بين الأسطورة و”الأسطولة “


العالم يقتل العرب

أحمد حسين

الحقائق الموضوعية في تداولات الواقع مرهونة بالسيادات المرحلية للمصلحة والثقافة والمزاج السياسي المهبمن. فالتسلط يتحرك في دائرة الإنفلات من أية ثقافة موضوعبة أو التزام معرفي، سوى ما يخدم مصالحه. والبشر في تداولات المراحل هم قيم تداولية تفرضها قيم الثقافة السياسية المهيمنة التي ترعى مصالح أصحاب المرحلة. لذلك فإن التاريخ السياسي والإجتماعي للبشر كان مكونا دائما من لاعبين وأوراق لعب. اللاعبون يقررون قوانين اللعبة والقيمة التداولية لأوراق اللعب وأوراق اللعب تمتثل بسلبية مطلقة. وأوراق اللعب هم بشر الحضيض. وهم في الإجتماع البشري مجرد لا بمستويات المذبحة هو عادة تاريخية مكررة. ولكن كمية الدم التي سالت في سياق المذبحة الممتدة للعرب، ليست هي التي تثير التساؤل، وإنما مشهدية المذبحة التي تبدو وكأنها تتم داخل طقس من طقوس التقدمة الإحتفالية في عالم همجي متمدن:

هناك نظام واضح خال من العشوائية يتناول الناس بدم بارد متنقلا داخل منطقة محددة، تسمى بتردد المنطقة العربية، وباندفاع خال من التردد منطقة الشرق الأوسط.

جدال أن الدم العربي هو أكثر دم تم سفكه ما بعد الحرب العالمية الثانية. عدد الدول التي شاركت وتشارك الآن في المذبحة، يفوق عدد أي تجمع دولي في التاريخ تم حول شأن من الشؤون، وتضم معظم دول السيادة والتفوق والتخوم الحواضرية في العالم، إلى جانب معظم دول الإلتحاق.

كل الدول العربية شاركت وتشارك بفعالية في المذبحة منذ افتتاحها في فلسطين وحتى فصلها الأخير في سوريا.

حتى الآن لا يوجد في الأدبيات الدولية للمذبحة، نص بارز واحد لا يدين العرب بالمسؤولية القطعية عن كل فصول المذبحة، أو نص يتحفظ منها إنسانيا.

يحاول أحد من مرتكبي المذبحة على الصعيد السياسي أو الفكري، تقديم شرح مكافيء للمشهد الدموي يبين أسبابه. المحللون العرب يقولون أن الأسباب متعددة منها، عداوة الغرب للإسلام، والكيل بمكيالين، والمصالح الغربية. وبعضهم يعزو ذلك إلى الملابس النسائية الفاضحة. أما الأقرب إلى المنطق، فهو أن هناك في الغرب من يعتقدون أن السبب الحقبقي هو أن العرب يستحقون الذبح.

رأيي الخاص، وهو لا يلزم أحدا، أن الدوافع لذبح العرب متوفرة لدى الغرب. وهي كلها دوافع موضوعية، تبلورت في وعيه خلال قرون طويلة وأصبحت جزءا من ثقافة العقل والوجدان والقوة والمصلحة لديهم : العرب مختلفون. العرب يعيشون على المتوسط قبالة أوروبا. العرب سيطروا منذ القدم على التجارة العالمية واستغلوا أوروبا. والعرب في العهد القديم أعداء شعب المسيح وملعونون من الرب، الذي أباح دمهم. وبعد ظهور الإسلام عادوا لبصبحوا قوة امبراطورية كما كانوا في القديم، واخترقوا أوروبا ولولا لطف الرب لكانت أوروبا الآن مسلمة. لذلك قال عقلاء السياسة والحرب والدين يجب أن لا يقوى العرب مرة أخرى وإلا فنحن في خطر. والعرب بوابة الكنز الشرقي للعالم ولا يمكن اختراقه بدون التخلص منهم.

وعند هذه النقطة أصبح الإستشراق يعني كيفية التخلص من العرب وإبقاءهم ضعفاء وتحويل سواحلهم إلى بوابات للدخول وبلادهم إلى مشاعة غربية وتقويض كل احتمالات نهوضهم للأبد. عناصر القوة لديهم هي تاريخهم الحضاري المؤسس، وهويتهم الموحدة ودينهم العقلاني. وهي التي يجب تديرها.

ظهرت الشعوبية مع بداية التوسع النهضوي للعرب تحت راية الإسلام. نحرير مواطن الحضارات العربية الأولى من روما وفارس واحتلال الكثير من البلاد غير العربية، ودخول الكثيريم من غبر العرب في الإسلام، أدى إلى ظهور حركة الموالي المبكرة في العصر الأموي، والشعوبية في العصر العباسي. كان مركز الخلافة في بغداد يعج بالشعوبيين الذين منعتهم كبرياؤهم الحضارية من التسليم بحكم العرب واتباع دينهم. وكان هؤلاء يشكلون جزءا مهما من القوة العقلية في الحياة الإجتماعية في مركز الخلافة العربي وفي بلادهم الأصلية. وكانت كراهية العرب وكراهية الإسلام هي الجوهر الموحد لهم على اختلاف أصولهم.

كان الجيب الروماتي في القسطنطينبة، مركزا استشراقيا كنسيا وإمبراطوريا متقدما لأوروبا في ذلك الوقت، وكان من الطبيعي أن يلفت الشعوبيون نظرهم، لتلاقي الأهداف بينهم في تقويض البناء الإمبراطوري للعرب والمسلمين. وهنا بدأ التحالف بين الطرفين الذي شكل قفزة نوعية هائلة في عقل الإستشراق من ناحية وفي بداية السقوط البنيوي الشامل للعقل والإنسان والثقافة والهوية في المجتمع العربي. وقد أسفر هذا التحالف بين الإستشراق وأسلاف الإخوان المسلمين عن أشمل وأقذر وأحكم مشروع تقويضي في التاريخ لشعب وحضارة وهوية. وقد بدأ هذا المشروع بتأسيس مشروع الفقه الكنسي الذي خطط له المستشرقون ونفذه الشعوبيون وأدى في النهاية إلى تحقيق كل الأهداف التي أرادها الطرفان، من تقويضات بنيوية في المجتمع العربي، وعلى رأسها التخنيث العقلي والحضاري والإجتماعي، وتحويل مضمون الدين وديناميته البناءة إلى أهم آليات المشروع التقويضي. لقد تم تهجير العربي من بنيته التاريخية الأصلانية إلى بنية هجينة يمارس فيها عداء الذات القومية باسم الدين.

