سوريا … بين لعنة النفط وشهوة النفطيين
)الحلقة الثالثة والأخيرة(
عادل سمارة
تجليات التراخي خارجيا: بين استثمار أو خيانة قومية
مع أن المصارف هي المستفيد الأكبر من الدولة في الولايات المتحدة سواء في الازدهار أو الأزمة، إلا أنها أول من يدير ظهره للاقتصاد القومي حين الأزمة لسبب شديد الوضوح بأن الطبقة الراسماليةـ كاي طبقة تدافع في النهاية عن مصالحها. فهناك مؤشرات على ان المصارف وكثير من الأفراد قد تحولوا عن الدولار لشراء سبائك الذهب والفضة، وعملات بلدان أخرى غير غارقة في الديون .
يقول جون وليامز : ” عن shadowstats.com فإن دولار الولايات المتحدة من حيث نسبته الى السندات المملوكة من موجودات الاحتياط قد تراجعت من 36.6 عام 2006 إلى 28.7% عام 2012. وزاد الذهب من 10.5 الى 12.8% والعملات الأجنبية الأخرى ما عدا اليورو من 38.4 الى 44.4% “. هذا يبين أن ضعف الدولة يقود إلى الكفر بعملتها.
لكن الأهم هو التنبه إلى مواقف الدول الأخرى مما يجري في الولايات المتحدة، وكيف تُدير الدول التي تحكمها نظم قومية ذات توجه إنتاجي (طبعا طبقات راسمالية إنتاجية غير متخارجة، أو أحزاب شيوعية ولو ذات توجهات انفتاخية وحتى تحريفية) مثل روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب افريقيا. فقد قررت هذه الدول المتاجرة فيما بينها بعملاتها الخاصة دون اعتماد الدولار كعملة احتياط. وخطى كهذه هي تحدٍ قومي/طبقي في آن.
أما على صعيد دول القطب الراسمالي/الإمبريالي فالأمر يوحي أو يشي وإن قليلاً، بتضعضع تآخي اللصوص (كما وصفهم ماركس). فبدورها تقوم دول الاتحاد الأوروبي بالمتاجرة فيما بينها باليورو وهذا يقوض بشكل كبير موقع الدولار خاصة وأن هذه الكتلة هي الأكبر اقتصاديا في العالم.
” ورغم انه لا يظهر في الإعلام الأميركي فإن البلدان الآسيوية تبحث استخدام عملة مشتركة للتجارة فيما بينها، وهذه جميعا تأكيدات على أن دولة القطب الواحد يتقوَّض معمارها بوضوح وفي حالة من التحدي لم تكن متوقعة أو مألوفة قبلاً. إن العالم، كما يقول وليامز، يغادر اعتماد الدولار كعملة لتسوية الحسابات الدولية كما ان الطلب على الدولار ينهار كلما زاد البنك المركزي الأميركي من عرض الدولار. كما أن القلق على الدولار يمتد إلى الأدوات المالية التي يسيطر عليها الدولار مثل الأسهم والسندات . فالصين تحوز على 2 تريليون من الأدوات المالية[1] في الولايات المتحدة. وتحوز اليابان على تريليون من اموال خزينة الولايات المتحدة. كما تملك السعودية وإمارات النفط كذلك كميات كبيرة من الأدوات المالية للولايات المتحدة. وعليه، فإن المزيد من سندات وأسهم الولايات المتحدة بقيمتها المتدنية عن سعر السوق يقود إلى ارتباك الأسواق المالية ويمسح ما تبقى من ثروة الولايات المتحدة”. ولا شك أن هذا سيقود إلى إشكاليات مالية لقِيًم ديون هذه البلدان للولايات المتحدة، ولكن مع فارق أن الصين واليابان تحصلتا على سندات قروض إلزامية للولايات المتحدة، ناهيك عن أنهما تُصدران إلى سوقها الاستهلاكي كثيرا من المنتجات، وهو الأمر الذي لا يزال يُربح اقتصاديهما. وبالمقابل، فإن السعودية وبقية دول الخليج مضطرة لتصدير النفط إلى الولايات المتحدة وترصد هناك فوائضها دون اشتراط الحصول على سندات خزينة وتُعطي أولوية استيراد من الولايات المتحدة نفسها كذلك.
