عادل سمارة
ليس المثير أن يُرفع إلى سدة الحكم في غفلة من الوعي القومي والطبقي رجل دون مواهب استثنائية كالرئيس المصري محمد مرسي، ولكن اللافت، وهذا قانون الديالكتيك، أن يُقدِّم هو نفسه دون ان يدري خدمة لبلده لم يكن لا مرشحاً لتقديمها ولا مؤهلاً لها ولا قاصدا إيَّاها.
بداية، فإن عدم جذرية ما حصل في مصر يوم 25 يناير وما بعده قد ساعد هذا الرجل أو خدمه ليصل إلى سدة الحكم حين كان على المصريين في حزيران 2012 ان يختاروا بينه وبين ممثل النظام السابق. ولعل السماح لممثل النظام السابق ب “شرعية” الترشُّح هو من أهم مؤكِّدات أنها كانت حراكاً أو إرهاصاً أكثر مما هي ثورة.
وسواء كانت قرارات الرئيس مرسي من بنات أفكاره أم من فتاوى المرشد العام وقيادة جماعة الإخوان المسلمين بغض النظر عن ذكر اسماء مثل خيرت الشاطر، فإن هذه القرارات قد ساهمت في تجذير الحراك ودفعه باتجاه الثورة بمفهومها العام، ولا إشكالية إن كان ذلك ببطء وتدرُّجٍ.
وبغض النظر عن تمسك الرئيس بقناعة الإخوان المسلمين تجاه الكيان الصهيوني وتورطه في تلك الرسالة إلى رئيس الكيان التي، كما يبدو، كانت موجهة إلى الشعب المصري كإعلان بأن كامب ديفيد هو اتفاق راسخ في السياسة الإقليمية والدولية المصرية/ وبالتحديد إخراج مصر من وضعها ودورها القوميين، وبغض النظر عن كون مصر مهيأة اليوم للتخلص من هذا الاتفاق المذل وطنيا وقوميا وعسكرياً، فإن ما كان بوسع الرئيس القيام به هو على الأقل تجفيف العواطف بينه وبين رئيس الكيان من جهة وعلى الأقل بينه وبين المراتب الثانية والثالثة في الإدارة الأميركية، أي وزيرة الخارجية والسفيرة…الخ من جهة ثانية. ولكن كما يبدو فإن ما كان يحسم الأمور هي التواصلات غير المعلنة وشبه المعلنة بين قيادات الإخوان والإدارة الأميركية. وهذا ما وضع الرئيس المنتخب في مأزق حرج بمعنى أنه أخذ يتصرف كممثل لحزبه وليس لشعبه. ولعل أهم الشواهد على هذا أن جماعة الإخوان كانت تؤكد أنها بعد استلام الحكم سوف تستفتي الشعب على كامب ديفيد ولم يحصل، وإذا بها تستفتيه في فترة اسبوعين على “دستور” غير توافقي جرى وضعه على شعلة نار شديدة مما أنضجه سلقاً!
من بعيد، ونتمتى دقة استنتاجنا، فإن قيادة جماعة الإخوان، حتى لو صح زعمها بأن الرئيس أصدر الإعلان الدستوري الأول تحديداً لدرء انقلاب قضائي عليه، هذه القيادة تسرعت كثيراً ولم تستفد من أن أي انقلاب أو تآمر على الرئيس وهو المنتحب ديمقراطياً كان سيخدم هذه الجماعة بل ويخدم جميع قوى الدين الإسلامي السياسي كثيرا في المستقبل حتى القريب. بمعنى أن الشعب لم يعد يقبل بالمؤامرات والانقلابات ولا حتى يخشى انقلابات العسكر وبأنه، اي الشعب كان سيعاقب الانقلابيين نيابة عن قوى الدين السياسي.
ولا يمكن للمرء أن يجزم بأن الرئيس وحزبه وحلفاءه لم يدركوا أن 40 بالمئة من الشعب هم من الأميين، وبأن هذا قد تكون له منه حصة الأسد في اي استفتاء ارتكازاً على قدرة المشايخ على غَبن هؤلاء المواطنين باسم الدين، اللهم إلا إذا تأكد الرئيس ومن معه، بأن أكثرية الشعب قد وصلت إلى لحظة الشك فيهم؟
وتجدر الإشارة بأن تسابق قيادات الطرفين في مصر اي جبهة قوى الدين السياسي وجبهة الإنقاذ، تسابقهما على مديح الأميين بالقول: “نعم أميين، ولكن ليسوا جهلة”، هذا التسابق الانتخابي لا ينفي خطورة الأمية. وقد يكون الرئيس وتحالفه قد ارتكزوا على هذه النسبة العالية من الأمية للتسريع في إجراء الاستفتاء قطعاً لطريق جبهة الإنقاذ في التبلور من جهة والوصول إلى هذه الكتلة الضخمة من الجماهير من جهة ثانية، بمعنى أن كل يوم به قيمته لا سيما على ضوء الوضع الطبقي في مصر وخاصة في حالة الأميين. فالبطالة في أقل التقديرات تصل 25 بالمئة، وفوارق الدخل بين الأدنى والأقصى هائلة، والتململ العمالي يُواجه بالقمع الأمني والطفيلية الاقتصادية في أمان، بل إن القشرة العليا من قيادة قوى الدين السياسي هي شريك أوجزء من البرجوازية الطفيلية والكمبرادور، بمعنى أن الصراع السياسي بين جزء من بقايا النظام وقوى الدين السياسي تقابله مصالح مشتركة بين الشرائح البرجوازية من قوى الدين السياسي وقوى النظام السابق نفسيهما. بل إن كثيراً من قيادة جبهة الإنقاذ هي في محيط هذه الطبقة نفسها.