بشر في المسخ، لا يحكمهم إلا سفلتهم، ولا يحركهم إلا عملاؤهم، ولا يرشدهم إلا شياطينهم. يسكتون على كل ذل وامتهان وإهانة ولا يضربون سوى أولادهم وزوجاتهم وجيرانهم وإخوتهم. فيهم خبث بدون دهاء. اعترف أحد ساستهم بشكل رسمي أنه نعجة لبخفي كونه عنزة. ولكن العالم يعرف النعجة من العنزة فضحك منه. النعجة تمثل السمو الحيواني. جميلة وادعة ناعمة محتشمة تمشي مستورة العورة. والعنزة بشعة حمقاء متحللة تمشي وذنبها القصير شائل إلى الأعلى لتبرز عورتها.أي خبث خال من الدهاء هذا !! فبعد اعتراف الهجريين رسميا بأنهم بين النعجة والعنزة. ألا يحق للعالم أو بعضه أن يبرر ذبحهم؟

طبعا لا ! فالذبح العشوائي لا يجوز حتى في المواشي. هناك مبرر موضوعي لذبح الماشية هو أن لحومها صالحة للأكل، ومع ذلك فهي لا تذبح إلا عند مبررات الحاجة. فكيف يكون هناك مبرر لذبح العرب ولحومهم لا تؤكل؟ قد يستحقون الذبح ولكن لا يجوز ذبحهم موضوعيا. لذلك لجأت الصهيومريكية الإستشراقية وحلفائها الفقهيين إلى دفع الهجريين إلى ذبح بعضهم بعضا. هنا لا حاجة للتساؤل، فهو يخالف مبدأ الحرية لأنه تدخل في شؤون الآخرين.

كيف كان بإمكان السياسة أن تتدخل سنة 48عندما قام الفلسطينيون بمساعدة من إخوانهم العرب بتسليم فلسطين لليهود طوعا. قد يقول البعض متفلسفا : غير صحيح لم نسلم فلسطين، ولكن اليهود تغلبوا علينا. وردي هو انني لم أذكر الحرب، فالتسليم حصل قبل نكتة الحرب. والحرب لم تحدث أبدا، لأن الفلسطينيين كانوا مقتنعين أن فلسطين يجب أن تسقط بيد اليهود لكي تأتي الجيوش العربية لتحررها نهائيا من اليهود وتطردهم خارجها. ولكن قسما آخر أصر على أنها ستسقط ليظهر أعور الدجال. وغادر أكثر الفلسطينيين فلسطين برا وبحرا قبل أن يروا اليهود وجها لوجه. ودخلت الجيوش العربية فلسطين وخرجت، لتعطي لليهود فرصة لتجاوز حدود التقسيم. أما الأعور الدجال فقد كان موجودا من قبل مع إخوانه من الشعوبيين منذ النهوض العربي الإسلامي. وأخيراأيقن الفلسطينيون أن فلسطين قد سقطت لتصبح قضية العرب الأولى.

لقد بدأ إسقاط فلسطين، عندما تأكد مشروع الإستشراق الصهيومريكي وريث الإستشراق الأوؤوبي، أن جلود الهجريين قد نضجت، وأنهم أصبحوا شعوبا ومجتمعات في حالة موت سريري. وبينما كان المشروع الصهيوني يستكمل انتشار المستوطنين ويحصن المستوطنات، ويجمع المعلومات ويبني الخرائط الإجتماعية والجغرافية والديموغرافية ومناطق التوترات والملكيات الخاصة والمشاع ويعبيء عملاءه الثاريخيين والوارثيين والمستجدين من موظفي الإنتداب والإقطاعيين وفقهاء الشيطان وخطباء المساجد والشيوعيين ورؤساء العائلات والعامة، كان عامة الفلسطينيين من سكان الغيبوبة، ينتظرون فرجة الحرب الموشكة، ويشبعونها أساطير ونصوص ومستندات شفهية وخطية من سلال المعرفة التي يحملونها معهم أينما ذهبوا، وينصتون للفقهاء ليزدادوا معرفة في أحكام النساء. ولعله لو كان في فلسطين شعب يعيش واقع العقل وحركته بحدود المعقول الأدنى، وكان لديه بعض القيادات غير العميلة، فإن الصهيونية كانت ستفكر كثيرا قيل غزو فلسطين. ولكنها كانت على بينة تامة أن اليهود مجرد عائدين إلى وطنهم لاستلامه من الفلسطينيين الذين لا يمانعون في ذلك، وإذا كانوا يمانعون فهم لا يدركون ذلك جيدا. وإذا قرروا الممانعة فبماذا سيمانعون؟ بعقولهم؟ بوعيهم لما يحدث لهم؟ بالسلاح الذي أعدوه؟ لن يمانعوا أبدا. إنهم تالفون حتى العظم.

انطلق قطار الحلم الإستشراقي العابر للقرون، يخترق مراحل التطور التاريخي، يتوقف في محطاتها ليعيد حساباته، ويطور الياته، ويواصل اندفاعته نحو الشرق.

بدأ المسلسل بفلسطين مهد الأسطورة. استمر التريث الصهيوني في مخططه الإستيطاني منذ بيتح تكفا وحتى اليوم. ظل منذ 48 يحتل الأرض على مراحل ويتريث سنوات حتى يستوعب الأرض الجديدة. يستدعي المهاجرين، ليستوطنوها ويهودوها، ويقوم باتخاذ الإجراءات اللازمة ليجعل الفلسطينيين يعترفون بالأمر الواقع، ويطلب إليهم أن يتريثوا، ليقوم بحملة تأديبية لهم، ويستولي على أرض جديدة، ليطالبوا بها، وينسوا ما قبلها. وهكذا دواليك. وفي هذه الأثناء، كان الهجريون الفلسطينيون والعرب يواصلون غيبوبتهم مع شيء من التقدم في عدد العملاء ونوعيتهم ومهاراتهم. الشيء الوحيد الذي كان يتطور لديهم هو الثقافة الفقهية فقد كان التيار الكنسي للأخونة يتطور في العدد والتأثير والتنظيم حتى أصبح الظاهرة الأعم في الحياة العربية والفلسطينية. والغريب أن هذا التيار كان يتطور بسرعة عجيبة رغم ” تطرفه وكراهيته ” لأمريكا واليهود. وظل على ذلك حتى سيطر على الحياة السياسية والإجنماعية والإقتصادية خاصة، وأقام إمارة إسلامية في غزة، دون أن تستطيع الصهيونية أو أمريكا “التعرض له “. وقد فسر الهجريون الأمر بأنه عائد إلى تدين هذا التيار وإخلاصه وعناية السماء به.

وقد ترافقت هذه النهضة “المباركة ” مع نهضة موازية في العمالة والرواج الإقتصادي والتوجه نحو التطبيع. ويبدو أن الصدفة وحدها هي التي لعبت الدور الأكبر في اجتماع هذه الظواهر لأن ” الإستراتيجيين الهجريين ” لم يستطيعوا العثور على أية روابط جدلية بينها.