“ولتوضيح المازق النقدي للولايات المتحدة وعجزها عن معالجته يقول روبرتس: “وقد كتبت أكثر من مرة أن بوسع المصرف المركزي خلق نقود جديدة كي تشتري الأدوات المالية المتدهورة ومن ثم يحافظ على اسعارها. ولكنه لا يستطيع طباعة ذهب أو عملات أجنبية كي يشتري بها الدولارات التي يدفعها الأجانب كثمن لهذه السندات والأسهم. وحينما تغرق الدولارات بدورها فإن القيمة التبادلية للدولار تنهار. ولا بد حينها للتضخم أن ينفجر في الولايات المتحدة. ومع بداية التضخم المفرط يتم انهيار القيمة التبادلية للعملة. لقد انخفض على اية حال سعر صرف الدولار مقابل الذهب والفضة. ففي السنوات العشر الماضية زاد سعر الذهب بدولار الولايات المتحدة من 250 دولار للأونصة إلى 1750 دولاراً. أي بزيادة 1500 دولار. وارتفع سعر الفضة من 4 دولار للأونصة إلى 34 دولاراً. وارتفاع الأسعار هذا ليس بسبب ندرة مفاجئة للذهب والفضة ولكن بسبب التخلص من الدولار لصالح شكلي العملة التاريخيين بما انهما لا يمكن خلقهما بالطباعة في المطابع”.
هذا يعني الكثير، بل الكثير جداً. وما يعنيه، انه يوفر تفسيرا ما، اين ذهبت المصارف بالعملة الورقية التي لديها بمعنى أنها استبدلت بالذهب والفضة. اي ان هؤلاء لم يخسروا من الأزمة شيئاً، بل ضمنوا ما يؤهلهم لمعاودة الاستغلال لاحقاً طالما أمد الله في عمر راس المال.
الثروة القومية: بين الاستثمار والتفريط
بينما قامت الصين الشعبية بإقراض الولايات المتحدة 2 تريليون دولار وحصلت مقابل ذلك على سندات من الخزينة الأميركية إلى جانب سهولة تدفق صادراتها إلى اسواق الولايات المتحدة، وبالطبع هناك شركات أمريكية في الصين هي أُن جزءاً من تلك السلع، فإن الصين كما أشرنا أعلاه تعمل على تقوية دائرة التبادل مع مجموعة البركس بعيدا عن اعتماد الدولار، اي انها توجه للولايات المتحدة عدة ضربات منافسة اقتصادية وإن كانت بلا صراخ، وفي العادة لا يصرخ سوى الأقل قوة أو الذين يقولون أكثر مما يفعلون.
بعكس الصين، هناك موقف السعودية التي تتمتع بفائض مالي ضخم، على الأقل مقارنة بحجمها العددي من جهة وبقدرتها المحدودة على إدارة هذه الأموال من جهة ثانية.وفي هذا الصدد يقول روبرتس: ” فقد ارتفع سعر النفط من 20 دولار للبرميل قبل عشر سنوات، إلى 120 دولار مع بداية هذه السنة، وهو الان 90 دولار. وقد حصلت هذه الزيادة على الرغم من ضعف الاقتصاد العالمي وبدون أي تقليص في عرضه سوى تلك التي تاثرت او نجمت عن احتلال الولايات المتحدة للعراق، والعدوان الغربي على ليبيا، والعقوبات المؤذية للذات على إيران، وهي مؤثرات غالباً ما تم إطفاء اضرارها على يد السعودية، التي ما تزال الدمية المخلصة للولايات المتحدة، وهي البلد الذي يضخ ماء حياته العزيز كي يخلص الغرب من أخطائه. أما المحافظين الجدد الحمقى فيرغبون في إسقاط الحكم السعودي، ولكن متى كان للولايات المتحدة خادماً أكثر إخلاصاً من البيت السعودي الحاكم”؟
لا بد أن نستدرك هنا بأن التفاني السعودي والقطري بل ومختلف أنظمة الخليج ومعظم الأنظمة العربية، لصالح الارتباط السياسي بالولايات المتحدة وتولي تنفيذ أهداف إدارة الثورة المضادة وخاصة جزئها الحربي والتخريبي، إن كل هذا ليس سذاجة وتفانياً بلا مصالح خاصة وحيوية جداً لهذه الأنظمة. هذه الأنظمة جزء مرتبط مصيرياً بالنظام العالمي الحالي مما يعني بالنسبة لها أن تراخيه ولو النسبي يعني فقدانها لوجودها، فما بالك بانهياره. وعليه، إذا كانت الولايات المتحدة تعتبر الوطن العربي مدىً حيوياً لها بناء على استراتيجيتها الجيو-سياسية بما تتضمنه طبعا من اساس اقتصادي مصلحي، فإن أنظمة الخليج، ومعظم الأنظمة العربية تعتبر تآكل وضعها كامن في بدء تراخي قبضة الإمبريالية وهذه استراتيجيتة تعني وجودها النهائي، اي هي ابعد عمقا من المصلحة الجيو-سياسية للولايات المتحدة في الوطن العربي.
