وزارته. ويذكر كلارك ان حكمت سليمان انزعج تماماً عندما علم بالغرض من الزيارة وأظهر رغبة في الاستقالة والتخلي عن الحكم. وقد اعتذر حكمت سليمان للسفير بأنه لم يكن ينوي إثارة عرب فلسطين، ولكنه كان يريد السيطرة على الحركة ولو لم يقم بذلك العمل لخرج الوضع من يده تماماً، وأنه ليس باستطاعة اية وزارة عراقية البقاء في الحكم مالم تقم بمثل هذا الاجراء.[1]
لم يعرف هذا المسكين أن وقتاً سياتي ليقوم فيه فلسطينيون وعرب ساسة ومثقفين، بأكثر مما قام به هو، وبانه مقارنة معهم كان سيبدو بطلا ثورياً.
بعد نصف قرن من حادثة رئيس وزراء العراق، جاء موقف قيادي فلسطيني في نفس النسق والأسلوب. في مقابلة اجراها خالد الحسن، الذي كان المثقف والمنظر اليميني الاول في صفوف حركة فتح، مع وولتر روبي عن صحيفة جيروزالم بوست الاسرائيلية أيام انعقاد مؤتمر المجلس الوطني الفلسطيني الذي اعلن فيه عن اقامة الدولة الفلسطينية عام 1988 قال الحسن ردا على سؤال:
“لماذا تصدر عن المجلس الوطني الفلسطيني تصريحات غامضة عن الموقف من قراري الامم المتحدة 242 و 338؟”
قال الحسن: لا بد لنا من اختيار الكلام بعناية…ولا ننسى اننا نبيع هذه الامور لشعبنا.
بين سليمان والحسن نصف قرن وقليل، ولكن الموقف السياسي والطبقي واحد. قد لا يكون اللافت للنظر ما قام به السفير، ولا اعتذار رئيس الوزراء، ولكن مجرد زيارة السفير لرئيس الوزراء وقول رئيس الوزراء انه يرغب في الاستقالة تعطيان صورة واضحة عن الحاكم التابع. ولكن، هل كان خالد الحسن كمثقف وسياسي بل وكافة القادة الفلسطينيين الذين طالما تحدثوا بلغتين ووقفوا موقفين او مواقف، هل كانوا تابعين لسلطة الكيان الصهيوني او للادارة الاميركية دون ان ندري!.
وإذا كان الفاصل الزمني بين سليمان والحسن نصف قرن، فإن مشعل تمكن من سحق الحيز الزمني في فترة أقل، هي الفترة بين إعلان الاستقلال الافتراضي في تونس وبين الذهاب المشترك ، كما يبدو، إلى الأمم المتحدة من أجل دولة افتراضية. لا يتفارق حكمت سليمان وخالد الحسن عن خالد مشعل سوى في امرين:
الأول: أن مشعل اتى في فترة مريحة بحيث يتحدث دون أن يخشى غضب الشارع. وبعد أن حصد نتائج بطولات المقاومة. فهل يدري المقاومون بهذا؟
والثاني: بأن الصهيونية والإمبريالية في فترة سليمان كانتا ستكتفيان مؤقتاً بإبقاء بعض فلسطين لأهلها. أما اليوم، فلن يُعطى الفلسطينيون شيئاً. وعليه، فإن الكرم المشعلي هذا هو كرم افتراضي وتلفزيوني. صحيح أنه يضع صاحبه تحت الضوء فيبدو مضيئاً، ولكن كما قال المتنبي: “ليس التكحُّل في العينين كالكحلِ”.
والسباق الذي يلهث فيه ابو مازن وابو الوليد، هو نحو السراب. فالولايات المتحدة طالما بيدها الأمر لن تعطي الفلسطينيين دولة في بقايا الضفة والقطاع لأنها تعتبر هذه الأجزاء من فلسطين هي إسرائيلية. وسباق المسافات اللاناهئية منهما على إثبات التنازل عن فلسطين 1948 ليس سوى إثبات التنازل عن كل فلسطين. هذا السباق يشبه سباق البرزاني والمالكي في العراق على المال والسلطة. هنا مال قطر ومال المانحين، ولكن لاسيادة ولا أرض.
ما أخطر تقارب التنافس بين الطرفين. وقد يقول سائل طيب أو مدافع عن هذا أو ذاك بالموت: وماذا عندك؟
ليس عندي سوى أن يقول الناس:
· محلياً، دعهم يتسابقون ويأكلون لحم الوطن، لقد تعلمنا أن الحياة فقط مقاومة.
· وعربياً، تتعلق الأمور على صمود سوريا التي يكرهها الطرفان . فالمعركة هي على سوريا وهي بين معسكر المقاومة والممانعة ومعسكر الثورة المضادة. وهي معركة على فلسطين كجزء من سوريا. فليفكر أولي الألباب في خطورة اولي المصالح، أو اصحاب السجادتين:
o سجادة الاستقبال الحمراء
o وسجادة الصلاة الخضراء
لكن الناس تدرك أنهما من الكوكيت الأميركي وليستا عجميتين.