وأخيرا قررت الصهيومريكية، أن لأوضاع أصبحت مهيأة تماما، للتقدم نحو المرحلة الأخيرة من المخطط الهجري الشرق أوسطي. قالإخوان قد استكملوا تشكيلاتهم العسكرية في كل المواقع، والجماعات الهجرية تحولت إلى تجمعات مستحدثة من البشر غير التاريخيين. فأتمت نعمتها عليهم بالربيع العربي الذي بدأوا به هبوطهم إلى موتهم الطوعي. هذه هي الصورة المرئية والمكتوبة التي تلخص جلال المشهد الهجري الحالي.

الحقائق الموضوعية في تداولات الواقع مرهونة بالسيادات المرحلية للمصلحة والثقافة والمزاج السياسي المهبمن. فالتسلط يتحرك في دائرة الإنفلات من أية ثقافة موضوعبة أو التزام معرفي، سوى ما يخدم مصالحه. والبشر في تداولات المراحل هم قيم تداولية تفرضها قيم الثقافة السياسية المهيمنة التي ترعى مصالح أصحاب المرحلة. لذلك فإن التاريخ السياسي والإجتماعي للبشر كان مكونا دائما من لاعبين وأوراق لعب. اللاعبون يقررون قوانين اللعبة والقيمة التداولية لأوراق اللعب وأوراق اللعب تمتثل بسلبية مطلقة. وأوراق اللعب هم بشر الحضيض. وهم في الإجتماع البشري مجرد خامات استخدامية يحركها الآخرون. وحينما تصبح جماعة بشرية مجرد حامل لفيروسات الخمول والسلبية والتخلف، تفقد كل حق لها في التقييم وتصبح خامة مملوكة تبرمجها وتحركها حاجات الآخرين حسب تدرجات القوة. يصبح وجودها مجرد انعكاس مطابق لوجود الآخر. هذا ما حدث للمشاعة الهجرية في سياقها التاريخي النادر عبر تجربة التصالح غير المشروط مع التحديات التي تحكم حركة الحياة والصراع ويحتمها التطور. ومن النادر بل من المستحيل تحري التاريخ عن تجربة مشابهة حدثت لسلالة حضارية متفردة ومؤسسة كالعرب. هذه الحضارة الكبرى وعنصرها البشري المؤسس، هي الآن مشاعة بشرية، لا هوية ولا مضمون اجتماعي ولا وجود ذاتي من أي نوع سوى ما يصدر عنها من هلوسات أثناء نومها. وهكذا اختلت لديهم كل مصطلحات الوعي والإلتزام الإجتماعي، لأن الجغرافية التاريخية مضمون اجتماعي وإنساني وحضاري وثقافة إثنية مشتركة وليست مجرد خارطة. لقد انفصل الهجري عن ذاته ليصبح هوية عددية شكلية فقط مثل رزمة من أوراق اللعب. لو حدثت المعجزة وأطللتم من غيبوبتكم الهجرية على العالم وعلى أنفسكم، ورأويتم ما أدهشكم، فهل تقررون أخيرا أنكم مصرون على رؤية الحقيقة مهما كانت مفجعة؟ هل تقتنعون إن غيبوبتكم السهلة لم تكن تصلح للحياة، لأن الحياة مشروع للوعي والحركة وليس للتجاهل والغيبوبة والسكون؟ ربما. ولكن الأهم من الوعي النظري الآن، هو أن الورطة الشاملة التي تعيشونها حاليا، تقع في منطقة وعي صراع البقاء بين الرصاصة وصدوركم العارية. أنتم الآن في واقع المداهمة. فدعوكم من السياسة فلا شأن لها بما يجري لكم. السياسة كانت فيما مضى سجالات نصر وهزيمة ولم تعد كذلك الآن، لأن عصر التوازنات وتريثاتها قد ولى بالنسبة لكم على الأقل. ألعالم بأكثريته يريد قتلكم بدم بارد ويفعل ذلك بعجلة وإصرار. فأنتم لستم في نظرهم ضعفاء العالم فقط، بل فيروساته الخطرة أيضا. لقد صنعوكم على مقياس الجريمة التي خططوا لها قرونا، وهم ينفذونها الآن بعد أن نضجت جلودكم. إن خضعتم سيقتلونكم. وإن هربتم سيقتلونكم. وإن عبدتموهم سيقتلونكم. قتلكم بالنسبة لهم ضرورة وحاجة وحتم موضوعي. إنهم يستعبدونكم منذ قرون طويلة فلماذا يقتلونكم لولا أن قتلكم هو غاية لهم بمدى ماهو وسيلة؟ إسألوا أنفسكم، هل عصاهم سادتكم أو عامتكم بشيء مما يعصى به الله؟ فهل كفوامع ذلك عن قتلكم؟ أوطانكم وثرواتكم وإنسانيتكم مشاع لهم، وأنتم لا تسطيعون مواجهة، ولا تحاولون معصية، ولا دفاعا عن أنفسكم، فلماذا يقتلونكم إذن؟ ربما هم أنفسهم يجهلون السبب. لقد تدوالتهم المراحل وهم يعتقدون ان قتل العرب جريمة لا بد منها.

لا حاجة لكم بالسؤال الآن. فالسؤال باب للحوار، ودلالة على الخيار. وأنتم أمام مداهمة لا حوار فيها ولا خيار، فماذا يفيدكم لو عرفتم الأسياب التي يقتلونكم من أجلها، ما دام ليس هناك ما يحعلهم يعيدون النظر في قتلكم؟ لا فائدة الآن أن تنصتوا لشيء غير دمكم المتدفق كالنوافير،لأنه لم يبق لكم غيره. فما شانكم بالسياسة او الأقتصاد؟

الإقتصاد في النظام الراسمالي السائد يحدد مصائر البشر. لا شك أنه مصدر القوة والضعف، ومصدر الحرية والعبودية، ومصدر الجوع والشبع، ومصدر الرفاهية والعوز. والإكتفاء مصدر الأمن،والحاجة مصدر الذل، ولكن ما علاقنكم بكل هذا الآن؟ فصلوا بينكم وبين الوعي العاقل والعقل الواعي، وبينكم وبين قوانين الوجود وحركتها، وبينكم وبين الأرض وزراعة التراب الذي هو مصدر كل اقتصاد آخر، من المتاجرة بالعرض وحتى أرقى الصناعات، فما شأنكم بالإقتصاد ولم تعودوا تعرفون شيئا عن المراحل التي يمر بها إنتاج رغيف الخبز الذي تأكلونه، أو القميص او البنطلون أو الحذء التي تلبسونها، من مجرد كونها خامات ترابية حتى تحولها إلى سلع استهلاكية تستهلك البشر الذين لا ينتجونها؟ هل تعلمون أنها جميعها تزرع في التراب،بالضبط كما نحن قادمون من التراب؟ وأن الكافيار الذي سمعتم به يستخرج من آبار النفط في بلادكم من التراب؟ ما لنا ولهذا؟ فهذه القضية لم يسبق لكم التعريج عليها، ولن تفعلوا، لآن القضية الوحيدة بالنسبة لكم الآن هي دمكم فقط. ومع ذلك فأنا لست متأكدا حتى من هذا. ربما يكون دمكم قضية العرب الأولى مثل فلسطين. عندها لا فائدة حتى من الدفاع عن أنفسكم.