ولكن الرئيس المنتخب ديمقراطياً والذي قبل به الجميع بغض النظر عن كفائته وعن طبيعة من ورائه، قد خدم تماماً قانون الديالكتيك المشهور في التاريخ بأن “كل شيء يخلق نقيضه”.، وعليه نكمل ذلك بالمفهوم الديني، “فليتلقى وعده” أو الاجتماعي، “هذا ما جنت يداه”.
فالإعلان الدستوري هو انقلاب على الناخبين وانقلاب على صانعي الحراك، وخدمة لتحويله إلى الثورة الأولى لتكتمل ذهاباً إلى الثورة الثاتية والثالثة. هل كانت جماعة الإخوان ومختلف قوى الدين الإسلامي السياسي في عجلة من أمرها هكذا؟ هل وجدت أن اي زحزحة لها عن السلطة ستكون نهاية التاريخ؟ هل ناقشت واستشارت حلفائها في الولايات المتحدة وقطر والبيت الأبيض، ناهيك عن قيادة الجيش التي عينتها في الانقلاب الدستوري، هذا ما ستبينه قادم الأيام.
بيت القصيد أن الرئيس ومن معه، أو من هو معهم قد دفعوا باتجاه تبلور تكتل شعبي واسع من قوى متعددة، وهي نفسها تجاه بعض القضايا، متناقضة لتصطف ضد قوى الدين الإسلامي السياسي، وهذا اصطفاف مفهوم في حالة الثورات الشعبية بعكس الانقلاب الذي يكون غالباً من لون واحد أو متقارب.
وبغض النظر عن نتائج الاستفتاء، فإن في مصر اليوم معسكران متبلوران، ساهم معسكر النظام في بلورة خصمه. لكن الخصومة لا تزال في مستواها السياسي وتنافس النخب العليا في المعسكرين على السلطة السياسية، بينما القاعدة العريضة للمجتمع، قاع المجتمع لا تزال موجودة في ذاتها ويجري استغلالها لصالح طبقة موجودة لذاتها وإن كانت منقسمة على ذاتها.
فالطبقات الشعبية وهي الأكثرية اجتماعيا وإنتاجياً مقودة من الشرائح العليا للبرجوازية المصرية والشرائح العليا من الطبقة الوسطى. كما أن القوى الأقرب إلى الطبقات الشعبية أو التي تمثل قطاعات منها هي منخرطة بعد في تحالف مع قوى جبهة الإنقاذ.
وهذا يثير التساؤلات التالية: ماذا بعد الاستفتاء، سواء بنعم أو لا؟ هل سيوفر هذا المناخ من الصراع السياسي مناخاً للصراعين القومي والاجتماعي؟ القومي ضد الكيان والتبعية للولايات المتحدة وحتى ضد أنظمة النفط التي تشكل حالات من الاستعمار لصالح الاستعمار الفعلي. والصراع الاجتماعي بمعنى الشروع في نضال لتحرير جهد الطبقة العاملة والفلاحين كمنتجين للقيمة الزائدة من استغلال راس المال المحلي وخاصة الطفيلي وراس المال الأجنبي.
هل تتمكن قيادات مصرية جديدة من أوساط جبهة الإنقاذ و/أو من خارجها إنشاء تحالف لإنجاز الثورتين الوطنية/القومية والطبقية؟ هل هذا الأمر بالسهولة التي تتجلى في وجود قيادة وحسب؟ وهل الزمن القصير هذا يسمح ببلورة حركة سياسية حزبية تُنضج وعيا طبقيا مناسباً؟ وهل لحظات الثورة مشحونة بحرارة وعي تختصر الزمن؟ لا يحق لأحد الحكم المطلق، ولكن ما يمكننا القطع فيه بأن مصر اليوم على طريق تجاوز الثورة الأولى فالجماهير تفتح الأبواب.