عبداللطيف مهنا
حقق المؤشر التصعيدي للهستيريا التهويدية أعتى منسوبه غلواً . ما كنا قد تعرضنا لها في مقالنا السابق من خطواتٍ تهويديةٍ في سياق مخططاتٍ سابقةٍ جديدها مجرد إعلان الإزماع في تنفيذها ، لم تلبث وأن أردفت بالمزيد فأعلن عن أخرى وأخرى تلحقها والحبل على الجرار . في أقل من إسبوعٍ مر على السابقة جاءت اللاحقة وهى 5500 وحدة سكنية جديدة ، شملت مستعمرة “هار حوما” في جبل أبوغنيم جنوبي القدس ، ومستعمرات أخرى في الضفة ، هى “بيتار” و”كارني شمرون” ، و”وجفعات زئيف” ، و”عفرات” ، وأخيراً خطة لبناء مستعمرةٍ ضخمةٍ أُطلق عليها “جفاعوت”. ونُذكِّر بأن المقررمن قبلها هو 6600 وحدة أغلبها في محيط القدس ، كالمرحلة الأولى من مستعمرةٍ جديدةٍ هى “جفعات همطوس” على أرض قرية بيت صفافا ، التي سيُشَق طريق لشطر أحيائها ألى شطرين ، ثم ما سيضاف في مستعمرة “رامات شلومو” على تلة شعفاط ، فيما يعرف أوسلوياً بالمنطقة “A1” ، التي تفصل شمالي الضفة عن جنوبها ، بالإضافة إلى مستعمرة “جيلو شمال” … ليبلغ عدد المستعمرات ، التي شيَّدت حتى الآن بهدف خنق القدس وابتلاعها والإجهاز نهائياً على عروبتها ، ستة وعشرين مستعمرة تشكِّل ما يطلقون عليه مسمى “اورشليم الكبرى” الممتدة من غور الأردن حتى بيت لحم ومن مشارف رام الله إلى مشارف الخليل ، عبرمجمَّع مستعمرات “غوش عتسيون ” الفاصل بين الأخيرة وبيت لحم … هذه التي تحاصر البلدات الفلسطينية في ضواحي القدس وتحد من توسُّعها مستقبلاً ، وتسهم في تسهيل “الترانسفير” كهدفٍ إستراتيجيٍ بيَّتوه لأهلها .
هذه الهستيريا لا تقف عند حدٍ ، فقد صدرت أوامرهم بهدم 300 بيت فلسطيني وتشريد أهلها لصالح التوسع التهويدي مكانها ، فالتهويد مسألة إستراتيجية صهيونية ، وسياسة تُجمع عليها كافة القوى السياسية في الكيان الصهيوني ، على إختلاف تلاوينها ومسمياتها وتصنيفاتها ، فجميعها الآن ، وبلا استثناءٍ ، ترفض ما بدر من الإدانات الدولية على الرغم من كون أغلبها إما المنافقة أو المفتقرة إلى الجدية أوعديمة الفاعلية ، وما المستجد في مثل هذه الهستيريا إلا نزولها الموسمي ، حال الدم الفلسطيني إبان العدوان على غزة ، معترك سباقهم الإنتخابي المقام بازاره الآن .
ليس ثمة ما يدفعنا للإنشغال كحال البعض في الكلام عن التحدى الصهيوني البادي لهذه المواقف الدولية الشاجبة المعروفة حدودها، أو تعليق الأوهام على ماسيتأتى من كل ما يُستحب أن يُطلق عليه في دنيا العرب “الشرعية الدوليه” ، أو”الرأي العام الدولي” ، أومقولة الآعراف والمواثيق والقوانين الدولية ، وكل هذه المسميات التى لم يسبق وأن أُحترمت من قبل الغزاة الصهاينة وداعميهم الغربيين ، ذلك لعدم جدوى مثل هذا الإنشغال وانتفاء الفائدة من مطاردة سرابه … وتكفينا الإشارة إلى العيِّنتين التاليتين : الأولى ، قول الأميركي جفري فيلتمان ، مساعد الأمين العام للأمم المتحدة ، إننا “نطالب بإلحاح الحكومة الإسرائيلية بالإستجابة للنداءات الدولية والتخلى عن هذه المشاريع” ، بينما عطلت بلاده صدور مجرد بيانٍ رئاسيٍ شاجبٍ عن مجلس الأمن !!! والثانية ، إن كل ماتوصَّل إليه بيان لأربع دولٍ أوروبيةٍ من أعضاء هذا المجلس ، هى بريطانيا وفرنسا والمانيا والبرتغال ، هو أن قرارات التهويد الأخيرة “توَّجه رسالة سلبية” ، و”تدعو للشك في الرغبة بالتفاوض” ، في حين بلغ مستوى التعاون بين الكيان الصهيوني والإتحاد الأوروبي في شتى المجالات ، الإقتصادية والسياسيةً والعسكرية والأمنية والتكنولوجية والآكاديمية ، حدوداً لاينقصها إلا إعلان عضويته رسمياً في الإتحاد !!!
بالتوازي مع ما تتعرض له الأرض الفلسطينية من نهبٍ يترجم مثله عسفاً وتشريداً وإذلالاً وتقتيلاً للإنسان الفلسطيني ، ونورد مثالاً مقدسياً تختصر رمزيته حال أهل القدس وكامل فلسطين تحت الإحتلال ، إنه الأسير سامر العيساوي الذي بلغ إضرابه عن الطعام المائة والأربعين يوماً ، وحين عرضوه على القاضي الصهيوني مقيد اليدين والقدمين، كالعادة ، كان ينزف من رقبته وأنفه ويعاني آلاماً في صدره ، لأنهم وهم يدخلونه قاعة المحكمة انهالوا عليه ضرباً لمجرد محاولته تحية والدته وذويه ، وإعتقلوا شقيقته التي إعتدوا عليها مثله لأنها حاولت الدفاع عنه … للأسير العيساوي شقيق معتقل وآخر شهيد …
ما تقدم يأخذنا إلى موقف سلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود ، المُعبَّر عنه بلسان مفاوضها محمد اشتيَّة ، القائل بأن “تكثيف الإستيطان ، وعموم الممارسات الإسرائيلية من قتلٍ واعتقالاتٍ ، تدفعنا لتسريع توجُّهنا إلى المحكمة الدولية ” … مجرَّد تلميح عن توجُّه وتهديد بتسريعه ! وماذا لوتم ؟! يكفي للإجابة ماورد في تصريحٍ لاحقٍ لكبير المفاوضين صائب عريقات ، الذي تمنى فيه “ألا تقف واشنطن في طريق” هذا التوجُّه !!!
إن تمسُّك السلطة الأوسلوية ، التي إرتفعت نسبة التهويد بعد قيامها وعلى مرآها ومسمعها وبشهادتها 300 % ، بأولوية العودة إلى ملهاة المفاوضات الكارثية ، وتسريباتها حول الفدرالية مع الأردن ، تبديد لانتصارين فلسطينيين تحققا مؤخراً : صمود غزة المقاوم ، والرمزي المعنوي في الأمم المتحدة … وتبديد لأوهامٍ أثارتها حفلة تكاذبٍ تلتهما حول نية المصالحة واستعادة الوحدة الوطنية الغائبة.