أنتم لا ترغبون بالحياة. ترغبون بالعيش فقط، وبين الإثنين عوالم وحضارات وثقافات وإنسان ومعاناة وتجارب لم تمروا بها ولا تولونها اهتماما. ولكن حتى الكائنات الدنيا لا تفرط بدمها طوعا. حب البقاء غريزة. أي مجرد ردة فعل، وليست فلسفة معرفية. جميعنا نعرف بالمشاهدة أن هذه الكائنات تدافع عن نفسها حتى النهاية، رغم حتمية المصير. فمنطق الغريزة هو عدم الموت طوعا. فلماذا تموتون طوعا. هل الموت طوعا أسهل من الموت دفاعا عن النفس، أم أنكم تراهنون على الحظ والصدفة؟ الحظ والصدفة جزء من الحياة وليست جزءا من الموت. ولكن تظل الحيرة أبعد من هذا. لماذا تقتلون أنفسكم نيابة عن أعدائكم؟ ليس لهذا سوى تفسير واحد. أنتم عينة بشرية غير عادية. عقلكم مختلف، وعيكم مختلف، ثقافتكم مختلفة، علاقتكم بالوجود مختلفة، لا تؤمنون بما ترون، تؤمنون بما يقال لا بما يرى. أي أن الحقيقة لديكم هي الآخر فقط وليس الذات والآخر. إنها ليست التجربة، وليست المعرفة وليست العلم وليست الدين. الحقيقة خارجكم وليست فيكم، لأن مسؤولية المعرفة كبيرة، وتجاهل المعرفة يجعل من العيش نزهة فضائية تشبه الغيبوبة. من فعل بكم هذا كله؟

لا تقولوا هكذا نحن خلقة. فأنتم أقل عند الله من أن يخلقكم خارج الناموس ويجعل لكم ناموسا خاصا بكم. هناك عوالم أخرى خلقها الله، وقد يكون لكل عالم ناموسه، ولو خلقتم مختلفين لكنتم في عالم غير هذا. ولكنكم لم تولدوا مختلفين. ولو لم تتخذوا من آبائكم الأولين عدوا لكم كما لقنكم فقهاء الكنيسة الإستشراقية من الشعوبيين، لعرفتم أي أباء فاخرين كانوا لكم. لقد كان العرب في الحقيقة هم شعب الله المختار. ولكم حق متقادم في أية براءة اختراع في الدنيا، فآباؤكم الأولون، هم أصل كل معرفة في العلوم والفنون والفلسفة. ولعرفتم بما انتم عليه الآن، أنه إذا لم يقتلكم الناس مباشرة فستقتلكم قوانين الوجود بالتلاشي. لأنكم تعصون الحياة ولا تواجهون الموت.

المعرفة أنك رأيت وفكرت، أو قيل لك وفكرت، أو جاءك وحي من السماء وفكرت. فهل الذي بكم معرفة تجربة، أم معرفة علم،أم معرفة وحي، أم منها جميعا. لا هذا ولا ذاك ولا تلك. فأنتم لم تفكروا لتعرفوا. لقد ملأوكم ” بالمعرفة ” التي يريدونها كما تملأ الزجاجات الفارغة بما لا تدري، فكيف ستعرفون. أنتم عبوات مصنعة من المعرفة الخاصة والثقافة الخاصة، والتاريخ الخاص. وأنتم الآن لون خاص من الناس، ليس له مثيل في قوس قزح الكينونة.

الوجدان والعقل والثقافة كلها نتاجات التجربة والوعي ومغامرات الفكر والإكتشاف في ظل جدل الذات والآخر. جدل الحياة والموت. إما أن تكون ذاتا في جدل الوجود،أو لا تكون شيئا قط. للحجر وللشجر والكائنات الحية ناموسها الذاتي، وللبشر في قمة الوجود ناموسهم الذاتي أيضا. وللجميع ناموس واحد يقول (ما فقد ذاته لم “يوجد “). وقد كنا عصرا مديدا حركة وتاريخا لغيرنا. أي أمة شيئية بدون ذات. خامة فقدت خصائصها الذاتية فلم ” توجد”. سلبكم فقهاء الكنيسة الشعوبية خصائصكم الإنسانية جميعها ليقتلوا وجودكم. وقد فعلوا. سلبوكم خصائص دينكم الحق فلم تعودوا مسلمين. وسلبوكم خصائص أغنى وجدان قومي للحضارة فأصبحتم لا شيء. حقنوكم بمستحضر الغيبوبة والسلبية حتى فقدتم جدلكم الوجودي لصالحهم. خربوا دينكم بالفقه الكنسي ليخربوا به دنياكم ويستولوا عليها. وهكذا وصلتم نهاية الطريق مع الحياة بكل تكاليفها، وطاب لكم ذلك. وعاش معظمكم مجانا، وكيفما اتفق. أي أصبحتم خامة يشكلها غيركم على هواه. وبما أن الحياة مجانا هي مستحيل وجودي. فإنكم لم توجدوا أبدا في هذا العصر.

لنا دين هو خاتمة الديانات. فهو بالحكمة الإلهية أشملها وأرقاها في التكليف وأقربها إلى الحرية والتبصر والتفكير وتحكيم العقل ونواميس البشر. دين جمع بين حق الدنيا وحق العقيدة في سمو من التوازن لم يرد مثله فيما سبقه من أديان سماوية. فهو أولا دين تصلح به الدنيا، لأن الذي خلق الدين والدنيا خلق جدلية الصلاح معهما، وأنه لا صلاح لدين في دنيا فاسدة، والعكس بالعكس. جعل التكليف مسؤولية فردية نحو المجتمع، والمجتمع حكما على الفرد في الدنيا. كافا لهوى نفسه وراعيا لحقوقه. لم يُولّ بعد التبليغ والرسالة أمر الدين لفرد أو جماعة. علاقتهم المفروضة التآمر بينهم بالمعروف والنهي عن المنكر. أما الدولة فهي نظام دنيوي كالتجارة يجري فيه التكليف على الفرد في التزام ألأخلاق العلمانية لدستور العقيدة. وما تبقى فهو متروك للناس يدبرونه ضمن هذا الإلتزام. وأما العقل والتبصر فهما مع الإيمان كل الدين، كما ورد في الرسالة، لدرجة الجمع في القرآن، بين الكفر وهجر العقل والتبصر واللب والفهم الوعي. أي أنه حعل العقل والتفكير سبيلا للأيمان بالرسالة، أفلا يرضى بهما للدنيا؟ فمن أين جاءنا العمى والجهل لنصدق أن في الإسلام كهنوت وفقهاء وكنيسة؟ هل تحدث القرآن مرة عن واسطة بين الله والمسلم فردا أو جماعة. ألم يحرم ذلك بالبيان المباشر والآيات التي لا تحتمل الشك؟ فكيف صرنا من العمى نعبد الله ونتقرب إليه بالمعصية، ونعصيه بما أمر؟