هل الولايات المتحدة في جاهزية للحرب؟
لم يكن ما تقدم تحليل اقتصادي مجرد للاقتصاد في مركز الإمبريالية بقدر ما هو قراءة لعوامل وإمكانات العدوان المباشر على الوطن العربي وخاصة على سوريا علماً بأن الحرب الجارية ضد سوريا هي من المركز الإمبريالي (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليايان) ومن معظم الأنظمة العربية وخاصة انظمة الريع النفطي والكيان الصهيوني، والعديد من الدول الإسلامية وخاصة تركيا.
ولكن، بين الجاهزية للحرب المباشرة وبين المصلحة والرغبة فيها توجد مسافات شاسعة لا بد من قراءتها في وحدتها الجدلية كي تتكون رؤيا مناسبة خاصة من جانب العرب بما هم الطرف المستهدف من قبل الولايات المتحدة استهدافا مصلحيا يجترىء ويبرر كافة اشكال العدوان.
لا شك أن موقف الاتحاد الروسي والصين الشعبية قد حال دون تشريع من مجلس الأمن للعدوان على سوريا، وهو موقف شكل تغيراً عميقا وصُلباً في العلاقات الدولية لا يمكن المرور عليه بشكل عابر. موقف وضع حداً للعربدة الرأسمالية الغربية على نطاق الكوكب مما يسمح لعديد من الدول التي تقودها قيادات وطنية وتقدمية أن تستثمر هذا التغير لكي تقوي استقلالها وتجذره وتخرج من تحت عباءة الإمبريالية.
وهذا يفتح على خمسة مرتكزات اساسية متعلقة بالأزمة السورية وموقعها في الصعيدين العالمي والإقليمي:
- بروز قطبيات جديدة على الصعيد العالمي لا تقوم على أرضية استعمارية
- سقوط القطبيات القديمة وخاصة الولايات المتحدة في مأزق اقتصادي لا يسمح لها بعدوان غير مهلك
- إستعادة قوى إقليمية تقدمية لدورها في المنطقة
- تخصيص دور وكالاتي لقوى إقليمية عدوانية وتابعة في المنطقة ايضاً لتقوم بحرب إنابة عن الإمبريالية
- توسع الحرب بالإنابة لتشمل كيانات صغيرة يرتبط مجرد وجودها بدورها (قطر والإمارات العربية المتحدة)
من ناحية عملية هناك حرب على وتدخل خارجي ضد سوريا لا ينقصه سوى سلاح الجو، حرب استنزاف بشري وعسكري ومادي وعمراني وإعلامي بالطبع. وهي حرب تؤكد إصرار المركز الإمبريالي على كسبها باحد سبيلين: إما احتلال سوريا بإسقاط النظام إلى جانب أخطر تدمير ممكن، أو تدمير البلد بحيث لا يعود لسوريا دور لعقدين قادمين من الزمن واكثر.
أما والأمر على هذا النحو، فإن الحرب الإمبريالية المباشرة كما حصل ضد العراق وليبيا وإفغانستان تعيقها مسالتان ربما بنفس النسبة:
- الفيتو الروسي الصيني المزدوج
- والأزمة الاقتصادية المالية في الولايات المتحدة خاصة والاتحاد الأوروبي واليابان.
هذا دون التقليل من الدور الخطر والذي لا سابق له للتمويل النفطي العربي سواء لخزينة الولايات المتحدة أو للمسلحين الأمر الذي يشكل المتغير الأساس في هذا الصراع. وهو متغير يضع بشكل حاد سؤالين تطرح المرحلة وجوب حلهما على الصعيدين الإقليمي والدولي:
- الدور السياسي للأنظمة الحاكمة لمجلس التعاون الخليجي
- والطريقة الي يجب أن تنظر لها الأمة العربية تجاه سلاح النفط الذي وُجه، أكثر من أي وقت مضى ضد الوطن العربي نفسه.
ويكفي أن نختم هنا بما قالته لاغارد عن استحكام الأزمة الاقتصادية المالية في الولايات المتحدة وعن خطورة عدم توصل الحزبين الجمهوري والديمقراطي لطريقة يديران بها هذه الأزمة: ” إنها ليست مسألة سياسية ولا إيديولوجية، إنها اوسع من ذلك، إنها تطال دور الولايات المتحدة في العالم من زاوية جيوبوليتيكية واقتصادية”. أي تطال دور المركز الإمبريالي برمته. وهذا يضع تحدياً هو الأهم فيما يخص الوطن العربي، بأن قوى الثورة المضادة في الوطن العربي سواء الطبقات الحاكمة أو قوى الدين السياسي الباحثة عن سلطة بمساومة على الوطن، تحدٍ جوهره بأن هذه الثروة الريعية يجب تخليصها من ايدي من اغتصبوها إذا كان لا بد من ضمان وجود هذه الأمة في التاريخ.