ومن هو الذي أودى ببنية الإنسان العربي المسلم وثقافته وصتع الإنسان الهجري الذي نراه اليوم؟ إنسان على غير دينه وعقله وثقافته الذاتية، لا خير فيه لنفسه أو لغيره، يتخذ خاصة أعدائه أولياء، ويتخذ نفسه عدوا لنفسه لأنه يدرك غيره ولا يدرك ذاته ويعي التبعية ويرفض ما سواها خوفا من المسؤولية. يبحث عن دينه وعقله ودنياه وآخرته، لدى رجل غريب الزي يقلد القساوسة، بعضه وهو بطنه، أكبر من كله، استعملوه ليخرب له دينه وعقله ودنياه، يتطفل متعمدا على خبزه وعقله ودمه ومعناه، فيخرجه من ذاته عبدا هجريا لكل من شاء. هذا الرجل هو الفقيه. وهو كائن آلي صنعه المستشرقون، فتقوضت بدجله وعمالته وكفره كل بنى التأسيس والتماسك الإجتماعي المادية والفكرية والعقلية لديكم. وولد على يديه إنسان الغيبوبة الهحري التالف الذي يتحرك حاملا سلته المعرفية في رقبته وفيها رغيف من الخبز المستورد، وورقة عن نواقض الوضوء. منافق كذاب أنوي تافه سخيف سعيد بدون سبب سوى جهله، مثل كل متخلف عقليا. يتلمظ بالخشوع الكاذب كما يتلمظ الطفل بالحلوى وكما رأى الفقهاء يفعلون. هذا هو كل دينه ودنياه. وجميعهم درجات متفاوتة للأراجوز. الأراجوز السيادي والسياسي والثقافي والأمي. والعالم يتفرج ويضحك ويستنكف ويشمئز ويشفق ويخاف.

لم يكره المسلمين والعرب أحد كالشعوبيين، لأن ذواتهم المهزومة بفتوحات العرب دفعتهم إلى ذلك. ونافسهم في تلك الكراهية الغرب واستراتيجيوه من المستشرقين. والصهيونية حركة نقض لشعوب النطقة العربية قبل التوراة. وتحالفوا جميعا في حركة واحدة ترمي إلى محوكم من ذاكرة الوجود على التاريخ. هل تنقصكم الأدلة؟ بالطبع. فالإستدلال أصعب حركة للعقل وأكثرها تركيبا. ولكن ماذا عن جلودكم الممزقة بالسياط والسكاكين، وعن جوعكم وفقركم وذلكم وأوطانكم المستباحة وثرواتكم المنهوبة وانعدام وزنكم في كل المجالات؟ ماذا عن نكباتكم ودمكم الذي ضجرت منه الأرض؟ هل رأيتم غيرهم في العراق؟ أو غيرهم في الصومال أو تونس أو مصر أو اليمن أو سوريا؟ إذا كان هذا لا يكفي دليلا لديكم وقد فاق دلبل المرود والمكحلة، فلا تبحثوا عن أيديكم فلن تروها. ولكن هذا كما يبدو لي تجاهل وليس عمى. تتجاهلون لتبرروا اتباعهم، كما يبرر القتل بالسرقة. فلماذا لا يجوز للعالم استباحتكم جملة وتفصيلا؟ إنه كما تعلمون يفعل ذلك ويبرره بما يثعلق بكم. ألا يقتلون العرب في العراق وسوريا باسم الدفاع عن حقوق الإنسان رغم أنهم لا يقتلون هناك سوى نموذج الإنسان الحقيقي تحديدا. ألا تخون حماس وفتح وحواتمة فلسطين علنا لأنها تريد التصدي لخطر سوريا؟ أثبتوا لمن يرى ويعي أنهم يمكن أن يخونوا أي شيء سوى الصهيومريكية، لأنهم امتداد عضوي في أكثرهم لعملائها التاريخيين. حماس بإخوانيتها وفتح بإقطاعييها والشيوعيون العرب بإيكولوجياتهم الإيديولوجية هم أبرز أبطال النكبة الفلسطينية. واليوم هم الذين خاطوا ويخيطون أكفانها. نقول لهم : المرحلة ملزمة بموضوعها قسرا. هي الموضوع في الزمن والحركة وبالعكس. والعمالة لمعلوميتكم هي تحييد الإلتزام بالموضوعية. وتبريركم ” لتخليكم عن فلسطين بالتفرغ لصد “الخطر السوري ” ليس له وصف أخلاقي يكتفي به الموضوع أو تقبل به اللغة. ولكن سأحاول. أنتم موضوعيا دون…. دون ماذا؟… دون أي ماذا على الإطلاق. فلسطين لم تسمع بكم إلا كأعداء لها. صحيح أنها كانت قضية العرب الأولى. ولكنها زالت من الوجود السياسي والجغرافي لهذا السبب بالذات. لو كان في فلسطين غير الهجريين والخونة لما تجرأت أمريكا والصهيونبة على اقتحامها. ولوكان فيها عرب لما تجرأتم على خيانتها. هذا هو شاهد التجربة القدبم والجديد في موضوع فلسطين. وما تقولونه عن سوريا هو وصلة في حفلات التعري من الموضوع التي علبكم القيام بين الحين الصهيومريكي والآخر. أولا أين هي فلسطين التي تتحدثون عنها؟ ألم تستلموا أو ترثوا نسخا من فواتير البيع؟ هل ظل من فلسطين ما يكفي لإقامة مستوطنة تتسع لكم. أم تحسبون أننا لا نرى؟ إستحوا يا عورة العار وخزي الإنسانبة.أكلتم لحم فلسطين ميتة وتأكلونه مبتة. أتدرون لماذا بتركونكم في مناصبكم بعد أن أخذوا كامل فلسطين؟ فقط لأنكم الذين ستقومون بدفنها نيابة عنهم. انتم الذين ستوقعون عقد يهودية فلسطين، كموظفين في السيناريو التصفوي القادم. ولا بأس عليكم. أنتم فلسطينيون، وكوادركم فلسطينية، ولكم حق التصرف فلسطينيا لأن الشعب الفلسطيني هو الذي أتى بكم أو صمت عنكم، وهو يعرف أنكم عملاء المشروع الذي أودى بهم وبوطنهم. الأفراد لا يلامون. إنهم يحاسبون. التي تلام هي الشعوب التي تتجاهل ما يفعلون وتسلمهم مصيرها.

هذا هو المشهد الأخيرمن مشاهد تجاهلكم ! فماذا عن غيره من المشاهد؟

لا تستطيعون أن تروا أو تفكروا أو تريدوا، فأنتم والله قتلى، فكيف تتحركون في توابيت التجاهل والعمى الني وضعوكم فيها؟ حبن أمروكم تجاهلتم دينكم وعقلكم ودمكم وإنسانيتكم وأطعتموهم. ولو أراد الله بقوم سوءا لم يبتلهم بأكثر منهم، فإذا كانوا ابتلاء فقد فشلتم في امتحان الدنيا والآخرة. وإذا كانوا بلاء بعاقبكم به الله في الدنيا فأنتم تسحقونه. لا يظلم ربك أحدا. فالتجاهل زيغ وانحراف ونفاق. وقد بلغتم به حد الفجور.

ألسنا نحن الذين، نتجاهل أننا سلمنا أوطاننا للغرباء بدون حرب وعن طيب خاطر. فعلنا ذلك في فلسطين وقلنا : لقد هزمونا. فمن الذين هزموكم يا أتباع بعلزبول؟ هل دافعتم عن أنفسكم أمام أحد حتى تنهزموا؟ ألم نكن معكم حتى تكذبوا أمامنا. جلسنا وإياكم ننتظر الملائكة القادمين على خيول بيض، وحينما لم يأتوا هربنا على حمير شهب. في فلسطين لم يحارب أحد أحدا. لم نر أحدا غيرنا، وسقطت فلسطين ونحن فيها ولم نر أحدا أسقطها سوانا حينما هربنا منها بدون سبب. وكانوا ينتظرون الأخبار من عملائهم بيننا، فيأتون ليحتلوا القرى وهي فارغة من أهلها. وجاءت الحيوش العربية بطلب منهم، لتسلمهم ما لم يجرؤوا على دخوله. وتكررت اللعبة على مدى أكثر من ستين عما بنفس الطريقة حتى لم يبق من وطنكم ما يكفي لبناء مستوطنة صغيرة، تجتمع قيها فصائل منظمة التحرير لتسليم الميثاق الوطني الفلسطيني لمن سلمنا لهم التراب الوطني الفلسطيني، فأرسلناه مع عرفات تسليما باليد.

كنا نحس أن الفقهاء لا يأتوننا بمعقول، ولكننا أردنا أن نتجاهل وننافق أنفسنا وننافقهم، وأن نعيش بدون أن نحيا، لأن معاناة العقل ثقيلة ومكلفة فتبعناهم. وبين لذة التجاهل والنفاق من ناحية، ووطأة الجهل والعمى من ناحية أخرى تبعهم أكثيرون منا. هل سألنا هؤلاء الكنسيين ما لهم بيننا وبين الله؟ هل سألناهم : أأنتم قساوسة أم مطارنة أم كرادلة وليس في ديننا مثل هذا؟ لم نسأل، فدين القرآن ثقيل على المؤمن لأنه دين تكليف وعطاء، ودين هؤلاء خفيف سهل ليس فيه تكليف ولا عطاء، سوى اتباع ما يقولون ودعم ما يفعلون، والتخلي لهم عن الدين والدنيا.

والآن دعونا نحن الهمجيين الجياع وأشباه الجياع نسأل بعقل الجوع والإستغراب وحدهما : لماذا هم على الأكثر سمان غلاظ مكتنزون، فقراؤهم لهم حوانيت مزدهرة، وأغنياؤهم لهم شركات عابرة للقارات، وغيرهم ممن كانوا مثلهم فقراء ازدادوا فقرا وقفزو هم إلى الاعلى وإلى الغنى دفعة واحدة؟

ما سر قمعهم للمرأة وولعهم بها، لا يجدون فيما أحل الله شيئا أوجب بالإتباع من زواج الأربع بعد الأربع بعد االثمانية عدا نكاح المتعة والمسيار ونكاح القرضاوي. يجددون النساء كالسيارات. وكأن الله لم يحلل سوى تربيع النساء وتجديدهن. من أين لهم هذا الوفر وسع الله عليهم وضيق عليكم؟

ماذا كانت نخبهم تفعل في بلاد الإستشراق طيلة ما مر من عمرها؟ هل كانوا يدرسون في جامعات أمريكا وبريطانيا وفرنسا وغيرها. أم تم استدعاؤهم ليدرسوا فكر الجريمة الإستشراقي ليطبقوه على العرب، ويدرسوا مسلمي تلك البلاد من المهاجرين علوم التعصب لتعليمهم الإرهاب وتصديرهم إلينا وإلى غيرنا؟

كم مرة سيطبقون عليكم نفس الخدعة وتنطلي علبكم؟

سوّقوا أوري أفنيري الصهيوتي الشهم، صاتع المعجزات، لدرجة أن عرقات شيخ فلسطين تنازل له عن الميثاق الوطني الفلسطيني في بيروت وخرج من هناك إلى تونس.ثم صنعوا من شيوعي إسرائيلي سابق من غلمان إميل حبيبي،وعضو برلمان، وعميل بالفطرة، بطلا قوميا مضطهدا ليصدروه إليكم عبر الأردن فسوريا ويستقر في سيلية قطر يحرض على دمائكم؟ ثم عادوا على نفس الخدعة بشخص خالد مشعل وفي الأردن أيضا، ولدغوا قفاه بإبرة، ليصبح شهيدا مع وقف التنفيذ ويصدروه إلى سوريا تحديدا، ثم طرحوا بأردوغان في مسرحية مرمرة ليسوّقوه في أسواق مشاعتكم الهجرية، وعلى رأسها سوريا ليمهد لدوره في الربيع العربي. وانكشف الجميع دون أن تكفوا عن تجاهلكم. حتى أوباما كاد يصبح لديكم محلصا لمجرد أنه أسمر يجيد التلاعب. وعينت لكم السي آي أي مجمع كرادلة من عملائها وسمته المجلس الإسلامي الأعلى، فصدقتم أن الشيخ ” بطن العجل ” مسلم وعلامة ديني ويصلي متوضئا ولا يقرب الصلاة سكرانا ولا يزني إلا بالحلال، فقط لأن مذيعات الجزيرة شهدن بذلك. وخرج بن جدو من الجزيرة إلى جزيرته الخاصة فصدقتم أنه لم يتسبب في خسارة حزب الله وحلفائه في لبنان في اٌلانتخابات التي كان يغطيها هناك، وأنه تاب لله وللوطن،وكأنه بقيت ذنوب في الدنيا يمكن لمن عمل في الجزيرة يوما واحدا، ألا يتوب عنها.هذا…… ومثل هذا كثبر.

لقد استرسلت فيما لا نفع منه. فالتجاهل أخطر من الجهل لأن الجهل بابه مفتوح على المعرفة إن حصلت، أما التجاهل فهو إغلاق الباب بوجهها. والهجري جاهل ومتجاهل، إن لم يخرجه الخوف على دمه من غيبوبته، لم يوقظه شىء آخر. وحتى لو قامت القيامة، وأتي بالشيخ ” بطن العجل ” على ظهر بارجة إلى جهنم، فسيقولون هو ذاهب للفرجة على عبد الناصر.

والآن إلى المشهد الأعظم، المشهد الذي تتجاهلون فيه تجاهلكم. أخطر المشاهد التي تتسبب في موت الشعوب وطردها من التاريخ.

تركنا في فلسطين ما هو لنا، وحملنا معنا ما هو لهم. حملنا عملاءنا بمواريثهم الأسرية العريقة قي العمالة، وبنخبويتهم الفقهية والإجتماعية والقيادية ليتكفلوا بمهمة العودة والتحرير، فتسلم بعضهم قيادة فصائل المقاومة، وبعضهم قيادة العمل ” السياسي “، وبعد تقديم عدد لا يستهان به من كوادر النخب الشعبية النادرة بيننا شهداء، سلموا أنفسهم على جسر الملك حسين، وأصبحوا رؤساء ووزراء ومفاوضين واقتصاديين وطنيين، ثم تحولوا نحو المساهمة في تحرير سوريا. وتكفل مبعوثو شبكة الحزب الشيوعي الإسرائيلي بيننا بالتمهيد للسلام الفلسطيني الإسرائيلي وإنشاء فكر التطبيع. وتبعهم بعد 67 قادة التطبيع الثقافي بقيادة إميل حبيبي، فاستولد المشاعات الفلسطبنبة والهجرية، مثقفين مخضرمين بقرون، من أمثال الحكواتي اللاتيني نجيب محفوظ في مصر. وظل يتبع تلميذه الوجداني محمود درويش من مكان إلى مكان ومن مرحلة إلى مرحلة، ويخبره بعدم جدوى المقاومة وشعرها، وبالفرق بين الموت وجائزة نوبل، ثم اكتسح مع محظيات الأدب وغلمانه الساحة الفلسطينية بعنف إعجازي استولدها جيلا كاملا من الدجاج الثقافي البياض، الذي ما زال يقوقي على ذكراه.والتزمت الثقافة الغلسطينية العرفاتية إلزاما، بقائمة المقاومين بالراتب يقبضونه كبدل تعاقدي من ميزا نية الحزب، وراتبا آخر متضخما يقبضونه من دائرة الثقافة الإسرائيلئة كبدل مقاومة، التي قدمها له أميل حبيبي. وصدقتم أن إسرائيل ترسل إليكم شعراء المقاومة الفلسطينية لديها ليعبئوكم للمقاومة. وتجاهلتم ما كان يحدث لشعراء المقاومة الأحقيقيين رحمهم الله. على هذه الساحة من الدجاج المقوقي، ورث التلميذ معلمه، وبرزت ثقافة فلسطينية جديدة تستلهم الأساطير وتكفر بالتاريخ. وقرر التلميذ أن هناك اسطورتان تتحاربان على فلسطبن. وبما أن الأسطورة تلد الحب ولا تلد الأيدبولوجيا، فعلينا أن نطبع داخل الحب، ونقاوم خارج التاريخ. وبما أن الآخر كان يوظف الأساطير في خلق هويته التاريخية، ويحولها إلى مشروع هوية وطني تاريخي، ونحن، على العكس، نوظف تاريخنا في تكوين اسطورة نقاوم بها، كانت النتيجة أنهم ملكوا الأسطورة والتاريخ معا، وخرجنا من المواجهة ب ” أسطولة ” وبدون تاريخ. وجلسنا خارج التاريخ ننتظر ما تأتي به ” الأسطولة “. وأصبح لنا ” أسطولتان “، واحدة عن اليمين جاء بها الفقه الإسماعيلي، وأسطولة أخرى عن اليسار جاء بها الفقه الثقافي الآركيولوجي. ولم يذهب انتظارنا عبثا، فقد أثمر انتظارنا سريعا ومريعا. أمطرتنا السماء دما وجاءنا الربيع العربي الذي لا ربيع لنا بعده. كان أستكمال الغيبوبة، واستبدال الأسطورة بالتاريخ هناك، والتاريخ بالأسطولة هنا، هو ما انتظره مشروع التصفية التاريخي المكون منا ومن الصهيونية والغرب. وإذا شئتم من سادتكم الإخوان وكنيستهم الفقهية، ومن سادتهم الصهيونية وأمريكا. وخسرتم ثقافة الهوية التاريخية، حاضنة الشعوب والأوطان، متجاهلين ان قضية بدون هوية، وبدون شخصبة محددة، وبدون ميثاق وبوجدان ثقافي تطبيعي لا يمكن أن تولد أو تعيش إلا في رؤوسكم الهجرية، لأنكم تستطيعون تجاهل التجاهل، وإدخال الغيبوبة في الغيبوبة.

لم يضع وطن في التاريخ بالطريقة التي أضعتم بها فلسطين. كانت هذه القطعة المنكوبة من الأرض مسرحا للفصل الأول لأبشع عروض السحر والعبث والتقدمة اليشرية في التاريخ. كيف يمكن أن نقول أقل من هذا ونظل صادقين؟ لم يكن هناك نص مألوف في المعرفة، فالتداخل بين ما هو واقعي وما هو مستحيل عقلي كان محيرا. وكان المشهدي والكواليسي لهما حضور بنيوي واحد على الحركة، بحيث يكونان نصا موحدا في الإحساس فقط. الحقيقيون الدائمون هم المسرح والممثلون والنظارة، ولكن الجميع كانوا مأخوذينوغارقين في تواهة النص إلى ما فوق رؤوسهم. وقرب النهاية كان كل شيء قد فقد واقعيته وأصبح شبحا خارج التحديد. وفي لحظة خارج التوقع سقطت الظلمة وارتفعت أصوات الممثلين ووقع الحركات بزخم مزعج. ولكن كما انتفض كل شيء فجأة خمد فجأة. وفي لحظة أيضا خارج التوقع انبثق الضوء على اللاشيء. لم يكن هناك مسرح ولا ممثلون. اختفى المسرح واختفى الممثلون. لم يكن في الموقع سوى من أظنه الساحر أو المخرج أو كليهما، وقد مد ذراعيه وكأنه يعتذر أو يرحب ويقول : “لم يكن هناك مسرح أو ممثلون كما ترون. لم يكن هناك بلد اسمها كذا أو مذا. ليس هناك تاريخ يروي أي شيء يتعلق بالمسرحية والخشبة والعرض والممثلين. كل شيء حدث كان في أذهانكم فقط. آمل أن عرضنا السحري قد أعجبكم، وأن مسرح ” الأسطولة ” التوهمي سيكتسح كل ثقافات العالم. لقد استطعنا أن ندمر ضرورة الوعي في الحركة إلى الأبد. سنصنع للناس الوعي الذي يجعلهم سعداء دون أن يفقدوا واقعهم الذي عاشوا ويعيشون فيه. لم يكن هناك شيء من النص كما نرون. فلسطين لم توجد أبدا إلا في الأسطورة. والفلسطينيون يسكنون فيها. لقد استطعنا مسرحيا أن نصنع وعيا جديدا دون أن نغير الواقع أو التاريخ على الأرض، ما كان موجودا ظل موجودا، وما كان وهما ظل وهما. ظلت أرض إسرائيل وكنتم عليها طيلة الوقت وتلاشى الوهم بأنكم كنتم على غيرها إلى الأبد. وظل التاريخ يواصل حياته بدون توقف. “

 هذا موجود بتوقيعكم عليه. كنتم تعرفون. لذلك خرجتم منها طوعا. فلا تقولوا هزمونا. لم يكن هناك سوى المسرحية الوهمية، والعرض السحري. ومع ذلك فيبدو أن بعضكم قد فقد عقله بعد غيبوبة العرض السحري، فوقف يصرخ أن فلسطين هي قضية العرب الأولى.

يمكنكم أن تسموها قضية إذا شئتم، فكل إشكال هو قضية. ولكن كل إشكال له طرفان على الأقل. فماذا كان دوركم في هذا الإشكال حتى تسموه قضية العرب الأولى؟ كنتم الممثلين الذين اختقوا مع المسرح بعد أن أدوا دورهم في الأسطولة. كنتم جزءا من ضياع من سيناريو الأسطولة الذي وضعه الساحر المخرج. كما في الأسطولة تماما كان لكم دور واحد هو أداء الكيفية التي ضاعت بها فلسطين الوهمية.

 الخائف هرب، والعميل قبض، والحاكم أثبت ولاءه ليحمي عرشه. حتى الآن أعرف أربعة عروش عربية عريقة قامت الصهيوتية بتأسيسها ورعايتها. وعدا عن ذلك فإن إلصهيوتيةشاركت قي تأسيس ورعاية ” دول ” الخليج المساهمة التي أصبحت محميات إسرائيلية مباشرة. فهل يقول فجار المشروع الصهيومريكي من الهجريين أن فلسطين هي قضية العربالأولى، إلا ليوفروا لأولئك “العرب ” سبل الإستفادة من هذه الأكذوية كما استفاد منها أباؤهم، وليصبح تهافتهم المثير للقرف وتواقيعهم، رصيدا للأسطورة ضد التاريخ في فلسطين.هل تريدون موتا لفلسطين أكبر من أن يتحدث باسمها من يقعلون ذلك اليوم، او الذين سبقوهم ممن كانوا لا يزالون أكثر احتشاما؟ كان الشعار الوطني لعرفات أنه سيصلي في الأقصى. فهل كان هذا شعارا ارتجاليا أم تنازلا مرعبا. أليس هو الشعار الذي أفتتحت به الموافقة على التهويد فلسطينيا. ما الفرق وطنيا بين الأقصى والناصرة مثلا؟ وبعد عرفات جاء من أكمل مسيرته التديينية، حتى أصبح من المؤكد أن الحل الأردني الفلسطيني سيأخذ في اعتباره قدسية الأقصى لدى اليهود والمسلمين على حد سواء. وستكون المشكلة أن حاخامات يهودا سيرفضون هذه القداسة المزدوجة على أرض إسرائيل، ويتوقع أن يتمرد كهنة يهوة على كهنة البعل ويبيدونهم، ثم يعلنون استقلالهم عن إسرائيل في منطقة بهودا، ولن يستطيع المسلمون في هذه الحالة، المطالبة بحقوقهم الدينية هناك، لأن اتفاق الحل معقود مع إسرائيل، وليس مع يهودا. ولكن لندع هذا لمجلس الأمن والوسيط الدولي قي حينه وبعض المناوشات الطائفية، بين كهنة الهيكل وكهنة الأقصى.

والآن أنتم صفر دولي سياسيا واجتماعيا ودينيا وإنسانيا. فمن تتهمون بذلك؟ كان لكم قبل أن جاءوا، بعد أن اغتالت لهم أمريكا عبد الناصر، قوام بشري مقبول، فيه ضعف وفيه قوة، وفيه شهامة موروثة وكرامة، وفيه مواريث نكهة إنسانية تربيتم عليها وبقي لكم منها شيء، وكانت لكم أيام صعود لو استطعتم حمايتها منهم لكنتم اليوم تعيشون في حمى أنفسكمودولتكم. وحينما قتلوا ذلك الرجل النبوي، والفارس المعجزة كانوا يقصدون قتلكم أنتم. وفعلوا.

أنتم اليوم أعضاء في كرنفال الهوان العالمي. لم يبق لون من الوان الذل لم يلحقوه بكم مبدعين فيه. معظمنا استبدل وجدانه طوعا للإنتفاع أو مرغما ليداري المرحلة. أصبح الواقع الإجتماعي والأخلاقي والقيمي في مجتمعاتنا يبعث على الرعب. جربوا علينا كل ما تدربوا عليه في الغرب من أوبئة الخسة والعدمية والعمالة والتنكيل بالأخلاق والإستهانة بالكرامة. ألم تلاحظوا أن كل هذا جاء معهم حذو النعل بالنعل والحافر بالحافر؟ ألم يلفت ذلك نظركم؟ كلا. لأنكم كنتم قد قررتم التجاهل.

إذن لم هذا الكلام المطول الذي ارهق به نفسي، ما دام كل شيء قد انتهى؟ إنه في الحقيقة لون من البكاء لا أكثر. لم أقصد أن أشجب أحدا، ولا يهمني إن قرأ أحدا هذا الهذر الرثائي أم لا. ولكنني مجبر على الكتابة لأنني مجبر على البكاء. وهذا أمر شخصي. ولا أحب أن يشاركني فيه أحد. كنت أستطيع ألا أنشر المقال خاصة وأنه لا جدوى منه، ولن يفيد معنى من أي نوع على ضوء الحاضر. ولكنه آخر مقال سياسي أكتبه من ناحية، وهناك بعض من أريد البكاء في حضرتهم ليعتذروا عن هذا المقال نياية عني إذا حدثت المعجزة، وانتصرت سوريا والشعب السوري، وسقطت كنيسة الفقه الإستشراقية. أذكر الآن من هذا البعض : د. عادل سمارة، و د. مسعد عربيد، والعزبز فوزي البكري، والسيدة رحاء زعبي. وأسماء قرأت لها أشجانها العربية ولكن لم يسعفني الحظ بمعرفتها لأتطفل عليها كما تطفلت على أصدقاء المسيرة الحزينة وفرسانها.

بقي الإعتذار عن المقال. لأنني أود رغم كل شيء لو أنني لم أكتبه. ولا أدري لماذا. ربما لأنه أطول مما يطاق، وأقصر مما تستوجب المرثبة. ولأن فيه ثغرات لو سدت كما يجب، لأصبح كتابا بحجم قاموس اللغة الصينية.